الأسئلة الفلسطينية الصعبة بعد تجربة نصف قرن
ماجد كيالي
جريدة الحياة (25/9/2018)
باتت مجتمعات الفلسطينيين، في فلسطين التاريخية، أي مناطق 48 والضفة والقطاع، وفي بلدان اللجوء والشتات، تعجّ بالمبادرات، الجماعية والفردية، الرامية لترميم الفراغ الناجم، عن افتقادهم إلى مرجعية وطنية، بحكم غياب المشروع الوطني الجامع، لا سيما بعد انسداد خيار التسوية واخفاق حلّ الدولتين، وأيضاً بحكم غياب الكيان الوطني الجامع، بعد تهميش منظمة التحرير، وتآكل إطاراتها وفاعليتها، في حين يفترض إنها بيت الفلسطينيين جميعاً، وكيانهم المعنوي المعبّر عن وحدتهم كشعب وعن قضيتهم وعن كفاحهم.
بيد أن معضلة الفلسطينيين تكمن، أيضاً، في انهم يواجهون التحدّي المذكور مع وجود تعقيدات ومشكلات أخرى، كبيرة وخطيرة، أولها يتمثّل بولادة مسارات تهدّد بتفكّك وحدة الشعب الفلسطيني، بسبب التداعيات الناجمة عن اتفاق أوسلو (1993)، الناقص والمجحف، وضمنها إقامة سلطة في ظل الاحتلال، في جزء من وطن لجزء من شعب، وتهميش منظمة التحرير، واقتصار ولاية القيادة الفلسطينية على فلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، وبسبب إخراج اللاجئين من معادلات السياسة الفلسطينية، واختفاء مجتمعاتهم، بحكم الأوضاع الحاصلة في لبنان وسورية والعراق، مع استهداف مخيماتهم ودفعهم للهجرة، كما بسبب خضوع كل مجتمع من مجتمعات الفلسطينيين لسلطات وظروف قانونية وسياسية مختلفة (في إسرائيل وفي الضفة والقطاع والقدس وكل بلد من بلدان اللجوء)، وتالياً نشوء حاجات وأولويات متباينة لكل واحد من تلك المجتمعات، يضاف إلى كل ذلك، أخيراً، المخاطر الناجمة عن سعي إدارة ترامب لفرض واقع جديد، يتم من خلاله التعامل مع القضية الفلسطينية وتعريف الفلسطينيين، بما يخدم السياسات الإسرائيلية، من خلال شطب قضيتي القدس واللاجئين وتكريس الاستيطان والاحتلال ويهودية الدولة الإسرائيلية، وفصل الضفة عن غزة. المشكلة الثانية تتمثل في أن الفلسطينيين يواجهون كل تلك الوقائع الصعبة في ظل تحوّل حركتهم الوطنية إلى سلطة تحت الاحتلال، وهذا يشمل سلطة «فتح» في الضفة وسلطة «حماس» في غزة المحاصرة، مع سيادة قيم السلطة وعلاقاتها على قيم حركة التحرر الوطني وعلاقاتها، إن في ما يخصّ العلاقة مع المجتمع، أو الصراع على المكانة والموارد في النظام السياسي القائم، أو في ما يخص الخضوع لارتهانات وتوظيفات خارجية، مع ما يعنيه كل ما تقدم من تآكل واستهلاك وتقادم بني حركة التحرر الفلسطينية، المتمثلة في المنظمة والسلطة والفصائل، والتي بات لها نصف قرن، ما يعني أنه لم يعد لديها ما تضيفه، لا سيما مع غياب المراجعات النقدية والحؤول دون التجديد. أما المشكلة الثالثة، التي ينبغي إدراكها جيداً هنا، فتتمثل في أن الفلسطينيين يقفون اليوم وحدهم مكشوفين، وفي غاية الضعف والتفكّك، أمام السياسات التي تنتهجها إسرائيل ضدهم ومعها إدارة ترامب، في ظل الانهيار، أو التصدّع، المجتمعي والدولتي في بلدان المشرق العربي، والانشغال العربي بمواجهة تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، وغياب مفهوم الصراع العربي- الإسرائيلي، والقضية المركزية، حتى كشعارات.
في هذا الإطار أتت الورشة النقاشية التي عقدها «ملتقى فلسطين»، باعتبارها جزءاً من مبادرات أخرى، وكتعبير عن حيوية الشعب الفلسطيني، وتصميمه على تجديد حياته السياسية، علماً أن الورشة المذكورة جاءت امتداداً لحوارات سابقة جرت بين المشاركين في الملتقى في حيفا والقدس ورام الله، وأن أهمية الملتقى المذكور، الذي تم الإعلان عنه عشية الدورة الأخيرة للمجلس الوطني (نيسان/ أبريل الماضي)، أنه يضم شخصيات من مختلف المجتمعات الفلسطينية (في 48 والضفة والقطاع وبلدان اللجوء والشتات)، من أكاديميين ومثقفين وكتاب وفنانين وإعلاميين ونشطاء السياسيين.
ولعل الملتقى في صيغته تلك، وكما جاء في النداء الأول الذي أصدره سابقاً، يحاول، أولاً، ان يتجاوز نقصاً، أو تقصيراً، في الحركة الوطنية الفلسطينية التي لم تستوعب فلسطينيي 48 في إطاراتها، في تأكيد منه على وحدانية الشعب الفلسطيني ووحدانية قضيته ومصيره، في كافة أماكن تواجده، مع الأخذ بالاعتبار الخصائص لكل تجمع، باعتبار ذلك منطلقاً لا بد منه لصوغ الرؤى السياسية وبناء الإطارات الوطنية الجامعة. ثانياً، إن الملتقى يركز اهتمامه على استعادة فئات مهمة وفاعلة من الشعب الفلسطيني، التي كانت أقصيت عن العمل الوطني، أو ابتعدت عنه، بحكم قصور البنى الفصائلية، وتحولها إلى بنى نابذة، وافتقادها إلى المأسسة والتمثيل والحياة الديمقراطية. ثالثاً، إن الملتقى بوصفه مبادرة، بين جملة مبادرات لجماعات أخرى، يؤكد، أيضاً، بأنه مجرد منبر يمثل المشاركين فيه، من دون إدعاء أي تمثيل، أو توخّي أي كيانية سياسية، ومن دون اعتبار نفسه مركزاً لأحد أو وصياً على أحد أو بديلاً من أحد. رابعاً، كان الملتقى حدّد مهماته بمحاولة قراءة الواقع الفلسطيني ومراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية بطريقة نقدية ومسؤولة، مع إعادة فحص التساؤلات القديمة وطرح التساؤلات الجديدة، على صعيد الشعب والقضية والحركة الوطنية، والمعطيات المحيطة، وضمن ذلك المساهمة، مع آخرين، في محاولة صوغ رؤى وطنية جامعة، تجاوب على مختلف الأسئلة، وإيجاد المعادلات السياسية التي تطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين وحركته الوطنية.
وعلى أية حال فإن النقاشات في الورشة النقاشية التي عقدها «ملتقى فلسطين»، ارتكزت على مبادئ، أولها، وحدانية شعب فلسطين، والتمسك بحقوقه الوطنية المشروعة، الفردية والجمعية. وثانيها، أن استعادة أي من تلك الحقوق، لهذا المجتمع أو ذاك من مجتمعات الفلسطينيين، لا يجب أن يخلّ بأي حقوق أخرى، ولا بحقوق أي مجتمع آخر، ولا أن يكون بديلاً منها، وضمن ذلك عدم وضع حق الدولة كبديل عن حق اللاجئين في العودة، ولا خيار الدولة في الضفة والقطاع في مواجهة حل الدولة الواحدة الديموقراطية في فلسطين التاريخية، وأن التكيّف الاضطراري مع أي وقائع، يتم فرضها بحكم موازين القوى والمعطيات العربية والدولية السائدة، لا يفترض به أن يلغي الحلم الفلسطيني، الذي يبقى حقاً للفلسطينيين، مهما كانت التحولات والتغيرات. وثالثها، أن الكيانات السياسية في حاجة إلى إعادة بناء على أسس وطنية ونضالية ومؤسسية وديموقراطية وتمثيلية، وهذا يشمل منظمة التحرير والسلطة والفصائل، باعتماد وسائل الانتخابات، ونبذ سياسة المحاصصة («الكوتا»)، بالاستفادة من تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية التي باتت تتيح ذلك، في الأماكن التي لا يمكن إجراء انتخابات مباشرة فيها. كما إن ذلك يفترض الفصل السياسي والوظيفي بين المنظمة والسلطة، وتمكين المنظمة من استعادة مكانتها كممثل لشعب فلسطين وكقائد لكفاحه، على الأسس المذكورة، وضمن ذلك إعادة تعريف الفصائل المكونة للمنظمة، بعد تآكل معظمها، وانحسار مكانتها، إن في الصراع ضد إسرائيل أو في إطار مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ناهيك عن افتقادها لهوية فكرية او سياسية.
أيضاً، طرحت في ورشة الملتقى، التي عقدت على نفقة الأشخاص المشاركين، تساؤلات صعبة يفترض بالفلسطينيين، لا سيما القيادات الفلسطينية إدراكها، ومحاولة الإجابة عليها بعيداً عن الانشاءات الاستهلاكية والعاطفية، لا سيما على ضوء تجربة طويلة ومضنية ومكلفة عمرها سبعة عقود. ومثلاً، هل يمكن المراهنة على صراع عربي- إسرائيلي، بغض النظر عن اعتبارنا أن إسرائيل معضلة عربية وليست معضلة فلسطينية فقط؟ وإذا كان الجواب سلباً على السؤال السابق، وأننا من الناحية العملية إزاء صراع فلسطيني- إسرائيلي، فما الذي يمكن لشعب فلسطين، بأوضاعه المعروفة، أن يفعله، أو ما الذي يستطيعه في هذه الظروف؟ ثم هل يسمح الواقع الدولي بهزيمة لإسرائيل، مهما كان مستواها، أم أن ذلك سيبقى مرهوناً بتغير الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية التي نشأت إسرائيل على أساسها قبل 70 عاماً؟ أيضاً، هل يقتصر الكفاح الفلسطيني على العمل المسلح، أم أن المقاومة أشمل من ذلك وأن الأصل هي مقاومة الشعب، بمختلف الأشكال المتاحة والمجدية والمناسبة؟ ثم هل أن ذلك يقتصر على مقاومة إسرائيل، أم أن الأمر يشمل بناء مجتمعات الفلسطينيين، وتعزيز كياناتها السياسية والمجتمعية، وتنمية مواردها البشرية وتمكين الفلسطينيين في فلسطين التاريخية من الصمود؟ وأخيراً، هل من الممكن تحقيق أهدافنا الوطنية، مهما كان حجمها، دفعة واحدة أم أن الأمر يحتاج إلى تدرجات، وضمن ذلك خلق بيئات تسمح بالتمهيد لذلك؟
هكذا ثمة كثير من الأسئلة المسكوت عنها، في خضم المنافسات والمزايدات والانشاءات الفصائلية، التي أضحت قيداً على تطور الفكر السياسي، والعمل الوطني الفلسطيني، وهي أسئلة يحاول الملتقى طرحها، لكن الإجابة عليها مسؤولية كل المعنيين والمهتمين من الفلسطينيين، مع ملاحظة على غاية الأهمية، يفترض إدراكها وتفحصها جيداً، ومفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي انتهجت الكفاح المسلح، كانت أثمرت، أو أعطت كل ما عندها، إلى العام 1974، وهو ما تمثل باستنهاض الشعب الفلسطيني، والاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير، في قرارات مؤتمر القمة العربية في الرباط، وفي كلمة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الأمم المتحدة، إلى حين الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، حيث تم فتح صفحة أخرى، تحتاج إلى حديث آخر، عن الاستثمار الخاطئ لهذه الانتفاضة وعن التحول الخطير في حركة التحرر الفلسطينية التي باتت بمثابة سلطة تحت الاحتلال. والمعنى من ذلك أن تلك الحركة لم تعد تقدم شيئاً جديداً بعد 1974، أي منذ، أكثر من أربعة عقود، ما يفترض إعادة النظر في وجودها، بطريقة نقدية وبمسؤولية وطنية، وطرح الأسئلة عن طبيعتها ومعنى وجودها، بعد أن أضحت بوضعها الراهن بمثابة عبء على الشعب الفلسطيني وعائقاً أمام تطور فكره السياسي وكفاحه الوطني.