الأمم المتحدة والتعامل مع حرب الإبادة في غزة: فشل وانحياز
فشل مجلس الأمن الدولي في أسبوع واحد مرتين في اعتماد قرار وقف الهجوم على غزة. في المرة الأولى وزعت روسيا مشروع قرار مدعوم من المجموعة العربية والصين يطالب بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، ويدين استهداف المدنيين من كل الأطراف. اصطفت أمريكا وبريطانيا وفرنسا ومعهم اليابان ضد مشروع القرار لأنه، كما قالت المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، توماس غرينفيلد، «لم يدن حـركة حماس بالاسم» كما أنها اعترضت على إدخال طلب «وقف إطلاق النار».
بعد يومين فقط طرحت البرازيل مشروع قرار وأخذت بعين الاعتبار الشروط الأمريكية، فدخل في النص البرازيلي إدانة صريحة وواضحة لحركة حماس وما قامت به يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وتغير مصطلح «وقف إطلاق النار» إلى «هدنة إنسانية» وقدم المشروع للتصويت بعد رفض تعديلات روسية على النص، ومع هذا قامت السفيرة الأمريكية باستخدام حق النقض «الفيتو» وأطاحت بمشروع القرار. إذن عجز مجلس الأمن، الجهاز الأهم في المنظومة الدولية، والمكلف بموضوع الأمن والسلم الدوليين، من القيام بالتزاماته التي ينص عليها الميثاق بسبب موقف دولة واحدة تشكل مظلة حماية للكيان الصهيوني وتريد أن تعطيه فرصة أطول للانتقام والثأر وتدمير قطاع غزة على من فيه الصغير قبل الكبير. الوفد الفلسطيني في الأمم المتحدة، مدعوما بالمجموعة العربية، قرر أن يأخذ المسألة إلى الجمعية العامة لاستصدار قرار، قد ينجح بأغلبية بسيطة، لكن قرارات الجمعية العامة أقرب إلى التوصيات وهي غير ملزمة. وحتى تلتئم الجمعية العامة وتأخذ قرارا غير ملزم ستسيل دماء فلسطينية غزيرة في غزة والضفة الغربية دون رادع من أحد إلا عزيمة الشعب الفلسطيني وإيمانه بقضيته العادلة.
بيانات المسؤولين الأمميين
لكن ماذا عن مواقف المسؤولين الكبار في المنظومة الدولية؟ لقد أحسست وأنا أتابع ما صدر عن الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه لعملية السلام، تور وينيسلاند، ورئيس الجمعية العامة في دورتها الحالية، دينيس فرانسيس، وكبار المسؤولين ورؤساء المنظمات الدولية أنهم يكررون مواقف متشابهة وكأن هناك تعليمات مشددة صدرت من الولايات المتحدة لكبار المسؤولين الدوليين وأملت عليهم حرفيا مواقفها وطلبت منهم أن يكرروا هذه المواقف جزئيا أو كليا في بياناتهم. وكي نتبين هذه الحقيقة نلخص هنا المواقف الأمريكية من أحداث غزة ابتداء وتتمحور حول خمس نقاط أساسية:
– ضرورة إدانة حركة حماس بالاسم واعتبار ما قامت به عملا إرهابيا غير مبرر؛
– التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس؛
– عدم ربط ما حدث يوم 7 أكتوبر بالوضع العام في غزة أو في فلسطين، لا ذكر للحصار ولا الاحتلال؛
– عدم المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار أو حتى هدنة إنسانية؛
– وأخيرا المطالبة بإطلاق الرهائن دون قيد أو شرط.
وسأتتبع بعض المواقف لكبار المسؤولين وأولهم أنطونيو غوتيريش.
الأمين العام للأمم المتحدة لم يذكر في بياناته المتتالية وقف إطلاق النار إلا بعد مجزرة المستشفى المعمداني يوم الثلاثاء. وهو اليوم الحادي عشر للمجازر الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
فمنذ اللحظة الأولى للهجوم الذي نفذته المقاومة الفلسطينية صباح السابع من أكتوبر، لم يتوان الأمين العام في إصدار بيان شديد اللهجة وتبعه أربعة بيانات متتالية: وصف العملية بالإرهاب، وأدانها بأقسى العبارات، وطالب بإطلاق سراح الرهائن، وذكر حق إسرائيل بالدفاع عن النفس. جاء في بيانه الأول: «هذه الأعمال من الإرهاب والقتل والتشويه واختطاف المدنيين غير مبررة»، وأقر في بيانه بالمخاوف الأمنية الإسرائيلية المشروعة، ولكنه ذكر إسرائيل بأن العمليات العسكرية يجب أن تتم بالامتثال الصارم للقانون الإنساني الدولي. وفي بيان آخر جاء إلى قاعة المؤتمرات الصحافية وقرأ بيانا من نقطتين فقط وكأن البيان كتب له وطلب منه أن يقرأه فقط. والبيان يدين حماس ويصف العملية بأنها إرهابية ثم يطالب بإطلاق الرهائن دون قيد أو شرط، وخرج من القاعة دون أن يأخذ أي سؤال. وبعد أن تبين أن المجازر فاقت كل تصور وبدأت أعداد الضحايا من المدنيين تصل إلى الآلاف، بدأ يتحدث هو والمسؤولون عن الاحتياجات الإنسانية وضرورة فتح المعبر وبدأ صوت المنظمات الإنسانية يقدم تفاصيل الاحتياجات وخاصة مكتب منسق الشؤون الإنسانية والأونروا.
قام الأمين العام بعد ضغط شديد بسبب المجازر بزيارة لمصر للضغط باتجاه فتح المعبر. وعقد مؤتمرا صحافيا مع وزير الخارجية سامح شكري ولم ينسَ أن يحمل حركة حماس مسؤولية مطلقة لتسلسل الأحداث دون إشارة إلى الخلفية التي وضع فيها الشعب الفلسطيني كله. وقف على الجانب المصري من المعبر مطالبا بفتح الجانب الفلسطيني لإيصال المساعدات المكدسة في مطار العريش.
وقف العمليات العسكرية
مفوض حقوق الإنسان فولكر تورك أصدر بيانين حول أحداث غزة. وكان بيانه الأول متوازنا، وهو الوحيد الذي دعا لوقف العمليات العسكرية منذ البداية. وجاء في بيانه: «يجب على جميع الأطراف أن توقف فوراً الهجمات التي تستهدف المدنيين والهجمات التي من المتوقع أن تتسبب في مقتل وإصابة المدنيين بشكل غير متناسب أو إلحاق أضرار بالمعالم المدنية. فرض الحصار الذي يعرض حياة المدنيين للخطر من خلال حرمانهم من السلع الأساسية لبقائهم محظور بموجب القانون الإنساني الدولي». وطالب الجماعات الفلسطينية المسلحة بإطلاق سراح جميع المدنيين فورا، بدون قيد أو شرط، مذكرا بأن أخذ الرهائن محظور بموجب القانون الدولي.
وفي بيان ثانٍ عاد ووضع اللوم على حماس وأدان ما قامت به. يبدو أنه قد تسلم إحدى الرسائل التقريعية. ثم أصدر بيانا ثالثا حول مجزرة مستشفى المعمداني قائلا «إنه أمر غير مقبول أبدا» وطالب بمحاسبة المسؤولين عن المجزرة. لكنه تجنب الإدانة القوية والصريحة.
الشجاعة التي تحلت بها فرانشيسكا ألبانيز، مقررة حقوق الإنسان المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان في الأرض المحتلة منذ عام 1967 نادرة، ولذلك يحاول الأمريكيون أن يطيحوا بها. لقد تذكرت في بيانها ما حصل للفلسطينيين عام 1948 قائلة: «هناك خطر جسيم بأن ما نشهده قد يكون تكرارا للنكبة عام 1948 والنكسة عام 1967، ولكن على نطاق أوسع. يتعين على المجتمع الدولي فعل كل شيء لمنع حدوث ذلك مرة أخرى». وقالت في بيانها إن مسؤولين إسرائيليين «دعوا علنا إلى نكبة أخرى، وهي التي أسفرت بين عامي 1947 و1949 عن طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم أثناء الأعمال العدائية التي أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل». وقالت المقررة الدولية «إن إسرائيل قامت بالفعل بالتطهير العرقي الجماعي للفلسطينيين تحت ضباب الحرب. ومرة أخرى باسم الدفاع عن النفس، تسعى لتبرير ما قد يصل إلى التطهير العرقي».
البيان الأسوأ الذي صدر عن مسؤولة أممية هي الكينية أليس وريمو نديريتو، المستشارة الخاصة لجريمة الإبادة البشرية. وإذا قرأت البيان وليس لديك أي خلفية تظن أن الفلسطينيين يشنون حرب إبادة بشرية على الدولة المسكينة المسالمة إسرائيل. وجاء في بيانها «تدين المستشارة الخاصة بأشد العبارات الأعمال الإرهابية المتعددة والمنسقة التي وقعت صباح السبت الماضي والهجمات التي شنتها حركة حماس التي تستهدف بشكل واضح المدنيين في الأراضي الإسرائيلية، وتعرب عن تعازيها لعائلات جميع الضحايا. كما تدين أخذ رهائن إسرائيليين من قبل حماس. وتشعر المستشارة الخاصة بقلق خاص إزاء استمرار حماس في إطلاق الصواريخ بشكل عشوائي داخل الأراضي الإسرائيلية، وإزاء الخسائر في أرواح المدنيين نتيجة القصف الإسرائيلي لقطاع غزة». ولاحظ الجملة اليتيمة التي ألحقتها بعد كل تلك التفاصيل في إدانتها للجانب الفلسطيني حيث تشعر بالقلق إزاء الخسائر في الجانب الفلسطيني. مارتن غريفيث، وهو منسق الشؤون الإنسانية، الذي من المفترض ألا يدخل في السياسة، بدأ بيانه مؤكدا أولا أنه يدين ما قامت به حماس ثم انتقل إلى موضوع الرهائن قائلا: «أود أن أؤكد أولا أن أخذ الرهائن من إسرائيل- والكثيرون منهم أطفال ونساء وكبار في السن ومرضى- غير مقبول وغير قانوني». واعتراضه كان على طلب ترحيل سكان شمال غزة إلى جنوبها قائلا: «لا يمكن أن تطلب من الناس الابتعاد عن طريق الخطر بدون مساعدتهم على ذلك وعلى أن يذهبوا إلى مكان يختارونه تتوفر به المساعدة الإنسانية التي يحتاجونها». ثم قرر أن يذهب إلى مصر للمساهمة في جهود جمع المواد الإنسانية الضرورية والعمل على إيصالها للمحاصرين.
هذه عينة فقط من بيانات كثيرة صدرت عن الأمم المتحدة ومسؤوليها الكبار. ولم يشذ عن الخط المرسوم لهم إلا فرانشيسكا ألبانيز.
لقد أحست الولايات المتحدة أن هناك تفلتا كبيرا من الدول الأعضاء حول تحليل ما جرى وربطه بالماضي وما جرى للفلسطينيين من تشرد وضياع وحروب على مدى 75 عاما. لكن العصا الأمريكية الغليظة كانت لهم بالمرصاد.
عن القدس العربي