عبر رائحة الصنوبر وبيارات الليمون والمنعطفات الخافية وراء وهلتها كروم العنب وأشجار الصنوبر والتين.. تهبط الحافلة بركابها من المرتفعات المطلة على الأحياء القديمة لمدينة القدس..

اسمها الدائم سعاد والمؤقت خديجة، عيناها بلون السماء وانفها طويل ومعقوف، لها ثلاث شامات تتسلق عنقها كي تصل إلى أذنها اليسرى، مفهوم؟ تجلس دائماً في المقعد الأول قرب باب الحافلة.

تلفت حوله: سلال وأكياس، سحاحير خضار وأزهار برية.. كلهم ينظرون إلي! تحسس خاصرته، تفقدها في المقعد الأول وراحت نظراته عبر النافذة تلاحق المرتفعات الهاربة نحو الآفاق البعيدة.

اسمها الدائم سعاد والمؤقت خديجة، شعرها كستنائي.. نعم.. كس تنائي، تعمل في الصحافة ومقر عملها نهاية السوق الطويل، أول آخر شارع فرعي يتجه نحو اليمين، ثاني بناية بعد الصيدلية بعد الصيدلية مفهوم؟

مفهوم.. بلون السماء.. معقوف.. كس تنائي. أسبوعا كاملاً وهو يردد أوصافها.. يتابعها، يقيس المسافات، يتعرف على الأزقة، يركب معها الحافلة كل صباح.

عجلات الحافلة تدور والأشجار تركض خلف طريق يركض خلف طريق.. عجلات الحافلة تدور والذكريات وحجر الجلخ يدور، والشرر يركض خلف شرر يركض خلف صرير… سكينه يفتح بعد سبع طقّات، شحذه صبيحة اليوم ونسي الرجفة بين أصابعه، الرجفة تنتقل بالعدوى! نظر إلى رجليه، ارتجاج في نسخ المفاضل! وازن خطواته، تقدم قليلاً، تفقدها في المقعد الأول: انفها معقوف، عيناها بلون السماء، تحت إذنها اليسرى شامة.. شامتان.. ثلاث.. شعرها؟ كأنه؟! كل يوم آراه بلون!! هذا الغطاء اللعين، لم يقل لي إنها ترتدي هذا الثوب الأسود الطويل! ولم يقل لي أن شعرها أجعد وأنها تحمل جريدة..؟

عجلات الحافلة يعلو زعيقها المتشائم وتدور، وحجر الجلخ يدور.. والده كان يشحذ سكينه جيداً في صبيحة الأعياد ويذبح الديكة وهو يقول: يا بني مرر السكين مرة واحدة فوق عنق الديك.. هكذا.. مرة واحدة يا بني.

اسمها الدائم سعاد والمؤقت خديجة.. لماذا يسرقون الأسماء الجميلة؟ لماذا؟ أمي المسكينة اسمها خديجة وسعاد ال.. اسمها خديجة!؟

أمه المسكينة فقدت أباه منذ زمن بعيد، أبوه كان مع الذين طاردوا الظلال وحاصروا القبور، كانت قرى بكاملها تتنفس معهم أثير الحرية، كانوا يفرضون منع التجول على الجنود الصهاينة، ويعلنون الليل أوقات محررة.. سنوات وسنوات وأسرارهم تهز كيان الكيان.. آه لولا العملاء..

تحسس سكينه، تلفت حوله، أمي كانت دائماً تقول لولا جارنا العميل ـ الله لا يرحمه ـ لكان أبوك يملأ علينا البيت، ويفعل فعله الآن.

أم الشامات الثلاث والأنف المعقوف تتصفح جريدتها تارة وتنظر إليه تارة أخرى، عيناها السماويتان تسرقان لحظات غفلته كما تسرق الألوان.. هذا الشاب الصغير المنتصب قرب النافذة أراه في الحافلة للمرة الثالثة، ألمح في عينيه شيئاً من الرعب، أو ربما الدهشة، لا.. لا إنه الطيش، الطيش فعلاً.

تركب معها الحافلة مفهوم؟ إياك أن تلحظ وجودك.. مفهوم؟ طبعاً مفهوم، اسمها الدائم سعاد العميلة، عيناها مرآة للغرق. انفها المعقوف يطل على فمها الكبير فينحني اجلالاً وخوفاً.. ببضع كلمات من فمها هذا أرسلت الكثير من الشباب إلى السجن والى الموت أيضا…. آآآخ أخ متى سأصل إلى نهاية السوق؟

وصلت الحافلة إلى مشارف القدس حيث من هناك تستطيع البكاء على حائط المبكى الذي تشاهده يطلى بأكاذيب من دموع جديدة. عند بوابة كبيرة نزل الركاب، أسرعت أم الشامات في تجاوزها بداية السوق حيث بائعو المكانس الجميلة والأدوات الزراعية وبائعو الخضروات والثمار.

عند بائع السحلب توقفت، التفتت، تلحفت ثوبها الأسود الطويل وتابعت سيرها.. يبدو أن هذا الشاب يلاحقني..

السوق الطويل مسقوف بقناطر حجرية، وعلى جانبيه تصطف دكاكين بائعي الأدوات الخزفية والنحاسية وبائعي الأثواب الجميلة المطرزة بكل أعراس القرى ونجوم أفراحها وأزهار بساتينها.

أصابعه المرتجفة تحسست خاصرته، يا بني مرر السكين مرة واحدة فوق عنق الديك.. ليس الآن.. ليس الآن، هنالك قبل نهاية السوق، أول آخر شارع فرعي، هناك الزقاق المتعرج اللانهائي .. حثّ خطاه.

هذا الأبله يلاحقني، لابد انه يلاحقني، هو نفسه الشاب الذي رأيته في الحافلة عدة مرات، من الأفضل الابتعاد عنه.. خطواتها رشيقة، عيناها السماويتان تغزلان خيوط ظلها، حرضت لياقتها، ازدادت سرعتها، وفجأة توقفت، سألت البائع عن سعر ثوب لونه أسود أخضلّ بالأحمر، ومن ثم تابعت سيرها..

أكيد هذا الأبله يلاحقني، لابد من الإفلات منه بأسرع وقت ممكن..

السوق طويل.. طويل وبين الشارع الفرعي والآخر زقاق، وبين الزقاق والزقاق زقاق.. المارة يتقاطعون دون إشارات مرور، بمودة يصطدم الكتف بالكتف ولا وقت للاعتذار.

لا وقت للانتظار، هذا الأبله يلاحقني.. بخبرة المحترفة امتطت أم الشامات فرصتها الأولى، تسلقت ثوباً مطرزاً ورفرفت خلفه.. اختفت أم الشامات وراحت عيناها السماويتان تلاحقانه بعدما كان يلاحقها.

السوق يعج بالمارة والدكاكين، عربات لمسافرين لا يرحلون،  النساء أعمدة سوداء لا تجد مستقراً لها في محطات البيع والشراء.. أين هي؟ أين أم الشامات؟ تفقد سكينة، طاردت نظراته كل العابرات، اشترت يداه كل الدكاكين وتابعت توقعاته كل النساء.

إنها هنالك، ركض، وصل إليها، لا ليست هي، كل النساء يلبسن هذا الثوب الأسود اللعين..! ركض إليها توقف: الأنف كنعاني والعينان سوداوان، حرك قرون استشعاره ، تنفس من جلده، المارة يتقاطعون يتداخلون كنمل ضيع طريقه وكل الدكاكين ثقوب.. غباش في عينيه وقلبه يرتجف، ما أصعب أن يرتجف القلب.. لابد أنها هناك.. أسرع إليها أسرع أكثر، كل أجزائه تركض الآن، أنفاسه فقاعات بركانية داخل رئتيه، وصل محاذاتها.. لا.. لا ليست هي!

دار حول نفسه، تابع ركضه.. إنها هناك، خفقان قلبه تحت جلده، قشعريرة في فكيه، إنها هي، تمعن بها وغباش في عينيه، الأنف معقوف، العينان بلون السماء، تنهد غبار زفيره، وتابعها..

ابتسمت الفتاة، أحكمت تغطية رأسها، رفعت عن الأرض ثوبها الأسود الطويل وراحت تراقب مشيتها.. وأم الشامات تتسلق الثياب وتتابعه، تمتطي الدكاكين وتلاحقه، هذا الأبله، من هذه التي يلاحقها الآن؟

حافظ على المسافة بينك وبينها مفهوم؟ لا تدعها تلاحظ وجودك مفهوم؟

طبعاً مفهوم، تلمّس حزامه، خاصرته فسكينه ، حاول تدجين روعه.. أصابعه مازالت ترتجف، وأطرافه ترقص بجنون الأفعى على إيقاعات جنائزية.

وتبتسم أيضا؟ الخائنة أرسلت الشباب إلى السجن والموت وتبتسم؟

تابعت الفتاة سيرها والتفاتاتها وابتساماتها .. انه يتبعني لم أتمكن من رؤية وجهه بوضوح، إلا أن قامته ممشوقة وثيابه أنيقة، كل أبناء المدينة هكذا!! كأنهم ارتب بكثير من شباب قريتنا.

جسده يرتعش داخله الآن، وجهه الشاحب بدأ بالاصفرار، شرر حجر الجلخ في عينيه في كفيه، شد يده على سكينه، حرقة مرة في حلقة.. يا بني مرر السكين مرة واحدة فوق عنق الديك.. ليس الآن، هناك أول آخر شارع فرعي يتجه نحو اليمين هناك نهاية السوق.

ليس الآن.. سماوي.. معقوف.. شامات.. تعمل في الصحافة، مقر عملها ثاني بناية بعد الصيدلية مفهوم؟

المدينة كبيرة فعلاً كما قالوا لي، ليت هذا الشاب يدلني على مكان الصيدلية واشتري الدواء ويشفى أخي بسرعة… ليتني أتعرف على شاب من المدينة وأتزوجه، لن أكلفه كثيراً هذه الأيام، كل نداءات الانتفاضة دعت إلى إلغاء المهور، وسأنجب له شبلاً بعد سبعة شهور..آآآه.

آه.. هذا الأبله مازال يلاحقها!

حافظ على المسافة بينك وبينها، مفهوم، لا تدعها تلحظ وجودك.. مفهوم؟

السوق مدينة أم المدينة سوق؟ قالوا لي الصيدلية في نهاية السوق، آخر شارع فرعي.. أي فرعي؟ وأي نهاية؟ آه ربما ساعدني هذا الشاب الطيب؟ خففت سرعتها، بطأت خطواتها، أحكمت تلحف ثوبها الأسود الطويل، التفتت إليه، رمقته بحنان مفرط.

ارتجاج باطن الأرض في باطنه، العينان بلون السماء، غباش في عينيه.. شعرها كستنائي.. ارتجف قلبه وقفز من صدره.. استل سكينه.. وانقضّ على الفتاة .. يا بني مرة واحدة فوق عنق الديك.. مرة واحدة فقط.. طعنة واحدة لا تكفي، طعنها الثانية.. سقطت على الأرض.. طعنها الثالثة..

الأنف المعقوف.. العينان؟ العينان! الشعر! الشعر!

العينان زعتريتان.. والشعر أجعد بلون الثوب..

الأذن اليسرى .. الشامات؟ أين الشامات الثلاث؟!!

أين الشاماااات؟؟

 

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *