الآليات القانونية المتاحة لمحاكمة إسرائيل بعد حرب غزة 2023

I. ملخص تنفيذي

تستكشف ورقة السياسة هذه الآليات القانونية المتاحة لمحاكمة إسرائيل بتهمة انتهاك القانون الدولي خلال حرب غزة سنة 2023، وتحلل المبادئ الأساسية للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات والقرارات وغيرها من الاتفاقيات الدولية، وذلك لتقييم مسارات ممكنة للمساءلة القانونية، كما تُبرِز أهمية وجود إجراءات قضائية عادلة ونزيهة للتصدي لانتهاكات كهذه، وتعزيز العدالة، والمساهمة في تحقيق سلام دائم في العالم.

II. المقدمة

أثارت حرب غزة في سنة 2023 قلقاً كبيراً بسبب انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان من جانب إسرائيل من دون رادع. وتسلط ورقة السياسة الراهنة الضوء، عبر آليات قانونية متنوعة، على ضمان المساءلة عن أي انتهاكات لهذه القوانين والمبادئ، كما تقدم نظرة عامة إلى السبل القانونية المتاحة لمحاكمة إسرائيل على أفعالها خلال حرب غزة.

1- الاتفاقيات الدولية والبروتوكولات والقرارات (القانون الدولي الإنساني):

توفر اتفاقيات جنيف الأربع – وهي سلسلة المعاهدات الدولية التي تنص على قواعد الحروب الإنسانية – حماية للمدنيين وغير المقاتلين خلال النزاعات المسلحة، وقد وقّعت إسرائيل هذه الاتفاقيات، لكن من دون المصادقة عليها، ولم تُدخل أحكامها ضمن قوانينها الداخلية. ويجب أن تؤدي الانتهاكات المرتكَبة، كاستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية واستخدام القوة بصورة مفرطة والتهجير القسري، إلى التحقيق والمحاكمة وفقاً لأحكام المواد رقم 3 و27 و49 من اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949،[1] والتي ترعى وجوب حماية المدنيين، بالإضافة إلى المادة رقم 18 منها، والتي تحظر استهداف المنشآت الاستشفائية والطبية.

هذا بالإضافة إلى البروتوكول الأول لسنة 1977،[2] وتحديداً المادة رقم 79 منه بعنوان “تدابير حماية الصحفيين”، والتي تنص على موجب حماية الصحافيين، وهو الأمر الذي لم تلتزمه إسرائيل، بل على العكس، فقد قامت باستهدافهم على نحو مباشر. وكذلك الأمر، تندرج قرارات مجلس الأمن في هذا الإطار، كالقرار رقم 1738 بتاريخ 23/12/2006 بعنوان “حماية المدنيين في النزاعات المسلحة”.[3] 

وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تكن طرفاً في البروتوكولات العائدة إلى هذه الاتفاقيات لسنة 1977، فإن ذلك لا يسمح لها بالتنصل من موجبها في احترام المعايير الدولية الإنسانية.

وفي هذا الإطار، لا بد من تفعيل الآليات القانونية والقضائية لتحميل المسؤولين الإسرائيليين المسؤولية.

2- نظام روما الأساسي لسنة 1998 (المحكمة الجنائية الدولية الدائمة):

أنشأ نظام روما الأساسي المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة دولية دائمة لمحاكمة الأفراد بتهم الجرائم الأكثر خطورة ذات الصلة دولياً؛ جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة والعدوان، من دون إعفاء الرؤساء وقادة الدول من الملاحقة والمحاكمة والمحاسبة، وهو ما يعني أنهم لا يتمتعون بأي حصانة أمامها.[4] وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما، فإن المحكمة الجنائية الدولية تبقى لها صلاحية ممارسة الولاية القضائية في أوضاع معينة.

فقد نصت المادة رقم 13 من نظام روما الأساسي على ما يلي:

للمحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة 5 وفقاً لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية:

(أ) إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقاً للمادة 14 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت؛

(ب) إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت؛

(ج) إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقاً للمادة 15.[5] 

وفي 5/2/2021، قضت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بالأغلبية بما يلي:[6] 

(1) انضمت فلسطين بشكل صحيح إلى نظام روما الأساسي وأصبحت بالتالي دولة طرفاً فيه؛ و(2) يمتد الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية إلى “الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، أي غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

وقد جاء هذا القرار البالغ الأهمية بناء على طلب من مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للحصول على تأكيد الاختصاص الإقليمي للمحكمة، بعد أن كانت المدعية العامة قد خلصت في وقت سابق إلى وجود أساس معقول للاعتقاد بأن:

جرائم حرب قد ارتكبت أو يجري ارتكابها في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة.[7] 

ويقول سعيد بن عربية، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في محكمة العدل الدولية:

“إن الحكم هو خطوة أولى نحو كسر دائرة الإفلات من العقاب على الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع في فلسطين.” “ويجب على المدعي العام أن يفتح تحقيقاً على الفور بهدف إثبات الحقائق حول مثل هذه الجرائم، وتحديد وملاحقة المسؤولين عنها.[8]

3- مجلس الأمن الدولي (الأمم المتحدة):

يتمتع مجلس الأمن الدولي بسلطة التصدي لتهديدات السلم والأمن الدوليين بموجب المادة رقم 39 من ميثاق الأمم المتحدة، ويمكنه إنشاء محاكم دولية خاصة “Ad hoc” أو الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق والمحاكمة، إلاّ إن ممارسة المجلس لهذه السلطة يخضع للتصويت، أي للإرادة السياسية، وهو ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى استخدام حق النقض الـ”Veto” من جانب الأعضاء الدائمين (الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة، والصين، وفرنسا، والمملكة المتحدة)، وبالتالي عرقلة صدور قرار واضح ومتين.

ولدى المجلس الخياران التاليان:

– الإحالة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

– إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بمقتضى أحكام الفصل السابع لمقاضاة المرتكبين.

وبالتالي، تواجه جهود إحالة حرب غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية تحديات سياسية في مجلس الأمن، إذ يمكن أن يعوق التضارب في المصالح بين الدول الأعضاء، ولا سيما الدائمين منهم، الوصول إلى العدالة. ومع ذلك، فإن مجلس الأمن يظل خياراً ممكناً، بل أساسياً أيضاً لطلب المساءلة إذا توافقت الإرادة السياسية.

4- محكمة العدل الدولية (اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها):

إن محكمة العدل الدولية مختصة لجهة محاكمة الدول وليس الأفراد، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. وجاء في الفقرة الأولى من المادة رقم 34 من نظام المحكمة (الملحق أساساً بميثاق الأمم المتحدة):

الدول فقط هي التي يجوز لها أن تكون أطرافاً في القضايا المعروضة على المحكمة.[9]

ونظرت هذه المحكمة في مسائل تتعلق بعدم احترام اتفاقية منع الإبادة الجماعية، كقضية البوسنة – الهرسك/ يوغسلافيا (صربيا ومونتينيغرو)، وأصدرت تدابير موقتة عديدة قبل صدور الحكم بشأنها.

وفي هذا الإطار، نشير إلى أن إسرائيل وقّعت هذه الاتفاقية في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948 وصادقت عليها في 9 آذار/مارس 1950، وقد وافقت على جميع أحكامها، بما فيها النص المتعلق بصلاحية المحكمة الإلزامية من دون أي تحفُّظ، وفي جميع الأحوال، فإن هذه الاتفاقية ملزمة لجميع الدول، سواء أصادقت عليها أم لا.

وتنص المادة رقم 9 من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها على ما يلي:

تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأُخرى المذكورة في المادة الثالثة.[10]

5- الجمعية العامة للأمم المتحدة:

في حال فشل مجلس الأمن في إصدار قرار ما، يمكن “الالتفاف” عليه عبر الاتجاه نحو هيئة أُخرى تكون جميع الدول متساوية أمامها في حق التصويت، والمقصود هنا الجمعية العامة التي تُعتبر معبراً لفضح هذه الانتهاكات وتأكيد حدوثها عبر ما يُعرف بـ”الاتحاد من أجل السلام”، بموجب القرار الذي اتخذته الجمعية سنة 1950 تحت الرقم 377/5، وبناء على مبادرة من الولايات المتحدة الأميركية.[11]

وسبق أن تم اللجوء إلى هذه الآلية بشأن الجدار الفاصل في فلسطين سنة 2003؛ إذ جرت مطالبة محكمة العدل الدولية برأي استشاري، وأصدرت في حينها رأيها اعتماداً على القرار رقم 377/5 المذكور أعلاه.[12] 

هذا يُظهر أن الجمعية العامة تشكّل ملجأ احتياطياً لإدانة هذه الانتهاكات، وفقاً لقرار “الاتحاد من أجل السلام”، وذلك من دون الحاجة إلى المرور بمجلس الأمن، الأمر الذي يُعتبر وسيلة قانونية وعملية للمجتمع الدولي من أجل التعامل مع المواقف والجرائم الخطِرة، بشرط توفر الإرادة السياسية والاستعداد الفعلي لمحاكمة المتهمين.

6- لجان التحقيق وبعثات تقصّي الحقائق:

غالباً ما يتم اللجوء إلى لجان التحقيق وبعثات تقصّي الحقائق في مواجهة حالات انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وتُشكَّل اللجان والبعثات المذكورة من مجلس الأمن و/أو الجمعية العامة و/أو مجلس حقوق الإنسان و/أو الأمين العام للأمم المتحدة و/أو المفوض السامي لحقوق الإنسان. وفي السنوات العشرين الماضية، تم إنشاء العديد منها لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك فلسطين المحتلة، مع الإشارة إلى أن مجلس حقوق الإنسان كلف مؤخراً إجراء “لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإسرائيل” في 27 أيار/مايو 2021 إلى الوقت الحاضر، بالإضافة إلى “لجنة تحقيق الأمم المتحدة في الانتهاكات المرتكبة خلال الاحتجاجات في الأراضي الفلسطينية المحتلة” في 18 أيار/مايو 2018 إلى آذار/ مارس 2019.[13] 

أيضاً، تؤدي اللجنة الدولية للصليب الأحمر (الصليب الأحمر) دوراً حيوياً في رصد اتفاقيات جنيف وتعزيز التزامها، إذ يمكن للصليب الأحمر التحقيق في الانتهاكات المزعومة وتقديم تقارير عن النتائج للمجتمع الدولي وفقاً للمادة رقم 90 من البروتوكول الأول الإضافي لسنة 1977[14] بعد أن كانت اللجنة قد أصدرت سلسلة قواعد دولية في هذا الشأن.

7- التحقيقات الجنائية:

تؤدي التطورات في التحقيقات الجنائية دوراً أساسياً في جمع الأدلة على الانتهاكات المزعومة، ويمكن لصور الأقمار الصناعية والتحقيقات الرقمية وغيرها من الأدوات التكنولوجية، بالإضافة إلى شاشات التلفزيون بنقلها الحي المباشر، ووسائل التواصل الاجتماعي، توفير وثائق قيّمة للأحداث خلال الحرب. وتعزز هذه الوسائل والتقنيات قدرة الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية والسلطات الوطنية على بناء بيانات توثيقية للمحاكمات.

هذا ويجب على المجتمع الدولي الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة ودعم استخدامها لضمان جمع أدلة موثوقة وقابلة للتحقق، فذلك لا يعزز فقط رصد الحالات القانونية فحسب، بل أيضاً يساهم في تحقيق الهدف الأوسع لإقامة سجل تاريخي دقيق، وتعزيز المساءلة، وردع الانتهاكات المستقبلية.

8- تعزيز الأطر القانونية الدولية:

تعتمد فاعلية الآليات القانونية على قوة الأطر القانونية الدولية. وعلى المجتمع الدولي أن يسعى باستمرار لتعزيز الأطر القائمة وتوضيحها، مع التركيز على سد الفجوات، ولا سيما السياسية منها، وتوضيح الغموض الذي غالباً ما يعوق محاكمة الأفراد بتهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. كما يتوجب تشجيع الدول وتحفيزها على تصديق وتنفيذ المعاهدات الدولية التي تعزز الأطر القانونية للمساءلة، الأمر الذي يساهم في تحقيق “العالمية” للاتفاقيات، وفي بناء نظام أكثر تناسباً وتماسكاً للعدالة الدولية.

9- الاختصاص الوطني والاختصاص الشامل:

يسمح هذا المبدأ، المعروف باسم الاختصاص الإنساني الشامل للدول، بمحاكمة الأفراد بتهمة الجرائم الخطِرة، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجرائم أو جنسية المتهم. وبالتالي، فإنه يمكن مراجعة المحاكم الوطنية الأجنبية من جانب فلسطينيين يحملون جنسيات أجنبية وفقاً لأحكام اتفاقيات جنيف في دول أميركية جنوبية أو أوروبية كبلجيكا.

وقد نصت لائحة مجلس الأمن رقم 1265 الصادرة بتاريخ 17/9/1999 على ما يلي:

تشدد على مسؤولية الدول لإنهاء الإفلات من العقوبة ومحاكمة المسؤولين عن جرائم الإبادة وجرائم الحرب وانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي.[15] 

على الرغم من أن محاكمة المسؤولين الكبار في دولة أجنبية يمكن أن تواجه تحديات سياسية، فإنه يمكن للدول ذات قوانين الاختصاص الشامل بدء إجراءات قانونية ضد الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية. هذا مع الإشارة إلى أن هذا الموضوع غالباً ما يصطدم بصعوبات ومعوقات على مستوى التطبيق، وخصوصاً من ناحية التنازع بشأن صلاحية الدول، لكن ليس هناك ما يمنع أن تطرق فلسطين هذا الباب بمساندة دول صديقة.

10- بناء قدرات الأنظمة القانونية الوطنية:

على المجتمع الدولي تمكين الأنظمة القانونية الوطنية لمواجهة الجرائم الدولية ضمن اختصاصاتها لفاعلية الآليات القانونية بصورة عامة، وذلك عن طريق تقديم المساعدة الفنية والتدريب والموارد والدعم السياسي لتعزيز قدرات المؤسسات القانونية الوطنية، الأمر الذي يعزز من قدرتها على إجراء تحقيقات ومحاكمات عادلة ونزيهة.

وفي هذا الإطار، وتأكيداً لما أشرنا إليه سابقاً، يمكن للمحاكم الوطنية ذات الاختصاص الجنائي الدولي أن تقوم بالملاحقة، إذ إن عدداً من الإسرائيليين واجهوا سابقاً تحديات خلال تجولهم في بعض الدول الأوروبية بعد قيام نشطاء بالتقدم بشكاوى ضدهم في بعض البلاد، إلاّ إن تدخُّل بعض الحكومات حال دون تنفيذها.[16]

11- التوعية العامة:

تؤدي التوعية العامة دوراً مهماً في ضمان عدم نسيان الانتهاكات المزعومة خلال حرب غزة وضمان استمرار الضغط من أجل المساءلة، وتمارس المنظمات المدنية المجتمعية غير الحكومية ونشطاء حقوق الإنسان ووسائل الإعلام أدواراً حيوية في زيادة الوعي بأهمية العدالة، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، والتشديد على المساءلة القانونية، وأيضاً حماية الصحافيين.

وعلى المجتمع الدولي دعم أصوات الذين يطالبون بالعدالة والمساءلة وتعزيزها، سواء أكانوا داخل منطقة النزاع أم خارجها. ويمكن أن يؤثر الضغط العام في القرارات السياسية، ويساهم في تنفيذ الآليات القانونية، إذ إن التفاعل مع مشاعر الجمهور وآرائه يساهم في تشكيل استجابات دولية تجاه الانتهاكات المزعومة.

12- الدروس المستفادة والوقاية:

على المنظمات الدولية والحكومات والكيانات غير الحكومية إجراء تقييمات دقيقة لتحديد الأسباب الجذرية للنزاع، وفاعلية الآليات القانونية، والمجالات التي يمكن تحسينها.

ومن شأن الدروس المستنتجة من حرب غزة أن تساهم في تطوير إجراءات أكثر فاعلية للوقاية من النزاعات المستقبلية، بما في ذلك المبادرات الدبلوماسية وأنظمة التحذير المبكر واستراتيجيات التعامل مع المستويات الاقتصادية والاجتماعية المتفاوتة التي تساهم في حل النزاعات.

III. الختام:

مع توجه المجتمع الدولي إلى رسم معالم مرحلة ما بعد حرب غزة، يجب أن يظل ملتزماً تحقيق مبادئ القانون الدولي، وضمان عملية قضائية عادلة ونزيهة، ومعالجة جذور النزاع. إن تكامل الآليات القانونية مع المبادرات الدبلوماسية يُعتبر إجراءً أساسياً لبناء سلام عادل ودائم في المنطقة، وإلاّ فسيبقى عدم الاستقرار ماثلاً إلى الأبد.

ويتطلب السعي نحو المساءلة جهوداً كبيرة تتمثل في تبنّي نهج شامل للمحاسبة، مع العلم أن العدالة الجنائية الدولية هي عدالة نسبية، وعملية تحقيقها والولوج إليها غالباً ما تمرّ عبر مجلس الأمن الدولي، لكنها تبقى قابلة للتحقيق “ولو بعد حين”، إذ إنها لا تخضع للسقوط بمرور الزمن.

وفي هذا الإطار، يبقى لمجلس الأمن الدولي خيار اللجوء إلى إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة أو الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بمقتضى أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي يحتاج إلى توافق الإرادة السياسة، غير المتوافرة حالياً.

وإلاّ، وباعتبار إسرائيل غير منضمة إلى نظام روما الأساسي، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة أن تضع يدها على القضية إذا أحالت دولة طرف الملف إلى المدعي العام، أو إذا كان المدعي العام قد بدأ على نحو تلقائي بمباشرة تحقيق في القضية، وهو الأمر المعوَّل عليه راهناً.

إن تفعيل الآليات القانونية والقضائية بشتى الطرق أمر أساسي لتحميل إسرائيل المسؤولية، وذلك ممكن عبر دعوة الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة من أجل إلزام إسرائيل احترام أحكامها، أو اللجوء إلى الجمعية العامة استناداً إلى قرار “الاتحاد من أجل السلام” من دون الحاجة إلى المرور بمجلس الأمن، بشرط توفر الإرادة السياسية والاستعداد الفعلي لمحاكمة المتهمين.

لذا، على المجتمع الدولي، بجميع أطرافه، أن يتحمل مسؤوليته في المحافظة على السلم والأمن الدوليين وتعزيزهما، وخصوصاً عن طريق تفعيل مجلس الأمن وقراراته والإجراءات اللازمة لحل النزاعات بعدالة، والمحافظة على حقوق جميع الدول والأفراد وكرامتهم بعيداً عن الانحياز السياسي.

[1] “اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/أغسطس 1949“، اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

[2] “الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، 1977“، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 21/11/2017.

[3] “القرار 1738 (2006) الذي اتخذه مجلس الأمن في جلسته 5613، المعقودة في 23 كانون الأول/ديسمبر 2006“، مجلس الأمن.

[4] Paul Seils, Handbook on Complementarity: An Introduction to the Role of National Courts and the ICC in Prosecuting International Crimes, International Center for Transitional Justice, pp. 11-14; Accessed on 2nd of December 2023.

[5] “ألف – نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية“.

[6] Palestine/Israel: ICC decision an important step towards accountability for crimes under international law, International Commission of Jurists, 08/02/2021.

[7] Ibid.

[8] Ibid.

[9] النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الملحق بميثاق الأمم المتحدة.

[10] “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها: معاهدات 09-12-1948“، اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

[11] “الاتحاد من أجل السلام: قرار الجمعية العامة 377 (د – 5)“، مكتبة الأمم المتحدة السمعية البصرية للقانون الدولي.

[12] “الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة، البند 5 من جدول الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة: فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة“، الجمعية العامة للأمم المتحدة، 13/7/2004.

[13] “لجان التحقيق وبعثات تقصي الحقائق المعنية بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني: توجيهات وممارسات“، الأمم المتحدة، حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي، (نيويورك وجنيف 2015).

[14] المصدر نفسه.

[15] Security Council Concludes Two-Day Meeting on Protection of Civilians in Armed Conflict, Press Release, Resolution 1265 (1999), 17/9/1999.

[16] “الخطوات العملية لملاحقة إسرائيل على جرائمها في غزة“، “الجزيرة”، 27/11/2023.

1

عن المؤلف: 

بول مرقص: محام في الاستئناف، ودكتور في القانون، ومؤسس مكتب جوستيسيا للمحاماة، وعميد كلية العلاقات الدولية في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ.

تجدر الإشارة إلى أن فارس أبي خليل وماريلين شاهين، من جوستيسيا، ساهما في البحوث الآيلة إلى كتابة هذه الورقة.

عن أوراق سياسات – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *