الأطفال الفلسطينيون أعداء إسرائيل أينما كانوا

مراجعة الأحداث منذ اندلاعها في الأسبوع الأول من أيار/مايو، وخلال مراحل حملة الاعتقالات المكثفة تُبيّن، كما ذكرت، أن الأطفال كانوا هدفاً لقمعها منذ البداية وما زالوا حتى اليوم. وكلما ازدادت التظاهرات ولم تتراجع كلما اشتدت شراسة قوات القمع.

استهدفت الحملة القمعية القاصرين منذ البداية، من لحظة الاعتقال الميداني خلال التظاهرات، ثم الخطف من طرف قوات المستعربين والملثمين، وضربهم والتنكيل بهم بوحشية، وتهديدهم بالقتل والإخفاء، مروراً بالانتهاكات في أثناء التحقيق، ثم تشدُّدها وتعنُّتها في إبقاء الكثيرين منهم رهن الاعتقال في المعتقل أو في زنازين مراكز الشرطة، وعدم استخدام صلاحيات الضباط لإطلاق سراحهم، بل إحضارهم إلى المحكمة لتمديد الاعتقال، وعدم قبول القضاة إطلاق سراحهم ولا حتى الإفراج المقيّد (أحياناً بالاعتقال المنزلي، وأحياناً أُخرى بالالتزام بعدم المشاركة في التظاهرات وكفالة مالية وقانونية من أحد أفراد العائلة، وأحياناً تكون الشروط كلها مجتمعة). لا بل استأنفت النيابة العامة (الدولة) في عدد غير قليل من الملفات ضد القاصرين قرار إطلاق السراح، وهو ما تسبب في إبقاء المعتقل القاصر في السجن ليلة إضافية، وهي تجربة رهيبة ومخيفة لطفل، وخصوصاً إذا كان وحيداً في الزنزانة، ولا يقل عن ذلك للأهل.

أمّا المرحلة الثانية من الاعتقالات فكانت انتقائية سياسية أكثر وترهيبية بأسلوب مختلف. فمن المتعارف عليه أن تقوم الشرطة باستدعاء أي مواطن كتابياً أو شفهياً للمثول أمامها في مقراتها. فالقانون يلزمه بذلك. لكن قوات القمع والاستخبارات اعتمدت المداهمات الليلية في اعتقال المعنيين، وبالذات القاصرين ما دون سن الـ18. فتداهم بيت العائلة عشرات من أفراد الشرطة الملثمين وبأسلحتهم المشرعة، ويقومون بترهيب البيوت المحيطة واقتحام البيت من أجل اعتقال فتى في الخامسة عشرة من عمره. وازداد استخدام هذا الأسلوب مع تكثيف إشراف الشاباك على الاعتقالات والملاحقات. وهكذا أصبح إجراء الاعتقال بحد ذاته عملية عقاب فردية وجماعية لها تداعياتها الترهيبية.

حتى الثالث من حزيران/يونيو، ووفق بيان الشرطة والنيابة العامة، تم اعتقال 2142 شخصاً، 91% منهم فلسطينيون، وتم تقديم 184 لائحة اتهام شملت أكثر من 285 شخصاً، أغلبيتهم العظمى من الفلسطينيين. تدل الأرقام على الاستهداف الصارخ والفاضح للفلسطينيين. في حين أن نسبة هذا الجمهور لا تتعدى الـ 20%، نرى أنها بلغت بين المعتقلين أكثر من 91%، وتصل إلى أكثر من 88% بين مَن قُدِّمت لوائح اتهام ضدهم. الأرقام بحد ذاتها تتحدث عن التمييز والعنصرية، وبالنهاية فإن لوائح الاتهام تشمل تهماً على “خلفية عنصرية” وعنفاً على “خلفية قومية”، ضمنها 32 متهماً بـ “جريمة الكراهية” وعقوبتها مضاعفة قياساً بالعنف على خلفية قومية، وهناك 18 متهماً بـ”أعمال إرهابية”. تهمة سعت النيابة، بضغط من الحكومة والإعلام، للزجّ بها كي تبرر عنفها تجاه الفلسطينيين، وكي تسرق مرة أُخرى روايتهم بشأن كونهم ضحية عدوانها وعنفها. وكي تشرعن لوائح الاتهام التي لا تشكل بحد ذاتها إدانة للفلسطينيين، بل هي دليل إدانة واضح على عنف الدولة تجاههم وتجريمهم.

ما يؤكد أن الحملة ترهيبية هو أن أغلبية المعتقلين تم إطلاق سراحهم، ومن المتوقع أن يسقط عدد كبير من لوائح الاتهام هذه خلال المحاكمة، إذ لا توجد أدلة ولا إثباتات كافية لتُهم مفبركة. وقد تلجأ الدولة إلى آلية “صفقات الادعاء” على أساس الاعتراف بـ”الجرم”، وإلى إدانة مع وقف التنفيذ، وهذا تعتبره الدولة سلاح ردع وأداة ضبط ورقابة. ويمكن القول عن هذه الحملة “تمخض الجبل 2100 اعتقال- فولد فأراً- 175 لائحة اتهام”. طبعاً لا يستهان بأي منها، فوراء كل لائحة اتهام إنسان وعائلة وحياة يمكن أن تتوقف وتُدمَّر حتى لو لم يتم الحكم بالإدانة بالنهاية، فمسار المحاكمة وتكلفة المرافعة وطول مدة المحاكمة يمكن أن تعيق حياة عائلات كاملة.

وصل عدد الأطفال المقدمة ضدهم لوائح اتهام 81 طفلاً لغاية 26/5/21، أي ما نسبته 30% من مجمل لوائح الاتهام. إلّا إن هذه الأرقام تؤكد أن هدف الاعتقالات سياسي ترهيبي أولاً.

لفت نظري أن الدولة استخدمت الوحدات الخاصة نفسها التي تستعملها في الضفة والقدس، وجاء قرار نقلها بأمر من وزير الأمن (الحرب) الإسرائيلي، لتقوم بعمليات أشبه بإعادة احتلال للتجمعات الفلسطينية في المدن الساحلية التاريخية، ومجمل البلدات في الداخل، والتي عملت أيضاً ضد المواطنين الفلسطينيين وضمنهم الأطفال. فقد أعلنت ذلك بنفسها، وهذا ما لمسناه على أرض الواقع بالإضافة إلى قوات الشرطة المدججة بالسلاح وأدوات القمع وحتى القتل. وقد شاركت قوات حرس الحدود والمستعربين ووحدات خاصة أُخرى إلى جانب الشرطة. بل تورطت في الخطف في عدد من الحالات التي سأذكرها في هذا التقرير، وأدت دوراً في حالات معينة في التحقيق. وكان للشاباك دور بارز وواضح في تطبيق الاعتقالات والملاحقات، ثم في التحقيقات والسيطرة على القرار القضائي، وفي مصير الملفات، وتم في بعضها فرض حظر النشر عليها ومنع لقاء محامين. الكثيرون من الشباب، وضمنهم قاصرون، استدعاهم الشاباك إلى التحقيقات.

لم تكتفِ الدولة بإدخال هذه القوات إلى المدن والقرى والتجمعات الفلسطينية، فحولت بعض الأماكن، مثل الجديدة والمكر، إلى منطقة عسكرية مغلقة بكتل من الأسمنت يقف على مداخلها جنود حرس الحدود. ولم تكتفِ الدولة بتحويل مدننا إلى ثكنات عسكرية، كما حدث في حيفا، وإن لم تعلنها رسمياً؛ إذ تقف دوريات الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصة بشكل عرضي وبكمائن فجائية، فتتفحص السيارات، وتعتقل الشباب، وتصادر السيارات بصورة عشوائية ووحشية من دون أي رقيب. لا بل قامت -كما فعلت في أثناء قمع التظاهرات – بمصادرة كاميرات التصوير والهواتف النقالة وكسرها في محاولة لتعطيل كل إمكانات توثيق انتهاكاتها.

لم تكتفِ بكل هذا بل قامت أيضاً بتسليط القوات الخاصة والمستعربين والملثمين لخطف الأطفال كما حدث مع الطفل محمد السعدي (13 عاماً) من أم الفحم، والطفل محمد حاج يحيى (14 عاماً) من الطيبة، أو كما حدث مع الطفل يوسف قلدس ( 15 عاماً) من حيفا.

ثلاث قصص لثلاثة أطفال

ضمن الأساليب الترهيبية التي استُخدمت الخطف، والعنف المبرح، واستعمال الهراوات، وإلقاء القنابل الصوتية على وجوه وأجساد المتظاهرات والمتظاهرين، والتي قد تكون قاتلة عن قرب   وتتسبب بأذى جسدي، وخنق الأطفال بالقمصان التي يرتدونها أو تغطية وجه الطفل بكيس أو بقماش.

محمد السعدي (13 عاماً): يوم 20 أيار/مايو، بعد انتهاء جنازة الشهيد محمد كيوان (17 عاماً) من مدينة أم الفحم، الذي قُتل برصاص الشرطة، قامت وحدة من المستعربين باختطاف محمد، إذ نزل ملثمون من سيارة مدنية، هجموا عليه وضربوه بوحشية وخطفوه. وفي داخل السيارة تم تهديده بالسلاح، غطوا رأسه وعينيه وكرروا ضربه وتهديده بحياته. كان يقول لهم إنه طفل ولم يفعل أي شيء، لكنهم سخروا منه. وفي مقر الشرطة حاولوا نزع اعترافات منه في غياب أهله ومن دون وجود محام.

محمد حاج يحيى (14 عاماً): تم اعتقاله يوم 17/05/2021  لمدة 4 أيام، اختطفوه من الشارع في أثناء تواجده بالقرب من إحدى التظاهرات. أطلقوا الرصاص المطاطي عليه فأُصيب في رجله وتم اختطافه مع اثنين من أصدقائه واقتيادهم إلى منطقة نائية حيث تم ضربهم مجدداً هناك ولم تبلَّغ العائلة باعتقاله، وفقط حين توجهت إلى مركز الشرطة الساعة الرابعة فجراً علمت بأنه معتقل. وهو ما زال اليوم رهن الاعتقال المنزلي بحجة أنه ألقى حجارة وشارك في تظاهرة. ولا تزال آثار العنف الخطِر بادية على وجهه.

يوسف قلدس (15 عاماً): اعتقله ملثمون يلبسون الأسود يوم 12/5/2021، إذ توقفت سيارتان في أثناء مروره في الشارع بالقرب من منزل صديقه متجهاً إلى بيته برفقة صديقه ووالده. نزل من السيارة أربعة رجال ملثمين يحملون الهراوات. حاول الهرب فلحقوا به وألقوه أرضاً ثم أشبعوه ضرباً، وحطموا هاتفه وكسروا أنفه، وبينما وجهه ينزف كان يصرخ ويطلب منهم التوقف وبأنه صغير، لكنهم استمروا في تعنيفه وشتمه. تم اعتقاله واقتياده إلى مقر الشرطة بدلاً من المستشفى، وهناك صرخ الشرطي في وجهه طالباً منه مسح الدم النازف من أنفه المكسور عن الأرض. وفقط بعد ساعات تم أخذه إلى المستشفى، حيث أكد التقرير الطبي وجود كسر في أنفه وشك في حدوث نزيف في رأسه. أُعيدَ يوسف إلى مقر الشرطة، حيث أمضى هناك ليلة ثم أُحضِر في اليوم التالي إلى المحكمة التي أطلقت سراحه بشروط مقيدة.

تنظر الدولة الى كل الفلسطينيين من منظار واحد، وترى في الفلسطينيين أينما كانوا عدواً واحداً. قد تختلف أساليب التعامل، لكن لا يختلف الجوهر.

عن المؤلف:

جنان عبده: محامية وناشطة حقوقية من حيفا، متخصصة في مجال حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، وفي مجموعة “محاميات متطوعات للدفاع عن المعتقلين”.

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *