الأسرى الفلسطينيّون: معركة على شرعيّة الصراع

 

مقدمة

لا يكاد يمُر شهر في فلسطين، إلّا ويحتل موضوع الأسرى وعوائل الشهداء العناوين مرّة جديدة، في أعقاب خطوة إسرائيليّة جديدة، تتسارع وتيرتها وعمقها وتطوّرها مرّة بعد مرّة. ففي المرّة الأخيرة التي احتل فيها موضوع الأسرى وعوائل الشهداء العناوين، كان بسبب قيام بنك “القاهرة – عمّان” وبنوك أخرى، بإعلام الأسرى نيتها إغلاق حساباتهم البنكيّة بسبب قرار إسرائيليّ. وفي هذه المرّة أيضًا، قرّر الاحتلال، مُقاضاة البنك والعاملين فيه، في خطوة جديدة تضع عمليًا كُل فلسطيني يعمل في بنك فلسطينيّ تحت طائلة القانون الإسرائيليّ، بتهمة “دعم نشاطات إرهابيّة” يصل الحكم فيها إلى ما يُعادل 10 أعوام كحد أقصى في القانون الإسرائيليّ.

وفي الحقيقة، فإنّه ومنذ 5 أعوام كحد أدنى، يرى المُتابع أن موضوع رواتب الأسرى وعوائل الشهداء بدأ يحتل حيّزًا خاصًا في السياسة الإسرائيليّة: خطابات في الأمم المُتحدة تطرّق خلالها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى موضوع قيام السُلطة الفلسطينية بدفع رواتب للأسرى وعوائل الشهداء؛ وتحريض دوليّ؛ وقرار الكونغرس الأميركي؛ وتحريض إعلاميّ دوري دفع هذه القضيّة تحديدًا لأخذ حيّز كبير جدًا في الرأي العام الإسرائيليّ، بالإضافة إلى آلاف العناوين الإخباريّة والتحليلات. وجميعها تُدلّل بالحقيقة على وجود خطّة إستراتيجيّة إسرائيليّة، وأذرع كثيرة، وقرار، باستهداف مكانة الأسرى الفلسطينيين، وروايتهم، وضرب فكرة الأسر اجتماعيًا واقتصاديًا، وبالتالي سياسيًا.

تعمل إسرائيل وفق إستراتيجيّات، فتُحدّد الحجر المُستهدف على رقعة الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ لتبدأ تدريجيًا بتضييق حركته، ومن ثم الإجهاز عليه في اللحظة المُلائمة بحسب الظروف السياسيّة والأمنيّة، وهذا ما يحصل في الاستيطان والمسار السياسيّ والسيطرة على الموارد. وهذا ما ترى هذه الورقة أنّه يحصل أيضًا في موضوع رواتب الأسرى وعوائل الشهداء. وبالمُناسبة، هذا ليس استثناءً إسرائيليًّا، بل يبدو كذلك لحقيقة أن السياسة الفلسطينيّة تعيش دون أي إستراتيجيّة، فيبدو موضوع رواتب الأسرى وعوائل الشهداء للوهلة الأولى كقرار هُنا وقرار هُناك، وتقوم القيادة الفلسطينيّة كعادتها برد فعل هُنا، ورد فعل هُناك، دون خطّة واضحة لإنقاذ الحجر الذي إن سقط ستسقط معه أحد أهم أركان الرواية الفلسطينيّة وشرعيّة النضال الفلسطينيّ في صراع مع حركة تحرّر وطنيّ.

ومن هذا المبدأ، ستعمل هذه الورقة على قراءة قضيّة “رواتب الأسرى وعوائل الشهداء” كمعركة في الصراع العام، وتحاول قياس إسقاطات خسارتها، وإسقاطات السياسة الفلسطينيّة والأداء السياسيّ في هذه المعركة، التي ترى الورقة فيها مرحلة ومؤشّرًا أولًا على أين وصل الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، وما مطامع إسرائيل والصهيونيّة في هذه المرحلة تحديدًا، وماذا تُريد. وفي الختام، ستعمل الورقة على تقييم عام للسياسات الفلسطينيّة، التي من شأنها أن تؤدّي إلى خسارة معركة غاية في الأهميّة، لا تُقام في ساحة حرب ولا تقودها فقط الطائرات، بل تشترك فيها كافة منظومات السيطرة الإسرائيليّة، وتدور بالأساس حول سؤال أساسيّ: هل كان النضال الفلسطينيّ شرعيًّا؟ وهذا لا يتطرّق فقط إلى الراهن، بل يمتد لتكون له إسقاطات جذريّة على تاريخ الثورة الفلسطينيّة من أساسها.

الحجر الأول الثابت: قانون يشكّل البنية القضائيّة

يشكّل القانون الذي صادق عليه الكنيست مطلع العام 2019 تحت عنوان “قانون التقليصات”، الذي يسمح قضائيًا بالاقتطاع من أموال السُلطة الفلسطينيّة بسبب “دعم الإرهاب”، الخطوة العمليّة الأهم.[1] وفي الحقيقة، فإن إسرائيل ونُخبها السياسيّة موضعت قضيّة رواتب الشهداء والأسرى في صُلب التحريض على السُلطة منذ سنوات طويلة، فتطرّق نتنياهو إليها في الأمم المُتحدة، وحرّض الولايات المُتحدة على اتخاذ إجراءات عقابيّة، كما شكّلت جزءًا من حملة آفي ديختر في الانتخابات الداخليّة لحزب “الليكود”. وبصورة أدق: حرّضت وحضّرت الأرضيّة بشكل مُتكامل، لتقوم بعدها بسن القانون المذكور كأساس قانونيّ، وتترك تطبيقه أو عدمه، وحجم الاقتطاع وموعده إلى قرار المجلس الوزاريّ المُصغّر للشؤون الأمنيّة والسياسيّة (الكابينيت).[2]

وهذه ليست المرّة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل بقوننة خطوة محدّدة، وترك تطبيقها للهيئات التنفيذيّة، إذ حصل هذا مثلًا في قانون “أملاك الغائبين” الذي يسمح لإسرائيل بوضع اليد على أملاك المقدسيين، ولكن تطبيقه على هذا المُلك أو غيره خاضع للحسابات الداخليّة السياسيّة الإسرائيليّة وموازين القوى والظروف الميدانيّة، فتتم مُصادرة منزل مُخصّص بهدف شق طريق، وفندق بهدف بناء جدار، دون تطبيق جارف للقانون، الذي يضع الأملاك قانونيًا في سلّة إسرائيل، وتختار ما تراه مناسبًا من بينها.[3]

 

وهذا، هو المدخل الأفضل لفهم قانون سلب مُخصّصات الأسرى كقانون موجود وقائم ويسمح. أمّا التطبيق فيأتي ضمن المُعطيات الواردة سياسيًا وأمنيًا وإقليميًا. وبكلمات أخرى: يشكّل وجود القانون إشارة واضحة إلى أن قاطرة السلب والاستهداف قد انطلقت، أمّا وتيرة حركتها فتتعلّق بظروف الطريق. وهو ما يبدو أنّه حصل في المرّة الأخيرة، إذ لم تُسلب مُخصّصات الأسرى، فقال نتنياهو إن الموضوع تقنيّ، ولكنه في الحقيقة ممكن أن يكون بسبب الظروف الاقتصاديّة للسُلطة، التي حصلت قبل وقت قصير من القرار على قرض ماليّ من إسرائيل ذاتها.

شكّلت موجة العمليّات الفرديّة في العام 2015 – أي العمليّات الفرديّة دون قرار تنظيميّ هرميّ – إحدى أهم المراحل التي أطلقت هذه القاطرة. والتفسير من المُمكن أن يكون بسبب الرواية الإسرائيليّة الرسميّة الإعلاميّة وفي المراكز البحثيّة، التي تُنكر واقع الاحتلال في الضفّة الغربيّة كدافع لتنفيذ العمليّات.[4] فتُنكر البؤس والفقر والاستيطان والاحتلال وسلب الحقوق الأساسيّة، وتحاول دائمًا تفسير سُلوك منفّذ العمليّة إمّا إلى أسباب نفعيّة واستفادة، وإمّا إلى مشاكل عدم اتّزان نفسيّ. وهذا غير منوط فقط بانتفاضة السكاكين والعمليّات الفرديّة الذاتيّة دون قرار تنظيميّ. ففي الانتفاضة الثانية ربطت إسرائيل العمليّات، وفسّرت سلوك الفدائيّ على أنّه مُضلّل، وتم “غسل دماغه” من قبل “حماس” وفصائل منظّمة التحرير، كما هو الحال بالنسبة إلى تصوير الفدائيّ على أنّه باحث عن حوريّات الجنة.

فسّرت إسرائيل موجة العمليّات الفرديّة في العام 2015، بإعلامها الموجّه، وفق ذات المبدأ: بعضهم يمرّون بظروف شخصيّة وعائليّة عصيبة؛ والآخرون يقومون بتنفيذ العمليّات بسبب الأموال التي سيحصلون عنها من السُلطة الفلسطينيّة. ولذلك، جاء خطاب نتنياهو في العام 2016 بالأمم المُتحدة ليحمّل السُلطة المسؤوليّة. وأصدر بعدها مركز القدس لقضايا المجتمع والسياسة كتابًا تحت عنوان “جائزة للإرهاب: دفعات السُلطة للإرهابيين”، فيما جعل مركز أبحاث الأمن القوميّ من الرواتب أحد أهم أسباب العمليّات الفرديّة. كما أعادت وسائل الإعلام ذات النفير مرّة تلو الأخرى. وباعتقادي، هُناك ارتفاع ملحوظ بعد “انتفاضة الأفراد” في وتيرة الهجوم الإسرائيليّ على قضيّة “رواتب الأسرى وعوائل الشهداء”، ويُمكن تأريخ بدء هذه المعركة، المُستمرّة، مع بدء الموجة في العام 2015، حيث أخذت ترتفع وتيرتها تدريجيًا، وصولًا إلى سن القانون في العام 2019.

الصراع على دور النظام السياسيّ في فلسطين

 

تُفسّر إسرائيل العمليّة الفرديّة على أنّها إمّا عدم اتّزان نفسيّ وإما منفعة ماديّة، فهي لا تُريد لمُجتمعها ولذاتها أن تُصدّق أن هُناك أناسًا يفضّلون الموت بسبب قضيّة سياسيّة في فلسطين، أو بسبب الظروف التي خلقتها إسرائيل وجعلت من الموت والحياة واحدًا. وهذا بالإضافة إلى أنّها تعبير واضح عن الوعيّ الوطنيّ غير المربوط كليًا بالعمل الفصائليّ، ولا يمكن إنكار أنّها جاءت بعد عدوان العام 2014 على قطاع غزّة. وعلى الرغم من الكذب الإسرائيليّ والإنكار، فإن لرواتب عوائل الشهداء والأسرى، أهميّة فائقة ليس لحقيقة أنّها تدفع بالفلسطينيّ إلى تنفيذ عمليّة، وكأنّه يبيع ذاته مُقابل راتب كما تدّعي إسرائيل، بل لحقيقة أنّها تمنع من تحوّل عائلة الأسير والشهيد إلى فئات تموت جوعًا وفقرًا، وتبقيهم في شكل من أشكال الأمان الاقتصاديّ والاجتماعيّ. فلولا هذه الرواتب، لانهار النظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي يُحافظ على الأسير أو الشهيد وعائلته كقيمة اجتماعيّة ثقافيّة ووطنيّة، دون الانهيار إلى ما تحت الفقر والانهيار الاقتصاديّ أولًا، الذي سيتبعه انهيار اجتماعيّ وثقافيّ ثانيًا.

باختصار: رواتب الأسرى والشهداء هي الحد الفاصل حرفيًا، الذي بانهياره ستنهار فئة نُخبة وطنيّة، لتتحوّل مُباشرة إلى طبقة فقيرة ومهمّشة وخاسرة. وهُنا، تلعب إسرائيل، بوعي، لتحويل النضال الفلسطينيّ من نضال لا يُمكن القول عنه بأنّه رابح، إلى نضال ينقل العائلة برمّتها من فئة “مستورة” إلى فئة “مكسورة”. ولهذا، لا يُمكن ولا بأي شكل من الأشكال، التقليل من دور هذه الرواتب في الحفاظ على الهويّة الوطنيّة العامّة، غير الفصائليّة، وغير الحزبيّة. فمن خلال هذه الرواتب، يصيغ النظام السياسيّ (منظّمة التحرير في هذه الحالة)، الهويّة ويغذّي مكانتها الاجتماعيّة، وعدم السماح بانهيار العائلة. فعلى سبيل المثال، في هيئة شؤون الأسرى، مسجّل ما يُعادل 12 ألف عائلة[5]، تعيش عمليًا من هذه الرواتب التي تُشكّل شبكة الأمان الاقتصاديّ، التي تُشكّل بدورها نوعًا من أنواع الهالة والتقديس الذي يبدأ من رأس الهرم السياسيّ دافع الرواتب، مرورًا بالقواعد الاجتماعيّة التي تحترم.

يفسّر الفلسطينيّ العمليّات الفرديّة على أنّها النتاج الطبيعيّ للظروف البائسة التي خلقها الاحتلال في الضفّة الغربيّة، والحكم العسكريّ وسلب الحقوق. ولكن هذه الظروف، لا تدفع إلى تنفيذ عمليّات بهذه الوتيرة والكميّة كما الوجهة/البوصلة، إلّا بوجود هويّة وطنيّة تصيغ بوصلة الفرد الإنسان إلى المسؤول الطبيعيّ عن الظروف التي يعيشها ودفعته إلى تفضيل الموت عن الحياة. ولذلك، فإن إسرائيل تعي جيدًا الدور الذي تلعبه هذه الرواتب في الحفاظ على وعيّ وطنيّ، وثبات قيميّ على مفاهيم من زمن مُختلف عن الزمن الذي تُريده. فمن خلال هذه الرواتب تحديدًا، وسياسات أخرى شبيهة، تلعب دورًا أساسيًا في صياغة الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، ذات الهويّة التي أرادتها منظّمة التحرير قبل أن تدخل مرحلة الموت السريريّ. وهو باختصار الإرث المتبقّي من تاريخ منظّمة التحرير في السُلطة هذه الأيّام، الإرث الذي تستند إليه السُلطة جوهريًا كمصدر شرعيّة للحكم السياسيّ في الضفّة الغربيّة، خاصة على الصعيد الداخليّ: في الصراع مع “حماس” حول المنظّمة؛ وفي الاتفاقيّات التي أبرمتها المنظّمة؛ والأهم في احتكار السُلطة عبر احتكار التمثيل الذي يعود إلى المنظّمة أيضًا.

ومن هذا الباب، يُمكن فهم قيام إسرائيل بخصم مبلغ 149 مليون شيكل مثلًا من أموال المقاصّة، وهي الأموال التي دفعتها السُلطة كرواتب لعوائل الشهداء والأسرى، وفي ذات الوقت منح السُلطة قرضًا يمنع انهيارها بقيمة 800 مليون شيكل. فالمقتطع عمليًا هو الإرث السياسيّ الذي ورثته السُلطة عن المنظّمة بكل ما تتضمنه من معانٍ ورموز وإسقاطات. أمّا الممنوح فيمثّل السُلطة الحديثة المرتبطة اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا بإسرائيل. وفي كليهما، توجّه نحو تغيير وظائف السُلطة أكثر ممّا قد تغيّرت: منح المزيد من الارتباط والتعلّق، وتقليل المزيد من الإرث الثوريّ للمنظّمة، حيث تعيش السُلطة على توازن دقيق بينهما: من جانب تستمد شرعيّتها الدوليّة من اتفاق أوسلو؛ وتستمد شرعيّتها الداخليّة من الإرث الثوري للمنظّمة. وكلاهما في صراع مُستمر وتناقض دائم، تعمل إسرائيل على حسمه باتجاه الشرعيّة منها ومن الاتفاقيّة المُوقّعة معها.

وهُنا، يبدو موضوع الرواتب مرّة أخرى، معركة في الصراع العام، ليس على الأسرى فقط، بل على دور ووظيفة النظام السياسيّ في فلسطين، والهويّة السياسيّة المُفرزة عن شكل هذا النظام، وبالتالي، يغدو الصراع على رواتب الأسرى صراعًا على وظيفة السُلطة، التي تشكّل عمليًا الجسم الأكثر نفوذًا وقوّة في الحالة الفلسطينيّة، لما تتضمّنه أيضًا من ارتباط عضويّ بمنظّمة التحرير.

مؤشّرات المرحلة

لقد سُنّ القانون الإسرائيلي، وفي موضوع إعادته إلى الكابينيت بهدف التطبيق أو عدمه، إشارة غاية في الأهميّة: إسرائيل لا تنوي دفع أثمان مقابل إيقاف فوريّ لهذه الرواتب. وبصورة أكثر وضوحًا: تُريد أن تلعب في هذا الموضوع بشكل تدريجيّ دون أن يُشكّل خطرًا على السُلطة أو وجودها أو الاستقرار الأمنيّ في المنطقة، ولتحقيق ذلك هناك حاجة إلى بحث الظروف في كُل اقتطاع، وإلى ماذا ستؤدّي وكيف ستؤثّر. لذلك، كان موضوع الاقتطاع مهمًا لنتنياهو وطلب إعادة القرار النهائيّ للبت فيه إلى الكابينيت، مع عدم إمكانيّة الاقتطاع دون قرار من الكابينيت الذي يرأسه ويدعو إلى انعقاده ويشارك فيه قادة الأذرع الأمنيّة الإسرائيليّة.

 

أمّا السؤال المهم الذي تؤشّر إليه هذه السياسة: ماذا تريد إسرائيل في هذه المرحلة؟ وباعتقادي هناك جانبان للإجابة: الأول، وهو الهويّة الوطنيّة وتم التطرّق إليه سابقًا. أمّا الثاني، فيتطرّق إلى شرعيّة الصراع أصلًا: هل كان النضال الفلسطينيّ الكفاحيّ برمّته شرعيًا؟ وهُنا تسكن الإجابة: إن كانت الثورة الفلسطينيّة شرعيّة بنظر قيادتها، فإن أسراها هُم أسرى حرب، وعلى النظام السياسيّ تحمّل مسؤوليّته. أمّا في حال إيقاف رواتب الأسرى، بسبب “الإرهاب”، ففي هذا إجابة كارثيّة ليس فقط عن الحاضر، بل عن الماضي أيضًا: هل ينبذ الفلسطينيّ تاريخه؟ وإن كان الأسرى بقرار بنك فلسطينيّ مثلًا “إرهابيين”، فهل كان التاريخ الفلسطينيّ “تاريخ إرهاب”؟ هذا هو صراع على الرواية التاريخيّة، وليس فقط الرواية التاريخيّة بطبعتها النكبويّة، كماذا حصل ولماذا حصل ومن قام به، بل الحق الفلسطينيّ وشرعيّة الصراع مع الصهيونيّة، وهذا صراع على جوهر الهويّة الفلسطينيّة الحديثة التي صاغتها الثورة والمنظّمة.

في هذا السياق، يمتد موضوع الأسرى ورواتبهم ليكتسب أهميّة فائقة، خاصة أن النظام الاجتماعيّ – المدنيّ- السياسيّ الفلسطينيّ قد تأسّس بناءً على هذه الرواية: لا يوجد فلسطينيّ في موقع تأثير فعليّ إلّا إن كان جزءًا من هذه الثورة. فقيادة هذه الثورة والفصائل باتت قيادة السُلطة، ونُخب الثورة باتت نُخبًا اجتماعيّة وثقافيّة، كما أن التركيبة الاجتماعيّة الفلسطينيّة انقسمت في مرحلة من المراحل بحسب التركيب الاجتماعيّ في الثورة، عبر التداخل ما بين نُخب الثورة وامتدادها في الداخل، لتُلقي بظلالها وتُشكّل الثورة المُجتمع، كما شكّل المجتمع الثورة في علاقة جدليّة طبيعيّة.

ومن هذا المنطق، فإن ما تطرحه إسرائيل في موضوع الأسرى، من شأنه أن يمتد إلى أعمق ثنايا المجتمع الفلسطينيّ: مؤسسة حقوق إنسان كان مديرها ناشطًا في فصيل سياسيّ بدأت فعلًا إسرائيل بالهجوم عليه بسبب تاريخه النضاليّ؛ مؤسسة تؤرشف؛ مؤسسة تبحث في السياسة؛ جامعة فيها عرض عسكريّ لفصائل تستند إلى العمل العسكريّ في حملاتها الإعلاميّة كما حصل في بيرزيت مؤخرًا؛ مهرجان ومنهاج تعليميّ يُبرز مكانة الشهيد فيهاجمه الإعلام الإسرائيليّ ليعلن أن التعليم في فلسطين تعليم إرهاب … إلخ من المشاهد التي نراها في الفترة الأخيرة، والتي يندرج التضييق على المجتمع المدنيّ تحتها أيضًا، وجميعها تصب في ذات الخانة: هل يملك الفلسطينيّ الحق في أن يُصارع الاستعمار؟ هذا باعتقادي هو الباب الذي يجب من خلاله قراءة ما حصل ويحصل في موضوع رواتب الأسرى، والصراع عليه هو صراع على الرواية، والحق في الصراع أصلًا.

تُشير هذه السياسة الإسرائيليّة إلى مرحلة جديدة في الصراع، تشكّل أساس الصراع مثلًا في أراضي 1948، ويشكّل موضوع الهجوم على الرواية إشارة إلى البدء فيها داخل الضفّة، وهي الصراع على الهويّة السياسيّة. فإن كان ما هو ثابث في تعاطي إسرائيل مع الفلسطينيين فهو أنّها لا تتوقّف عن طلب المزيد من التنازل: تغيّرت منظّمة التحرير جوهريًا من حركة تحرّر وطنيّ إلى سُلطة حكم ذاتيّ بهويّة وطنيّة إعلاميّة ورمزيّة وخطابيّة نحو الداخل؛ تحوّلت المنظّمة من حركة مُقاومة تحرّر إلى هيئة تنسّق أمنيًا مع الاحتلال؛ وقّعت اتفاقيّات وتعاونت اقتصاديًا وسياسيًا؛ نبذت الكفاح المسلّح ولم تكن جديّة في المقاومة الشعبية؛ إضافة إلى النقطة الأهم في أنّها سلّمت السلاح ولم تعد تُقاتل على الأرض.

تفتح قضيّة الأسرى الباب من جديد أمام سؤال: ماذا تُريد إسرائيل بعد؟ فإسرائيل لن تكتفي. وحتّى “صفقة القرن” هُناك أصوات إسرائيليّة ترفضها لحقيقة أن فيها تنازلًا عن “إسرائيل الكبرى”، واعترافًا بحق الفلسطينيين في دولة، ولو على صعيد التصريح السياسيّ فقط. أمّا هذه المرحلة، فهي المرحلة الحاسمة: الهويّة الوطنيّة. وعلى هذا يدور الصراع على رواتب الأسرى وعوائل الشهداء، بوصفهم أواخر الجسور التي ما زالت تربط ما بين الحاضر والماضي، وبغض النظر عن مفاهيم الماضي ورؤيته: إسرائيل انتقلت من الصراع على منع الفلسطينيين من تحقيق أهدافهم الوطنيّة، إلى الصراع على شرعيّة المُطالبة بالحقوق أصلًا.

مرّة أخرى: نعالج الأعراض

جاء القرار الفلسطينيّ بعد إعلان البنوك باتفاق ما بين البنك وإدارته وسُلطة النقد والحكومة على تجميد العمل بالقرار، وإعادة فتح حسابات الأسرى. أمّا الخطة البديلة الفلسطينيّة في حال قامت إسرائيل بالبدء في معاقبة البنوك فهي التحوّل إلى البريد أو وسائل أخرى لدفع الرواتب. وكأن إسرائيل لن تبدأ بمُعاقبة البريد أو أي جهة أخرى، وفي الحقيقة فإن إخراج الموضوع من يد السُلطة ومنظّمة التحرير، سيجعل من معاقبة إسرائيل أسهل وأقل ارتباطًا بالتطوّرات السياسيّة والاتفاقيّات والمصلحة الإسرائيليّة ببقاء السُلطة. وهُنا عمليًا، تسكن الأزمة: لجنة فنيّة لحل قضيّة سياسيّة جذريّة، وتؤثّر على التاريخ والحاضر والمُستقبل السياسيّ في فلسطين.

أمّا بعد، فإن مُجرد إخراج الموضوع من يد السُلطة الرسميّة سيعزّز من قدرة إسرائيل على مُلاحقتها، خاصة أنّها باتت اليوم بحسب القانون الإسرائيليّ معرّفة كأموال “داعمة للإرهاب”، فيغدو معاقبة حاملها، ومن يمرّرها، ومن يحوّلها، في عداد المسؤول أمام قانون الاستعمار. ولذلك، فإن بيد السُلطة المركزيّة حاليًا، أدوات الضغط الكبرى، وبخاصة وجود السُلطة ذاتها، للضغط على إسرائيل بهدف استمرار تدفّق هذه الرواتب التي سيشكّل قطعها ضربة موجعة للقضيّة بمعناها الثقافيّ والتاريخيّ والسياسيّ أيضًا. فالصراع على رواتب الأسرى وعوائل الشهداء، يشكّل أحد أهم الصراعات القائمة حاليًا ما بين إسرائيل والسُلطة الفلسطينيّة على شكل السُلطة ودورها ومكانها ومصدر شرعيّتها. وعلى السُلطة أن تخوض هذا الصراع ليس فقط لأجل الأسرى، وهو مهم، بل لأجل شكلها التي تُريد، وصلاحياتها وحقها في إدارة مناطق (أ)، وحياة الفلسطينيّ فيها على الأقل، مع التشديد على حقيقة “على الأقل”.

يشكّل قيام السُلطة بحل الإشكالية وتجميد العمل بالقرار، علاجًا لأعراض ومُخرجات إستراتيجيّة إسرائيليّة كاملة تستهدف الهوية والرواية الفلسطينيّة، وهي لا تعالج الأزمة الحقيقيّة التي تطفو أعراضها مرّة على شكل اقتطاع أموال مقاصّة، ومرّة ثانية على شكل عقوبات على البنوك، ومرّة ثالثة على شكل قطع رواتب وحجز أموال أسرى 1948، ورابعة ستأتي على شكل قرار باعتقال موظّف بنك. فترك البنوك أو أي طرف في الساحة الفلسطينيّة يواجه هذا الموضوع أمام إسرائيل فيه درجات كارثيّة من الخطورة: البنك الذي يوقف حساب أسير بسبب “إرهاب” سيكون مقدّمة لحملات إسرائيليّة دوليّة تقول “البنوك الفلسطينيّة ذاتها اعتبرت التاريخ الفلسطينيّ إرهابيًّا”، ولمقولة كهذه إسقاطات جذرية على مكانة الفلسطينيّ وتاريخه في العالم، وبالتالي حاضره ومستقبله.

وفي الختام، تقترح الورقة البدء بالعمل وفق مسارين موازيين: البحث عن طريقة يُمكن من خلالها ضمان دفع الرواتب، إمّا من خلال صرف مُباشر لا تكون لإسرائيل سيطرة عليه بحكم سيطرتها على بيانات البنوك، مثلًا، وكشوفاتها المفتوحة؛ وخوض هذه المعركة السياسيّة إلى جانب المُجتمع وليس كما يحصل حاليًا حيث أهالي الأسرى وعوائل الشهداء هم من يخوضون هذه المعركة لحث السُلطة. هذا في الوقت الذي من المُفترض أن يحصل العكس: السُلطة وعوائل الشهداء والأسرى سويًا. ولذلك، من المهم الإشارة إلى أن هذا الموضوع سياسيّ في جوهره، لا يقبل ولا يُمكن القبول بأن يكون في عداد المواضيع واللجان التقنيّة والفنيّة.

الهوامش

[1] الكنيست يُصادق على قانون التقليصات، موقع “واينت”، 2/7/2018: bit.ly/2YKNyIW

[2] انظر مثلًا: الكابينيت يُصادق على تطبيق قانون التقليصات، موقع “واينت”، 17/2/2019: bit.ly/2YgFroB

[3] للاستزادة حول قانون أملاك الغائبين، انظر: رازي نابلسي، قانون أملاك الغائبين في القدس: “السيرة الذاتية” لتشريع النهب، مجلة قضايا إسرائيلية، العدد 58، المجلد 15، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، حزيران/يونيو 2015: bit.ly/3hxOnNM

[4] للاستزادة، انظر:

يوسي كوبرفيسر، “جائزة للإرهاب: دفعات السُلطة للإرهابيين”، مركز القدس لقضايا المُجتمع والسياسة، 2017: bit.ly/30R6Yyi

ألون بن ديفيد، “ستة شهور على إرهاب الأفراد”، مركز أبحاث الأمن القوميّ، 17/3/2016: bit.ly/2UTZ8Ah

[5] مقابلة عبر الهاتف مع قدري أبو بكر، رئيس هيئة شؤون الأسرى والمُحرّرين.

(المصدر: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات)

رابط الدراسة

https://www.masarat.ps/article

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *