
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة في تاريخها قرارا يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 يطلب من لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف بالتعاون مع بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة بإحياء ذكرى النكبة الخامسة والسبعين في جلسة خاصة يوم 15 أيار/مايو. وهو ما تم فعلا.
لقد وضعت البعثة الإسرائيلية وبالتعاون مع بعثة الولايات المتحدة ضغوطا هائلة كي تمنع صدور القرار حتى لا يتذكر العالم ما جرى للشعب الفلسطيني من مآس عام 1948. ولذلك لم يحصل القرار إلا على 90 صوتًا إيجابيا، بينما صوتت ضده 30 دولة، من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة المتحدة وألمانيا وكندا والسويد وإيطاليا واليونان وهولندا وسويسرا وهنغاريا والدنمارك وألبانيا والبرازيل (في عهد بولسونارو) إضافة إلى عدد من دول أوروبا الشرقية وثلة من دول أمريكا اللاتينية وحفنة من الدول الجزرية الصغيرة. وصوتت 47 دولة بـ «امتناع» معظمها من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا. وقد تغيب عن التصويت 26 دولة. في المحصلة هناك 103 دول لم تدعم القرار وهو عدد كبير يثير القلق حول تآكل ما كان يسمى الإجماع الدولي أو الغالبية الساحقة من المجتمع الدولي.
تضمن يوم إحياء الذكرى الخامسة والسبعين شقا سياسيا للاستماع إلى كلمات التضامن من المجموعات الأقليمية بعد كلمة ممثلة الأمين العام روز ماري ديكارلو، تبعتها كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس التي استمرت 57 دقيقة راجع فيها تفاصيل كثيرة حول النكبة والمذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين وعجز الأمم المتحدة عن تنفيذ أي من قراراتها التي وصل تعدادها لألف قرار بسبب الموقفين البريطاني والأمريكي اللذين يشكلان مظلة حماية تستطيع إسرائيل من خلالها أن تتهرب من المسؤولية.
ولكن الأهم من الخطابات المكررة حول حل الدولتين كانت الأمسية الثقافية في قاعة الجمعية العامة رائعة بكل المقاييس. فقد تضمنت مجموعة من الوثائق حول النكبة وعمليات التطهير العرقي وشهادات حية من الضحايا ومقاطع من أفلام وثائقية من بينها الفيلم الوثائقي عن مذبحة الطنطورة. وتضمنت المقاطع قصائد منتقاة للشاعر محمود درويش وأهمها «سيدة الأرض».
لقد عرضت المقاطع صورا وفيديو عن الاقتلاع والتهجير والمذابح على أنغام الأوركسترا العربية بقيادة المايسترو الفلسطيني يعقوب الأطرش، وتضمنت أربع مقطوعات توضح الحياة قبل وأثناء وبعد النكبة. بدأت الأوركسترا الحركة الأولى بقطعة هادئة انعكست على الحياة السلمية قبل النكبة. بالانتقال إلى الحركة الثانية، تغيرت الإضاءة إلى اللون الأحمر وعزفت الأوركسترا مقطوعة حادة وفوضوية تمثل الارتباك والخوف اللذين شعر بهما الشعب الفلسطيني خلال النكبة. ثم تغيرت الأضواء إلى اللون الأزرق للحركة الثالثة التي تباطأت بقطعة كئيبة للغاية أثارت مشاعر الضياع والحزن. أما الحركة الأخيرة فظهرت كأن الشمس تشرق بأضواء صفراء ساطعة تضيء الأوركسترا. الحركة الرابعة تجعلك تشعر بالأمل والارتياح مع صور لفلسطينيين معاصرين حققوا إنجازات كبرى في كل الميادين وما زالوا متمسكين بتراثهم. إنه المستقبل القادم لا محالة للشعب الفلسطيني على الرغم من الصعوبات. وأنهت المغنية الفلسطينية التراثية سناء موسى الأمسية بنشيد موطني أثارت فيها حماس الحضور الذين وقفوا طويلا مصفقين.
لماذا تأخر الاعتراف بالنكبة؟
من المفيد أن نذكر بأن الأمم المتحدة لا تأخذ قرارات بذاتها. الأمم المتحدة عبارة عن آلية تستخدمها الدول. إنها المسرح الذي يلعب على خشبته الممثلون. الدول هي التي تطرح مشاريع القرارات وتعرضها للتصويت سواء في الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو مجلس حقوق الإنسان. لا يوجد شيء يخول الأمين العام اتخاذ قرارات بطرد اعضاء أو ضم أعضاء جدد. لا يستطيع الأمين العام أن يقرر إحياء مناسبة ما أو إغفال أخرى، هذه مسؤولية الدول بامتياز.
لقد واكبت قرارات الأمم المتحدة وضع العرب ضعفا وقوة، حضورا وغيابا، فاعلية وجمودا. ففي غياب العرب أيام النكبة مرر الغرب الاستعماري قرار التقسيم الظالم وغير الشرعي. لقد شاهدوا تشريد ثلثي الشعب الفلسطيني من ديارهم ومدنهم وأراضيهم دون أن يعطوا لذلك أي اهتمام سوى إنشاء وكالة لتقديم المساعدات الإنسانية «أونروا» وجعلوا ميزانيتها تعتمد على التبرعات وليست جزءا من الميزانية الأساسية للأمم المتحدة. ثم أقفلوا بعد ذلك كل القرارات المتعلقة بالقدس والواردة في قرار التقسيم وحلوا لجنة الوفاق وأغلقوا الملف كله وحولوه إلى ملف إنساني يناقش في اللجنة الرابعة (اللجنة السياسية الخاصة) وظل غائبا إلى أن عاد بند فلسطين بقوة بعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية ونهوض العمل الوطني الفلسطيني المسلح بعد حرب عام 1967.
لكن التغير الكبير في موازين القوى جاء بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. لقد تبلور موقف عربي موحد وقوي حاز على احترام العالم وقطعت العديد من الدول، وخاصة في أفريقيا، علاقاتها مع إسرائيل. في الأمم المتحدة تشكلت مجموعة عربية قوية وموحدة وفاعلة بقيادة جزائرية مصرية كويتية سورية. انتخب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمعية العامة عام 1974 واستطاعت أن تفرض موقفا غير مسبوق بقبول منظمة التحرير عضوا مراقبا في الأمم المتحدة وأن يلقي رئيسها ياسر عرفات خطابا أمام الجمعية العامة. فرضت المجموعة العربية إضافة اللغة العربية لغة رسمية سادسة إلى اللغات الخمس الأخرى. كما تم اعتماد مجموعة قرارات تاريخية أهمها القرار 3379 الذي اعتمد في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 والذي صنف الصهيونية كحركة عنصرية وشكلا من أشكال التمييز العنصري.
في هذه الفترة الذهبية اعتمد العديد من القرارات من الجمعية العامة ومجلس الأمن تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف وبعدم قبول أي تغييرات في القدس بعد إعلان إسرائيل ضم القدس رسميا عام 1980. اعتمد مجلس الأمن ردا على القرار الإسرائيلي قرارين مهمين هما قرار 476 (1980) الذي أكد مجددا أن «جميع الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل والرامية إلى تغيير معالم المدينة ليس لها أي سند قانوني وتشكل خرقا فاضحا لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين» والقرار 478 (1980) الذي شجب سن القانون الأساسي الإسرائيلي الذي أعلن ضم القدس الموحدة إلى إسرائيل واعتبره انتهاكا للقانون الدولي وطالب من جميع الدول عدم الاعتراف به وطالب الدول التي لديها سفارات بالقدس إلى نقلها خارج المدينة.
في هذه الفترة استطاعت المجموعة العربية الموحدة أن تأخذ قرارا بإنشاء قسم خاص بحقوق الشعب الفلسطيني في دائرة الشؤون السياسية وأقرت الجمعية العامة كذلك إنشاء وحدة إعلام حول القضية الفلسطينية تستقبل سنويا عشرة صحافيين فلسطينيين لتدريبهم لمدة ثمانية أسابيع في نيويورك، وتعقد مؤتمرا سنويا للتعريف والتثقيف حول القضية الفلسطينية كما أقرت عام 1977 أن تحتفل سنويا بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وقد أنشا مجلس حقوق الإنسان من مقره في جنيف منصب «المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينة المحتلة».
تكريس النكبة
ولكن بعدما تفرق العرب وذهبت ريحهم لم يستطيعوا حتى المحافظة على القرارات التي اعتمدت خاصة قرار الصهيونية الذي تم إلغاؤه رسميا عام 1991. تكرست النكبة الفلسطينية بعد انكسار الإجماع العربي، وانهيار التضامن مع القضية الفلسطينية. بدأ الانحدار بعد اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني مرورا باتفاقيات أوسلو واتفاقية وادي عربة وصولا إلى اتفاقيات إبراهام والتطبيع الصهيوني مع أربع دول عربية. انتشرت النزاعات الداخلية والطائفية وتعرض العرب لحروب عديدة في العراق ولبنان واليمن والصومال وسوريا وليبيا. تعرضت الضفة الغربية لاجتياح شامل عام 2002 كما تعرض قطاع غزة لخمس حروب منذ انسحاب الكيان منه عام 2005 كان آخرها قبل أيام. التحولات الدولية والفرقة العربية والانقسامات الفلسطينية كلها ساهمت في تكريس النكبة. الانقضاض المتواصل من قبل محور الشر على هبات الربيع العربي ساهم في تكريس الدكتاتورية المقيتة التي كرست الفرقة والاعتماد على الأجنبي والتقارب من الكيان الصهيوني.
متابعة القرار الأممي
من المفيد أن تعتمد الأمم المتحدة قرارا يحي الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة. صحيح جاء متأخرا لكن أفضل من ألا يعتمد. إنها خطوة في الطريق الصحيح. لكنها يجب ألا تكون خطوة يتيمة مقطوعة عمّا قبلها وغير متصلة بما بعدها. فالنكـبة متواصلة منذ 75 عاما. ولا يبدو أنها ستغلق صفحاتها في القريب العاجل. لذلك أود أن أقترح مجموعة خطوات لاحقة مهمة وبسيطة وقابلة للتنفيذ:
أولا- أن تعتمد الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي هذا اليوم «اليوم العالمي للتذكير بالنكبة الفلسطينية» بحيث تقوم الدول الأعضاء بمجموعة من الأنشطة في عواصمها والجامعات وعلى مستوى البرلمانات لإحياء الذكرى وتكريسها في المخيال الجمعي للشعوب وخاصة في المدارس والجامعات.
ثانيا- أن تتابع المجموعة العربية في الأمم المتحدة وبدعم من ممثلي منظمة التعاون الإسلامي ومجموعة دول عدم الانحياز للتوجه مرة ثانية للجمعية العامة لاعتماد قرار يثبت هذا التاريخ تحت اسم «اليوم العالمي لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية» وحشد الجهود بكل الطرق الصحيحة لزيادة عدد المؤيدين للقرار عن طريق فتح حوارات مع الدول التي تغيبت عن الاجتماع أو صوتت بـ«امتناع».
ثالثا- أن تتوجه المجموعة العربية في الأمم المتحدة مع أصدقائها وحلفائها لاستصدار قرار جديد يجرم كل من ينكر النكبة الفلسطينية، على طريقة القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة بتجريم إنكار المحرقة اليهودية (الهولوكوست) أو التقليل منها أو إنكار عدد الضحايا. يجب أن يتم تثبيت جريمة النكبة كواحدة من أهم جرائم العصر الحديث التي لا يجوز إنكارها أو التخفيف من بشاعتها.
هذه الخطوات البسيطة والقابلة للتطبيق ستساهم في خلق وعي عالمي بهذه الجريمة والتي ستساهم ولو بشكل بسيط في النضال ضد من ارتكبوها وتحميلهم المسؤولية والعمل على طي صفحة التشرد واللجوء والاحتلال والفصل العنصري.
عن القدس العربي