الأسئلة التي سألناها لأنفسنا
يشدك أنين مكبوت ينفجر داخلك صراخا يعم الفضاء عبر تساؤلات أمل، التي تراود كل عربي من المحيط إلى الخليج .
تبرع الكاتبة في وصف تداعيات استهداف الغرب الاستعماري العنصري لبلادنا العربية الممتدة، وعبثه فيها جغرافيا وديموغرافيا، بتجزئة
الأوطان وتفريق الشعوب واستئصال فلسطين بإبادة الإنسان والمكان لاستبدالها بإسرائيل، وإدامة سيطرة الغرب الاستعماري على المنطقة الجيو-استراتيجية الأهم ، وإحكام هيمنته على النظام الدولي.
وتتوغل عميقا في وصف تشظي الإنسان العربي وهو يراقب المظلمة الفلسطينية التي تجمع العرب ، والمظالم العربية التي رافقتها وفرقتهم . وتختزل ذلك بالقول: “فلسطين توحد العرب وتفرقهم في الآن ذاته”.
وفيما يلي ترجمة للمقال: الأسئلة التي سألناها لأنفسنا
وأنت تنظر هذا الأسبوع إلى صورة جنين في أواخر القرن التاسع عشر ، الأراضي والمدينة و تقرأ عناوين الصحف حول ما تتعرض له . يغمرك وجع طاغ .
كنا تسعة أشخاص على طاولة العشاء، تم طرح كل المواضيع :
– طموحات إسرائيل في غزة ولبنان.
– حماس وحزب الله والمقاومة تحت راية لا إله إلا الله.
– دور حزب الله في دعم نظام بشار الأسد وإضافة المزيد من العذاب إلى سوريا
– الإرث لاستعماري والمخططات الإمبريالية.
– الولايات المتحدة كمحرك للفوضى أو مجرد انتهازي في بلاد مرحبة .
– نحن العرب كضحايا أو متسببين رئيسيين بمحننا المستمرة.
كل واحد منا نحن التسعة لديه قصة ليحكيها عن الحرب أو الهروب أو الموت أو البقاء أو الخسارة أو المنفى – وربما كل هذه الأشياء.
فلسطين، كما كانت على الدوام ، هي الموحدة والمفرقة: كانت الوحدة في دعم قضيتها وشعبها. وكانت الفرقة في ترجمة هذا الدعم.
ومن هنا، وجدت مواقفنا من كل أزمة اندلعت في ظلها مكانها على خريطة مزدحمة بالفصائل النازحة من معسكر إلى آخر، حسب القضية والمكان .
لاحظت على الفور أنه إلى جانب روح الصداقة بيننا، كان الألم يملأ كل كلمة ننطق بها تقريبا. السوري يشعر بفقدان بلده، واللبنانيون بفقدان بلدنا، والفلسطينية بفقدان بلدها.
ثم كان هناك الألم المشترك الناجم عن الاختيارات البائسة التي نضطر إلى اتخاذها، والتنازلات المهينة التي نضطر إلى قبولها، والحزن على القناعات التي نتخلى عنها، واللامبالاة التي نرتديها في النهاية كدروع ضد خيبة الأمل واليأس.
ومع مثل هذا الألم يأتي الفخ دائما تقريبا: التعلق به بعمق لدرجة أنه يجعلك غير قادر على إدراك أن الشعور به في نفسك يعني بالضرورة الشعور به في نفس الآخر. ليس فقط الاعتراف به، بل الشعور به! لأنه في الحديث حول الحياة والموت، لا تريد أبدا أن تجد نفسك تلعب تلك اللعبة الرهيبة المتمثلة في مقارنة الألم بشبكة القلب المكسور. تريد تطهيره من ضباب السياسة والكراهية والتحيز. تريد أن تكون رحلة نحو التعاطف والمشاركة العاطفية، وليس الاستثنائية والعداوة.
وهكذا فرضت الأسئلة الصعبة نفسها لا محالة. ففي هذا الكون الصغير الذي نعيش فيه، هل نريد أن نقارن بين آلام الفلسطينيين وآلام السوريين واللبنانيين والسودانيين واليمنيين والليبيين…؟
هل نستعرض أعداد النساء والأطفال الذين قتلوا، والجوعى، والمشردين؟ وطريقة القتل؟ وعمق الدمار واتساعه؟ والوقت الذي استغرقه؟
هل نضبط مستوى غضبنا وفقا لهوية الجاني؟
هل نربط بين معاناة شعب وعدالة قضيته والسلوك البغيض الذي يرتكبه أولئك الذين يمثلونهم أو يساندونهم؟
هل نبرئ إسرائيل من خطاياها لأن من بيننا مذنبون ببعضها؟
هل نعذر خطايانا لأن حلفاءنا أو أقاربنا هم من ارتكبوها؟
أليس لدينا خيار رفض كل عمل من أعمال القسوة من حيث المبدأ، دون التخلي عن المرونة التي تتطلبها منا ظروفنا أحيانا، مثل احتضان الأعداء السياسيين في إحدى الساحات ، والوقوف ضدهم في ساحة أخرى؟
هل نستطيع مثلا أن ندين دور حزب الله في سوريا ولكننا ندعم الحزب في مقاومته لإسرائيل؟
وهل نستطيع أن نرفض أيديولوجيته وسياساته في لبنان ولكننا نقبل حمايته ضد عدو غاز ؟
إن حزب الله قد يكون لاعبا سياسيا أنانيا يتلاعب بفلسطين لتحقيق غاياته الضيقة، ولكن ألا يمكننا أن نكون أنانيين على نحو مماثل؟
ألا يجد أولئك الذين يهاجمون حزب الله على ذلك ، أنفسهم يفعلون الشيء نفسه عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، وهم يعرفون تمام المعرفة سجلها المروع في كل مكان في العالم العربي؟
هل كان الجيش الإسرائيلي لينسحب في العام 2000 لو لم يتشكل حزب الله في العام 1982 لمقاومة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان؟
هل كنا لنبكي الآن على منطقتنا الجنوبية المطهرة عرقيا ونواجه حركة استيطانية سرطانية؟
هل كان القانون الدولي ليحمينا، أو كما قال دورون نير تسفي ـ أحد زعماء المشروع الاستيطاني الحريصين على غزو الجنوب واستيطانه ـ عن سهولة استعمار الضفة الغربية ومرتفعات الجولان: “لقد نبح الكلاب، ثم تحركت الأمور”؟
لا أستطيع تلخيص حديث استمر ساعات طويلة في ألف كلمة أو أقل، لكن هذا كان جوهر الحديث حول حساء اللوز البارد والصيادية (السمك والأرز) يوم السبت الماضي. وكنا هناك، فصائل تهاجر بين المعسكرات.
بصراحة لم أجد صعوبة في فك هذا النسيج من المعضلات. نعم، من الصعب أن نعيش معها ولكن ليس من الصعب أن نفككها. فبعد ثمانين عاما من الحرب على فلسطين، لابد وأن يكون واضحا تماما لأي مراقب، وخاصة أولئك في إسرائيل والغرب، أن فلسطين بالنسبة لنا مستمرة وحاضرة دوما. ومن ثم فإن إنكار حقيقة مفادها أن هذا الشعب الذي تعرض للوحشية، باعتبارها تاريخا، وصدمة، وظلما، وسياسة، ورواية وشعرا، وقضية ، تملأ قلقنا وذاكرتنا الجماعية، باعتبارنا من أهل المشرق، يشكل جهلا متعمدا.
ومن الواضح أن هذا هو شعور العديد من العرب أيضا. فمهما كانت معتقداتنا متنوعة ، ومهما كانت حججنا مثيرة للجدل، ومهما كانت هوياتنا ملتبسة، فإن فلسطين هي نحن بكل ما فينا. ألمها عميق إلى هذه الدرجة في وجداننا، ونحن بشر إلى هذا الحد.
لقد ظلت إسرائيل وأصدقاؤها الغربيون، في حيرة من أمرهم إزاء هذا الواقع الذي لا مفر منه، يسخرون منا لعقود من الزمان بسبب الغضب الذي نشعر به تجاه فلسطين، والهدوء الظاهري الذي يخيم علينا عندما يتعلق الأمر بمآسينا المحلية.
وهم لا يدركون بطبيعة الحال دورهم في المساعدة على توليد الاضطرابات التي تخترق منطقتنا، ويتصورون أنفسهم أذكياء في الإمساك بنا ونحن نختار طريقنا عبر مظالمنا.
ولكن، بأي مقياس يقيسون الألم الحقيقي الذي نشعر به تجاه جيراننا المعذبين؟ لن يخطر ببالهم أبدا أننا ربما نتأثر بهذا القدر من المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون على وجه التحديد، لأن الفلسطينيين كانوا دوما غائبين بشكل واضح في قوائمهم الواسعة من الضحايا الذين يقدرونهم.
وأن صرخاتنا من أجل هذا الشعب عالية لأن صرخاتهم ضعيفة إلى حد لا يغتفر.
ولم يكن من الممكن أن يخطر ببالهم قط أن أنظمتنا لا تمثل مجموعنا. ولهذا السبب، فإنهم لا يكفون عن التكهن بأن فلسطين سوف تتلاشى، لتصدمهم بأنها ما تزال تقاوم ، وتصرخ من أجل الحياة .
من وحشية السياسة أن الغرب الرسمي لم يشعر أبدا أنه ملزم بتفسير إنسانيته الانتقائية.
ولم يكن ذلك على نحو فاضح قط كما هو الحال عليه اليوم في ظل حملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنها إسرائيل على ما تبقى من فلسطين للفلسطينيين.
وكان ذلك ،أيضا، يجري على مرأى ومسمع العديد من الغربيين الذين يتملكهم الرعب إزاء تواطؤ قادتهم المنتخبين ديمقراطيا في مثل هذه الجرائم.
ولكن، لماذا يرى هؤلاء القادة ضرورة لتفسير أفعالهم، عندما تكون الأسباب واضحة ومخجلة للغاية.
وفي هذا الشأن بالذات ، من المثير للاهتمام أن ضيوف العشاء التسعة كانوا واحدا. ماذا نسمي هذا؟
أود أن أختتم بهذه التغريدة الحديثة للمحامي الإسرائيلي دانييل سيدمان، أحد حكماء بلاده الحقيقيين :
” لا أتحمل أي مسؤولية عن أي ارتباطات قد تثيرها هذه الكلمات.
لقد فقد الحاخام يهودا يكوتيئيل هالبرستام، حاخام كلاوسنبورغ، زوجته وعشرة من أبنائه في الحرب العالمية الثانية. وقد نجا من معسكرات الاعتقال المتعددة و”الأعمال الإجرامية”. وبعد الحرب، سأله تلميذه عن تجاربه خلال الهولوكوست. فقال: “كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ. كان من الممكن أن نكون نحن من ارتكبوا أعمال القتل.
المصدر: