الأيقونة دلال المغربي

الحرب الأهلية كانت على أشدها عندما وصلتها أواخر شهر آب/اغسطس عام 1976 وكان جرح سقوط مخيم تل الزعتر ما زال نديا.

كان علي أن أتأقلم في بيروت مع انقطاع التيار الكهربائي وصوت الرصاص والقذائف والانفجارات الذي لم يكن لينقطع ليلا أو نهارا.

الأيام الأولى كانت اقامتي في حي الرملة البيضاء الراقي في غرب بيروت. الشقة التي سكنتها كانت في الدور الثالث وكانت كل محتوياتها قد نهبت. الشيء الوحيد الذي لم يستهو اللصوص كانت المكتبة التي تم العبث بها  وتدل على أنها تعود لأحد الأساتذة في الجامعة الأمريكية لأن الكتب كلها كانت باللغة الانجليزية. أعدت ترتيب المكتبة ومنعت أيا من الاقتراب منها.

كل من جاء معي من العراق تم فرزهم وتوزيعهم على مواقع مختلفة ؛ أما أنا فقد الحقت بجريد “الصمود” الناطقة باسم جبهة الرفض ضد علاقة السادات مع الكيان الصهيوني. مقر الجريدة كان في شارع أبو سهل الذي ينتصف المسافة بين منطقة الفاكهاني ومخيم شاتيلا وشارع صبرا وفي طابقها الأعلى كان مقر اقامتي الجديد.

أول من تعاملت معهم كان الصحافي فيصل زكي ونبيل أبو جعفر وآخرين.

أعترف أنني  كنت ساذجا جدا في تلك الفترة لأن كل شيء كان جديدا بالنسبة لي.

 بين الفترة والأخرى كانت تقع اشتباكات بين بعض الفصائل الفلسطينية وبالتحديد بين مخيم شاتيلا والفاكهاني وهو ما كان يستفزني فكنت احاول وقف تلك الاشتباكات بأي شكل من الأشكال ايمانا بأن “دم الفلسطيني على الفلسطيني حرام” الى أن جاءني من لاحظ حشريتي وما كنت أحاول القيام به ودار بيننا الحوار التالي الذي ما زلت أتذكر تفاصيله: الأخ أو الرفيق قادم من ساحة خارجية؟ قلت نعم. هل تريد وقف الاشتباك؟ نعم. رأسمالك يا صاحبي رصاصة لم يدفع ثمنها أي من الطرفين المتقاتلين. هل قاموا بتصويرك؟ نعم. هذه من أجل الأفيش الذي سيكتب عليه الشهيد البطل… ويلصق على الجدران لمدة نصف ساعة فقط لأن شهيدا آخر سيسقط بعدك ولا مكان لأفيشه سوى فوق أفيشك. وختم حواره بالقول: الاشتباك سيتوقف بعد قليل لأن كل الكبار (قادة الفصائل) موجودون في الفاكهاني وشوية بوس لحى فيما بينهم ورحم الله كل من سقط.

كان هذا أول درس حقيقي في فهم منطق غابة السلاح في أيدي الجميع.

لم أكن أحب الجلوس في المكاتب وكنت أحب القيام بلقاء المقاتلين في مواقعهم وكثيرا ما أمضيت وقتا في منطقة الجبل في قبر شمون وعالي خصوصا أني منحت سيارة وبها جهاز ارسال (لاسلكي) موصول مع مقر القيادة المشتركة وبواسطتها قمت بزيارة للكتيبة الطلابية في قمة جبل صنين رفقة مصور سوداني يدعى أبو النجومي. بعد صعود مضن لعدة ساعات خلف بغلين (صابر وصابرية) كانا ينقلان الطعام والشراب للمقاتلين (قتلا أثناء الاجتياح الاسرائيلي عام 82 وجرت لهما عملية دفن كتلك التي تتم للشهداء).

في تك الزيارة كانت أول مواجهة لي مع الموت المحقق. فبعد فرح المقاتلين بزيارتنا لهم وقفت مستندا لأكياس الرمل التي تحمي موقعهم؛ فجأة قام أحد المقاتلين بطرحي أرضا بعنف في الوقت الذي اخترقت فيه صلية رشاش المكان حيث كنت أقف ومصدرها  قوة الكتائب الانعزالية عند القمة المقابلة.

في شارع أبو سهل كان هناك دكان صغير يملكه رجل تبدو عليه الوسامة والطيبة ولاجيء من مدينة يافا وكان بيته ملاصق لدكانه. كنت أتردد عليه لابتياع السجائر منه؛ وبعد فترة وجيزة زادت الألفة فيما بيننا لدرجة أنه بدأ يدعوني لتناول الطعام مع أسرته وأحيانا كانت زوجته اللبنانية أم محمد ترسل لي الطعام مع واحدة من بناتها.

احدى بناتها كانت أيقونة فلسطين الشهيدة دلال المغربي التي قامت بأكبر وأجرأ عملية فدائية في آذار / مارس عام 78  وقتل فيها 36 جنديا اسرائيليا.

عندما جرت تلك العملية كنت قد غادرت بيروت الى باريس بعد أن تعرضت لمحاولة قتل في منطقة الأسواق التجارية ومحاولة خطف أخرى من قبل سرايا الدفاع السورية التي كان يقودها رفعت الأسد عند حاجز بير حسن.

الحقيقة أنني عندما عرفت أن دلال من قادت تلك العملية لم أصدق ذلك لأنها كانت الأهدأ والأكثر رصانة بين كل أشقائها وقد كتبت مقالا في جريدة القدس العربي تحت عنوان ” دلال كما عرفتها”.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *