الأدب الفلسطيني بينَ تَحفيز المُقَاوَمَةِ وتَحَدِّيَات التَّطبيعِ ومُغْرَيَات الْحداثَة


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

(1) مِنْ زمَكَانِ الْحَقْلِ إلى أَزْمِنَةِ الصُّمُودِ والْمُقَاوَمَة
يَتَوَزَّعُ “الأدبُ الْفِلَسْطِينيُّ”؛ بالمْفْهُومِ الْوِجْدَانِيِّ الزَّمَكَانِيِّ القَائِم عَلَى الرَّبطِ مَا بين “الأنَا الكاَتِبَةِ” الْمُنْحَدرِ صَاحِبُهَا، أو صَاحِبَتها، مِنْ “أُصُولٍ فِلَسْطِيْنِيَّة” تَصِلُهُمَا بِأَرْضِ “فِلَسْطِين” الَّتي هِيَ “أرْضُ الْفِلَسْطِينِيين” والمجَال الحيَويِّ لِوجودِهِم وتَشَكُّلِ وُجدَانِهِم الفرديِّ والْجَمْعيِّ في سِياقِ إبداعِ حضَارتِهم الْفِلَسْطِينيَّةِ الإنْسِانيِّةِ، وبِناءِ مَنْظُومَاتِهم الثَّقَافِيَّة الْمُلْتَحِمَة بالْحَيِّز المكانيِّ الَّذِي تُمَارسُ فِيْهِ هَذِه الأَنَا وُجُوداً زَمَانِيَّاً مُتَعَيَّناً، في التَّوِّ واللَّحْظَةِ وعلى أيِّ نَحْوٍ مِن أَنْحَاءِ التَّعَيُّنِ والإحالة المُوضُوعِيَّةِ لِلذَّاتِ في الْوجودِ، وليسَ مِنْ أيِّ مَنْظُورٍ آخَرَ يَنْفِي هذا الرِّبطَ “الوِجْدَانيَّ الْزَّمَكانيَّ” ليَتَعلَّقَ، مَثَلاً وفَقَطْ، بِمِعْيَارِيَّةِ الأَدَبِ الْجَمَالِيَّةِ المفتوحَة على التَّجَدُّدِ الْمعْزولِ عَنْ مُسَبِّبَاتِه، يَتَوَزَّعُ إلى “آدَابٍ” يَحْتَوي كُلُّ “أَدَبٍ” مِنْها نُصُوصاً تَتَّسِمُ بخَصَائصَ ومُكَوِّنَاتٍ وُجْدانِيَّة مَكانِيَّةٍ وزَمَانِيَّة لا تُخْطِئُهَا عَينُ قارئٍ يَقظٍ، أَو نَاقِدٍ لَمَّاح، وتَنْطُوي عَلَى مَا يُمِيِّزُ هَذا الجَنَاجِ مِن الأدب الَّذي تَنْتمي، أَوَّلِيَّاً، إليهِ عَنِ نَظِيرهِ، أو قَريْنِهِ، مِن الأجْنِحَةِ الأدبِيَّة الْمُنْدَرجَةِ في إطَارِ “الأَدَبِ الْفِلَسْطِيْنيِّ” بِمفْهُومِه العَميقِ والْوَاسِعِ، والمُتَعَدِّد الأجْنَحَةِ، ونَبَراتِ التَّغْريدِ، وأصْواتِ العَوِيلِ، واتَّجاهَاتِ الرَّحيلِ، ومَسَاراتِ الْعَودِ إلَى النَّبْعِ والْجَذْرِ؛ إلى مَسْقَطِ الرَّأس!
ولِهَذا الفَرْضِ الأوَّليِّ أَنْ يَتَأصَّلَ بِمُعْطَياتٍ وخَصَائصَ تَنْفَردُ بِهَا، أو تَتقَاسَمُهَا، تَجَلِّياتٌ نَصِّيَّةٌ نَجَمَتْ عَنْ تَجَاربَ شَخْصِيَّةٍ مُتَغَايرةِ الْمُكَوِّنَاتِ، والتَّفَاصِيلِ، والتَّوجُّهَات، والأكْنَاهِ؛ تَجَارب خَاضَتْهَا “الأنوات الكاتبة”، فَصَاغَتْها في “نُصُوصٍ أَدَبِيَّة” لَهَا هَذا القَدْرُ أو ذَاكَ مِن “الإبْداعِيَّةِ الْجَمَالِيَّة”، ولَكِنَّها تَعْكِسَ، في كُلِّ حَالٍ، هَذِه التَّجَاربَ المُتَفَرِّدةِ، أَو الْجَمْعِيَّة المُشْتَركَة، في أشكالٍ أدَبِيَّةٍ مُنوَّعةٍ، سَواءٌ أكانتْ مُوغِلَةً في القِدمِ كالأَساطير والملاحم والسِّير والحكاياتِ الخُرَافِيَّة والشَّعْبِيَّة وغيرها، أو في أشكالٍ أدبِيَّةٍ حديثَةَ عَهْدٍ بالوجودِ، كَانْ تَكونَ نُصُوصاً قَصَصيَّةً تَنْفَتِحُ عَلى سَردٍ رِوائيٍّ مُوسَّعِ يُجَسِّدُ هَذه التَّجاربَ، أَو قِصَصاً قَصيرةً تَكْتَفي بالإيْماءِ إليْهَا مُضيْئَةً سُبُلِ اسْتِنْباطِ جَوهَرهَا الكاشِفِ في قَصٍّ سَرْديٍّ مُكَثَّفٍ، أو نُصُوصَاً شْعْرِيَّةَ تُضيءُ خُلاصَاتِهَا عَبْرَ ومْضٍ شِعْريٍّ مُرَمَّزٍ يَشِي بِمُكْتَنزاتِهَا ويَفْتَحُ، لدى القارئاتِ والقارئين، آفَاقَ تَخْييلٍ يُتِيْحُ إمكانِيَّة استدعَائهَا، كتَجَاربَ حَياةٍ، مِنْ أَطواءِ ذَاكرةٍ فَردِيَّةٍ وجَمْعِيَّةٍ حَيَّةٍ لا يَزالُ الواقِعُ القَائمُ مُتْخَمَاً بِنظائِرهَا، أو آفَاقَ تَخَيُّلٍ تَأَمُّلِيٍّ يُنْتِجُ دلالاتِهَا الْبَعِيْدةِ، ويُطْلِقُ إِشَاراتٍ تُومِضُ بمَعْنَاها، أَو تُفْصِحُ عَنْ شَيءٍ مِنْ عَميقِ رُؤَاهَا ومَغْزاهَا.
فَثَمَّةَ، إذنْ، وفي ضَوءِ المِعيْارِ الْوِجْدَانِيِّ الزَّمَكَانِيِّ، وتَأْسِيْسَاً عَلَى اسْتِمَرارِيَّة اللُّحْمَة الحَضَاريَّة التَّاريخيَّةِ الرَّاسِخَةِ عِبْرَ أَزمِنَةٍ هي كُلُّ الأزْمِنَةِ بين “الْفِلَسْطِينيِّ” وأرضِ وطَنهِ المنْسُوبَةِ إِليْه: “فِلَسْطِينَ”؛ ثَمَّة “أَدبٌ فَلسْطِينيٌّ” أَنْتِجَهُ أُدبَاءٌ فِلَسْطِيْنُونَ باسْتِمرارِيَّةِ غيرِ مُنْقَطِعَةٍ، وفي ارْتِبَاطٍ وثَيقٍ بِفِلَسْطِيْنَهُم الَّتي هِيَ مَدِارِهِم الْوجُوديِّ الْحَيويِّ مُذْ فَجْرِ تَاريِخِهم الإنْسَانيِّ الْحضَاريِّ الْمفتُوحِ عَلَى صَيرورة الحَياةِ وتَحَوُّلاتِ الأحْوَالِ والأزمنَةِ، وضِمْنَ هَذَا الأَدبِ، بالطَّبْعِ، ورُبَّمَا في صُلْبِه، الأسَاطِيرُ والملاحِمُ وجميع أنواعِ وأشكالِ وأنْماطِ ما صَارَ يُعْرفُ في أَزمنتنا الحديثَة بـ”الأدبِ الشَّعْبيِّ”.
ووفْقَ المِعيْارِ الْوِجْدَانِيِّ الزَّمَكَانِيِّ، ومِنَ الوجْهَتين الفكرِيَّة والجَمَالِيَّة، لا أحسبُ أنَّ ثَمَّه مِنْ مُصْطَلَحٍ يُمكنُ اقتراحُهُ ليُكَثِّفَ السِّمَاتِ الغالبِةِ على “الأدبِ الْفِلَسْطِينِيِّ” في هَذه المرحَلَةِ الحَضَارِيّةِ الْمتَواصِلِة الكُبرى، إلَّا العِبَارة الاصطلاحِيَّة: “أدَبُ زَمَكَانِ الْحَقْل”، التِّي تَراهُ أَدبَاً يَنطَوي، مِنْ مَنْظُورتٍ معيارِيَّةٍ أُخْرى، على تنَوِيِعٍاتٍ وتَمَايزاتٍ، لا تُخِلُّ بِلُحْمَتِه، ولا تَخْدُشُ رُسُوخَ انْتِمَائِهِ الْوِجْدَانِيِّ إلى هذا الزَّمَكانِ الْمدَيد، وانْتِماءِ هَذا الزَّمَكانِ إلى الوجْدانِ الْكلِّي الَّذي أَنْتَجَهُ، بِقَدْرِ مَا تُعَزِّزُهُمَا.
***
واستناداً إلى الْمِعْيَارِ نَفْسِه، وتَأسيساً على مُعْطِيَاتِ “واقِع الحَالِ” الاقْتِلَاَعيِّ التَّشَتُّيتِيِّ الانْقِسَاميِّ الاغْتِرابيِّ الرَّاهِنِ، الْواسِمِ عَلاقَةَ الْفِلَسْطيْنِيِّ الظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ الْوِجْدانِيَّة الْبَاطِنَةِ، بِأَرضِ وطَنهِ “فِلَسْطِين”، والنَّاجِمِ، أصْلَاً، عَنِ اسْتِهدافِ هَذِهِ الأَرْضِ، مُنْذُ نِهايات القرنِ التَّاسِع عَشر حتَّى اللَّحْظَة، بالاحْتِلالِ والاسْتِيْطَانِ والسَّلْبِ والنَّهْبِ، وأَصْحَابِها الأصْلِيينَ بالْقَتْلِ والاقتلاع والطَّردِ والتَّهْجِيرِ القَسْرِيِّ والنَّفْيِّ والتَّصْفِيَة الْعِرْقِيَّة والإذابَة، وتاريخِهم وحَضَارتِهم وتُراثِهم الثَّقافيِّ الفلسْطِنيِّ الْحَيَويِّ الْمُتَجَذِّر في أرضِهِم بِقدرِ رُسُوخِه في وجْدَانِهِم، بالتَّزوير والسَّرِقَةِ والاسْتِلَاب وإدِّعَاءِ الْملكيَّة في اقترانٍ مع إدِّعَاءِ مِلْكِيَّة الأرضِ؛ ثَمَّةَ “أدَبٌ فلسطينيٌّ” مَوسُومٌ بِجُروحِ هَذا الاسْتِهْدافِ، وعَذَابَاتِه، وعَقَابيلَ تَصَاعُدهِ وتَوالي مَراحِلِهِ الْمَفْتُوحَةِ عَلى زَمنٍ يُرادُ لَه أنْ يَكونَ مفتوحَاً لَيْشَهَد، ذاتَ لَحْظَةٍ تاريخيَّة، اكتِمالَ تَحَقّقِ غَايَاتِ الاسْتِعماريِّة الصُّهْيونِيَّة السَّوداء!
ومَا هَذا الأدبُ، في حَقِيْقةِ حَقِيْقَتِهِ، إلَّا أدبٌ أنْتَجَهُ أحُفَادُ أُدبَاءِ زَمكَانِ الحَقْلِ الفلسْطِينيِّ المَديدِ، وأَحْفَادُ أَحْفَادِهِمِ، وأبْنَاء هَؤلاءِ وأحْفَادهم عَلى مَدَى زَمَنٍ يَربُو عَلَى قَرْنٍ ونِصْفِ قَرنٍ، ومَا مِنْ مَنْظومَة سِمَاتٍ أراهَا غَالِبَة عَلَيْه إلاَّ ثالُوث السَّمَاتِ الضَّافِر سِمَةَ إنْهَاضَ الوعيِّ الْحَقِيقِيِّ بِسِمَتَيِّ مُواجَهةِ التَّحَدِّيَاتِ وتَحْفِيزِ الصُّمُودِ وإطْلاقِ الْمُقَاوَمَة البَاسِلَةِ بِشَتَّى أَشْكَالهَا؛ إنَّهُ، إذنْ، “أدبُ الْمُقَاومَةِ” أو “الأَدَبُ الْمُقَاوِمُ”، ولَكِنَّهُ، فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، أَدبٌ لا يَخْلُو، بِحُكْمِ كَونِهِ “تَعْبِيراً ذَاتِيَّاً”، أو لِكَونِه مَجَالاً مِن مَجَالاتِ الاسْتِهْدَافِ والصِّراعِ والأدْلَجَة، مِنْ تَوجُّهَاتٍ تَسْعَى لأَخَذه بِعِيْداً عنْ ثَالُوثِ سِمَاتِهِ الدَّلالِيَّة الغَالِبَة، ورُبَّمَا صَوبَ نَقِيْضِهَا التَّيْئِسيِّ الإذْعَانيِّ الفَادِحِ، وذَلكَ عَلَى نَحْوٍّ يُفْقِدُ تَجَلِّياتِه النَّصِّيَّةَ المُكُوِّناتِ والخَصَائِصَ الْجَمالِيَّةَ الْأسَاسِيَّة الَّتي تَسِمُ الْجِنْسَ، أو النَّوْعَ، الأدبِيَّ الَّذي تَنْتَمِي إِلَيْه، ويُعْدِمُهَا وُجُودَ الْسَّماتِ الجَمَالِيَّة الَّتي تُواشِجُ ثَالُوثَهُ الدَّلالِيَّ فَتُمَيِّزهُ: نَسِيْجَاً، وبِنَاءً، وتَقْنِيَاتٍ أُسَلُوبِيَّةً، وكيْفِيَّاتِ قَوْلٍ بِكَونِهِ “أدَبَاً فِلَسْطِيْنِيَّاً” جَديْراً باسْمِه!
يَبْدَأُ هذَا الزَّمنُ، الْمُتَطَاوِلُ في الزَّمَنِ حَتَّى اللَّحْظَةِ الرَّاهِنَة، مِنْ لَحْظَةِ تَبَدِّي إِشَاراتٍ إرْهَاصِيَّةٍ أنْبَأَتْ مُلْتَقِطِيْهَا مِنَ الأُدَبَاءِ الْفِلَسْطِينيينَ بِبَدءِ التَّحْضيرِ لِلْغَزو الاسْتِعْماريِّ الصُّيهْونيِّ الاستيطانيِّ لأَرضِ فِلْسطينَ، فَأَنْتَجَتْ تَوجُّسَاً فِلَسْطِينِيَّاً، رُبَّمَا كَانَ هَذا التَّوجُّسُ ضَئيلاً أو مَحَدودَ الانْعكاسِ في الأَدَبِ الْفِلِسْطِينيِّ الْمُرْهِصِ بِوُجُوده، مِنَ التَّغَاضي الرَّسميِّ عَنْهُ، ومِنْ عَدم التَّهّيُّؤِ الشَّعْبِيِّ لكَبْحِهِ، ومِنْ عَقَابيل تَركِه يَمْضِي، بِلَا مُقَاوَمَةٍ حقيقيَّةٍ، إلى مُبْتِغَاهُ.
***
ولِهَذا الزَّمَنُ البادئُ بلحْظَة التَّوجُّسِ تِلْكَ، أنْ يَضُمَّ لَحْظَةَ تَلَمُّسِ وجُودِ تَحْضِيراتٍ لُوجِسِتِيَّةٍ لِشَنِّ الغَزوِ تَبَدَّت في هَيْئَةِ وقَائِعَ يِجْرِي تَجسيدهَا فَوقَ الأَرْضِ، فَتُدْرَكُ كـ “حَقائِقَ قَائِمَةٍ”؛ وَلَحْظَةِ سُفُورِ الْمَطَامِعِ الاسْتِعْمارِيَّةِ الصُّهُيُونِيَّة في أرضِ “فَلِسْطينَ”، وفي تَاريخِها وحَضَارتِهَا ومُسْتَقْبَلِهَا؛ ومَن ثَمَّ جَميْع اللَّحظاتِ التَّي أعقبتْ ذلكَ السُّفُورِ في تَوالٍّ مدروسٍ، والَّتي نَسْتَطِيعُ وسْمَهَا بالاجتماعِيَّة التَّاريخيَّة لِكَونِهَا قَد أفضَت، ضمن ما قد أفضتْ إليه، إلى تُقَسيمَ أرضِ فَلَسْطِينَ، وتجْزِئَتِهَا، وفَصْلِ أَماكنَ وُجودِ مُكَوِّناتِ شِعْبِهَا عنْ بعضِها بِعضاً، لِتُجَزِّئَ هَذَا الشَّعْبِ، ولِتُواصِل العملُ على قِطْعِ مَا يَجمَعه بِأرْضِهِ الواحِدةِ وبِوجْدانِه المُشترك مِنْ أوْصَالٍ، قَبلَ أنْ تَعِملَ على تَوحِّيْدِهَا تحتَ الاحْتلالِ الصُّهيونيِّ مُحْتَفِظَةً بتَجِزِئَةِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ عَبْرَ تشتيته في أماكنَ معزولَةٍ، وفي مَنافٍ، وفي مُخَيَّماتٍ لُجُوءٍ قَسْرِيٍّ، مَحْكومَاً كُلٌّ مُنْها بِضَروراتٍ، ومُؤَثِّراتٍ فَاعِلَةٍ، وأنْمَاطِ حياةٍ، وتحدِّيَاتِ حياتيَّة ووُجوديِّةٍ مُتَغايِرةٍ، وذلكَ لتفكيكِ لُحْمَةِ الشَّعْبِ عَلَى طريقِ تَذويبِ هُوِيَّتِه الوطَنِيَّة الْجامِعَة، وتَصفيتهِ، ونَفي وُجوده، وبالتَّالي، نفي وجُودِ قَضِيَّته عَلَى نَحو يُرسِّخُ وُجُودَ، وصِدْقِيَّة، السَّردِيَّة الصُّهيونِيَّة الأسطورية الزَّائفة التَّي تَمَّت أدلَجتُهَا دينياً وسياسياً فَصارتْ عَقِيدةً وخُطَّةَ عَملٍ مَفْتَوحَةً على التَّحقُّقِ في ظِلِّ واقِعٍ فلسطينيٍّ وعربيٍّ وإنْسانيٍّ بَائسٍ ومريرٍ، واسْتِنَاداً إلى مَوازينَ قُوىً، ومُعَادَلاتٍ، تُوْغِلُ في الاخْتِلالِ الْفَادحْ!
ولستُ أحْسَبُ أنَّ اللَّحَظاتِ الأدَبِيَّة الَّتي نُشيرُ إليها بِمُنْفَصِلَةٍ، بِأيِّ وَضْعٍ أو حَالٍ، عنْ التَّحَولاتِ الجِيُوسِيَاسِيَّة الَّتي واكَبتْ، أو نَجَمَتْ عَن، مُتابَعة تنفيذ الخُطَّة العملِيَّة الاستعمارِيَّة الْمُمَرْحَلَة، والَّتي تَوخَّتْ اجْتِثَاثِ السَّردِيَّة الفلسطينيَّة وجَعْلِ السَّرديَّة الاسْتِعْمَارِيَّة الصُّهيونِيَّة الأسطورِيَّة واقِعاً قَائِمَاً يَتَجَسَّدُ، عِيَانَاً، فَوقَ أرضِ فِلْسْطِينَ وفوقَ كُلِّ أرضٍ تَطالُهَا هَذهِ السَّرديَّة الزَّائِفَة، ويُزْعَمُ لَهُ وجُودٌ في بَاطِنِها الْعَمِيْق. وسَيَكُونُ لَناَ أنْ نُقَاربَ، في مقالاتٍ لاحقَةٍ وبِتبَصُّرٍ مَوضُوعيٍّ نَاقِدٍ وجَذْريٍّ وذي رؤَىً مُسْتقْبَلِيَّة، هَذهِ اللَّحَظَاتِ الأدَبيَّة المُتَواشِجَةِ بِعُمْقٍ جُذُوريٍّ مِعِ تِلْكَ التَّحَولاتِ.
***
ثَمَّةَ، إَذَنْ، مَرْحَلَتَانِ نَوعِيَّتَانِ كُبْرَيَانِ للأدبِ الْفِلَسْطينيِّ مُذْ بُزُوغِهِ مَعْ بُزوغِ فَجْرِ التَّاريخِ الإنْسَانيِّ الحَضَاري في فِلَسْطين حَتَّى اللَّحْظَة التَّاريخيَّةِ الرَّاهِنَة: مَرحَلَةٌ أُولَى تَتَّسِم بالاستمراريَّة الحضَارِيَّة، واللُّحْمَةِ الْوجَدَانِيَّة، والتَّواصُل الوجوديِّ بَينَ الْفِلَسْطِينيِّ وأرضِ وَطَنِه فِلِسطينَ، فَلا يَتشَظَّى فِيهَا الأَدَبُ فَاقِدِاً لُحْمَتَه الفكريَّة والجماليَّة، ولا تَتَغَايرُ سِمَاتُهُ وخَصَائصهُ الْجَوهَرِيَّةُ الْمُتَفَاعِلَةُ الَّتي تُكْسِبُه هُوِيَّتَه، ولَا يتَعدَّدُ ويَنْفَتِحُ عَلَى تَمَايزاتٍ تَطَالُ أشكالهُ ومضامينَه على نَحْو ما هي عليْه الْحَالُ في المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ الْكُبْرى الَّتي نَحْسَبُهَا تَتَنَاظَرُ مَعْ “واقِعِ الحَالِ الرَّاهِنِ” المُسْتَمِرِّ مُنْذُ نَحْوِ قَرنٍ ونِصْفِ قَرنٍ، والَّتي تَضُمُّ مِنَ المراحِلِ والأحقابِ والتَّوَجُّهَاتِ والتَّيارات والأجْنِحَةِ مَا يَنبَغي التَّوقُّفُ مَلِيَّاً، ومنَ الوْجْهَة النَّقْدِيَّةِ الرَّصِيْنَة، أَمامَ تَفَحُّصِهِ ودراسَتِه وفَرزه وتَصنيفِه، وذلكَ في سِيَاقٍ يُؤَسِّسُ للتَّجَاوبِ النَّقْديِّ الاجْتِهَادِيِّ الْجادِّ مَع دَعوة مَجلَّة الهَدفِ إلى قِراءةِ الْمشْهَدِ الأدبِيِّ الْفِلَسْطِينيِّ الرَّاهِنِ، بَلْ وإعَادةِ تَأويلِهِ ونَقْدِه، من مَنظورٍ ثُلاثيٍّ يَتَمثَّلُ في إنْهَاضِ الوعيِّ الحقيقيِّ وتَحْفيزِ الصُّمُودِ وإطْلاقِ المُقاوَمَة الْمُتَصَاعِدةِ مِنْ الوجْهَةِ الأُولَى، وفي كَيفِيَّاتِ الاسْتَجَابَةِ لتَحَدِّيَاتِ التَّطْبيعِ الْمجَّانيِّ الْعَرَبِيِّ، وغير الْعَرَبيِّ، مَع السَّارِقَة “إسْرائِيلَ”، ولِمُغْرَيَاتِ الْحَدَاثَةِ الأدبِيَّة، ومَا بَعْدَهَا، ومَا بَعْدَ بِعْدِهَا، مِنْ الْوجْهَتَينِ الثَّانيَةِ والثَّالِثَة.
ولِمنْهجِيَّاتِ عِلْمِيِّ “تاريخ الأدب” و”اجْتِمَاعِ الأَدبِ”، مُتَضَافِرةً مع ما تُقَدِّمُهُ مَنَاهِجُ النَّقْدِ الأدبيِّ الْمُعَزَّز بِتبَصُّراتٍ مَعْرِفِيَّة قَدَّمَها عِلْمُ الْجَمَال، وبِكُلِّ مَا تَتوافَرُ علَيهِ علُومٌ إِنْسَانِيَّةٌ وثيقةُ الصِّلَةِ بالآداب والفُنُونِ: إبْدَاعَاً وتحليلاً وتَفْسِيراً وتَأْويلاً ونَقْدَاً، مِنْ مَعارفَ مُؤَصَّلَةٍ، ومَنَاهِجَ بَحْثٍ رصينَةٍ، وآليَاتِ اسْتِقْراءٍ عَقْلِيٍّ واسْتِنْبَاطٍ مَنْطِقيٍّ وتَبَصُّرٍ مَعْرِفيٍّ، وإجْراءاتِ نَقْدٍ، وتَأْويلٍ، وإدراكٍ، أَنْ تُمَكِّننا مِنْ قِرَاءةِ شتَّى تَجَلِّيَاتِ الأدبِ الفلسطينيِّ الْمنْتَجِ مِنْ قِبَلِ أُدبَاءَ فِلْسْطِيْنِيِّينَ، باللُّغَةِ العربِيَّةِ، وبِغَيرهَا مِنْ لُغَاتِ العَالَمِ، قِراءةً نَصِّيَّةً عَميقَةً تسْتَكْشِفُ، بِتَوسُّعٍ اسْتِقْصَائِيٍّ ودِقَّةٍ نَقْدِيَّةٍ، كُلَّ مَا تَتوافَرُ عَلَيَهِ هَذهِ التَّجَلِّياتِ المُتَواصِلَةِ الانْبثاقِ والوُجُود في مَدَاراتِ هَذا الأَدَبِ، مَنذُ نَحْوِ مُنتصَفِ القَرنِ التَّاسِع عَشَرِ الميلاديِّ حتَّى اللَّحظَةِ، مِنْ مُكُوِّنَاتٍ زَمَكَانِيَّةٍ مُتَغَايِرةٍ، وتَجَاربَ حَيَواتٍ وأحْوالاً وُجْدَانِيَّةٍ بَالِغَةِ التَّنَوُّع، وخَصَائِصَ جَمَالِيَّةٍ وأَسَاليبَ قَولٍ مُتَبايِنَةٍ، وتَوجُّهَاتٍ رُؤيَويِةٍ تَنْطَوى عَلَى ثَراءٍ دلاليٍّ يُغْنيْهَا، أو عَلَى تَمَايُزَاتٍ جَذْرِيَّة تِسِمُهَا بالتَّباينِ أو حَتَّى بالتَّنَاقُضِ، وذلِكَ على نَحْوٍ يُمَكِّنُنَا، عَبْرَ جَهْدٍ فَرْديِّ وجَمْعيٍّ، وبِتَوظِيفٍ تَكامُليٍّ لِمنَاهجِ الدِّراسَة النَّصِّيَّةِ المفتُوحَةِ والنَّقْدِالأدبِي الرَّصِينِ، مِنْ إعادةِ تَأويلٍ نُصُوص “الأدبِ الفلسطينيِّ”، وإعادةِ فَرزِهَا وتَصْنيفِها في ضَوءِ هَذَا التَّأويلِ الْمفْتُوحِ عَلَى مَا يَستجيبُ ليسَ لِمُعطَياتِ “وَاقِعِ الحَالِ الفلسطينيي الرَّاهِنِ” فَحَسبُ، بِلْ ولِمُعْطَياتِ “وقَائعِ الأحْوالِ الْفِلَسْطِيْنِيَّة” الَّتي تَوالَتْ انبثاقَاً ورُسُوخَاً، والَّتي تَكَرَّسَتْ، مَع استمرارِ الاستبدادِ السُّلْطَويِّ، وتَقَاعُسِ أغْلَبِ الأنْظِمَةِ الْعَرَبِيَّة الْحَاكِمَةِ، وبُؤسِ الْوَعْيِّ وضَبَابِيَّتِه، وخَفَشِ الرُّؤى اللَّعَمِيَّة، وفَقْرِ الأَدَاء، واخْتَلالِ الموازين، ومُرُور الوقْتِ، وغَير ذلِك مِنْ أُمُورٍ، لِتُفْضِي إِليْه.
نُشِرَ هَذَا المَقال الاستهلالي في مجلة “الهدف”، العدد 19(1493) تشرين الأوَّل/أكتوبر 2020 (الصَّفخات: 68–70)
اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: عبد الرحمن بسيسو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *