أعرف أن هذا المقال لا ينسجم مع اللحظة العاطفية التي باتت تسيطر على المزاج العام للشعب الفلسطيني ولكنّ للسياسة أحياناً ما يستدعي التفكير بعيداً عن تلك اللحظة، فالسياسة أكثر تعقيداً من حسابات الرياضيات المجردة، والقوى الحية تفكر في أدواتها وبرامجها ومدى نجاعتها وتتنقل بين تلك الأدوات برشاقة بما يضمن تحقيق الهدف.

في إسرائيل حكومة عدوانية لا ترى بالفلسطينيين الموجودين سوى غرباء على تلك الأرض، هكذا قال سموتريتش الذي تسلّم صلاحيات حكم الضفة الغربية وهو نموذج لهذه الحكومة غير المتواضعة في القتل الذي أصبح بالجملة، فلا يكاد يمر أسبوع بلا مجزرة «الأربعاء مجزرة في جنين والخميس في جبع» ولا نعرف ماذا سيحدث بعد أن دخل هذا المقال للمطبعة ليلة أمس وسط إدانات باهتة تصدر عن المجتمع الدولي العاجز عن حماية الشعب الفلسطيني.

صحيح أن إسرائيل لا ترى سوى بالقوة وسيلة لاستمرار سيطرتها على الشعب الفلسطيني، ولم تعد مسالة الاحتلال محل خلاف حتى لدى المعارضة التي تتظاهر ضد  حكومة اليمين المتطرف وتعتقد أن إخضاع الفلسطيني أصبح ممكناً إذا ما كثفت من أدوات القوة وحولت القتل إلى فعل دائم.

في هذه اللحظة بات من الضروري أن يستدعي العقل الفلسطيني ما يحيد تلك القوة، ويبتدع أشكالاً أكثر مرونة وأقل كلفة وسط هذا الصمت العالمي والعربي.

في التاريخ الفلسطيني هناك ما يمكن الاتكاء عليه لاستخلاص العبر وللنظر في البرامج، فليس كل حكومة في إسرائيل يمكن مواجهتها بنفس الوسائل والبرنامج أو الوسيلة التي تحقق الهدف قد لا تحققه في مرحلة أخرى، ما يعني أن لشعب حي مثل الشعب الفلسطيني ما يفرض توفر هذا القدر من المرونة للبقاء ولإبقاء كفاحه مستمراً حتى نيل حقوقه.

الحقيقة أنه في العام الأخير تقدمت مجموعات من الشباب في ظل فراغ ميداني للقوى وللفعل الفلسطيني لتأخذ على عاتقها استمرار وإدامة حالة الاشتباك مع الاحتلال، وصحيح أنها تمكنت من إيلامه في أكثر من مكان ولكن بالمقابل كان الألم الفلسطيني كبيراً حيث تمكنت إسرائيل من الوصول للكثير منهم نظراً لغياب التأهيل العسكري وانعدام الخبرة، فقد كانوا يقاتلون ببراءتهم وليس بخبرتهم ما زاد من الخسارة والتي لم تحدث أي تغير في السياسات الإسرائيلية بصرف النظر عن طبيعة الحكومات. 

وما بين التصعيد بالعمل المسلح والاستسلام كطرفي نقيض أقصويين هناك برنامج وسطي يمكن تلمسه إذا ما استدعى الفلسطيني من تجاربه، فالعمل العسكري أصبح مكلفاً بل ويفتح ربما على زيادة الضغط على الفلسطينيين ما يهيئ لبرنامج الحكومة المعروف بالرغبة والعمل على إخلاء الأرض من «الغرباء» كما يقول سموتريتش وتلك مسألة ينبغي التوقف أمامها، أما الاستسلام فلا يقل خطورة حيث التسليم والخضوع لحكم عدواني وانتهاء الحلم الفلسطيني.

قبل أكثر من ثلث قرن كان الشعب الفلسطيني في لحظة ضعف بعد خروج منظمة التحرير من بيروت وإبعادها عن ساحة الاشتباك المباشر، ووسط ضعف وغياب قوى الداخل كان يأخذ على عاتقه الأمر مبتدعاً شكلاً من أشكال الصدام قليل التكلفة وكثير الإنجاز وهو يفرض على العالم انتفاضته الأولى التي أحدثت هذا الجدل في إسرائيل عن جدوى حكم شعب آخر مسلحاً بالحجر الذي تمكن من تحييد القوة الإسرائيلية وفقدان جدواها في مواجهة شعب بأكمله.

لكن في الانتفاضة الثانية كان الفلسطيني يذهب إلى حيث الميدان الإسرائيلي يقاتل بالسلاح ليستنزف قوته خلال أربع سنوات أعطى فيها بكامل طاقته ثم أصابه الإعياء والتعب.

صحيح أنه تمكن من توجيه ضربات لكنه لم يحقق أياً من النتائج أو يعيد النقاش للداخل الإسرائيلي حول جدوى الاحتلال كما فعلت الانتفاضة الأولى والتي لم يستطع الفلسطيني استغلال ما وفرته سياسياً لينتهي الأمر باتفاق مؤقت خدعت فيه إسرائيل الجميع، لكن بالانتفاضة الثانية تعزز الاحتلال أكثر وفصلت إسرائيل المدن بل وتمت إزاحة القضية عن جدول الأعمال الإسرائيلي والدولي وحدث الانقسام والتشظي الفلسطيني.

صحيح أن اللحظة العاطفية لا تسمح بالحديث عن تنحية السلاح جانباً في هذه المرحلة المشبعة بروح الانتقام على فقد الأعزاء، لكن السياسة لا تصنع برامجها وفقاً للعواطف والمزاج ولا تتخذ القرارات بناء عليها فالسياسة تقيس الأمر بميزان الإنجازات والتقدم نحو الهدف، ففي الانتفاضة الأولى كان يقترب الفلسطيني من الهدف أكثر والآن لا تبدو الصورة كذلك فالبيئة السياسية تغيرت.

في الانتفاضة الأولى كان هناك متسع لمشاركة كل الشعب دون استثناء، «الحجر ليس كالسلاح الذي يحصر الكفاح لدى نخبة صغيرة» فلم يكن خطر الموت يلوح بالشكل الذي يردع المشاركين فيها ولا فترة الاعتقال حتى لمن يضبط متلبساً بالحجارة كانت تشكل عائقاً أو عبئاً ثقيلاً، بل كان الجميع يتسابق لتكون تلك الأشهر القليلة جزءا من تاريخه، وتمكن خلالها الشعب من تحييد القوة الإسرائيلية الغاشمة وصمد على أرضه رغم كل محاولات الاقتلاع ونما وتكاثر لينقل الأزمة إلى إسرائيل.

في الحرب الفيتنامية كان الأميركيون يحرسون قواعدهم بطيور الإوز المشهور بالحراسة، فابتدع الفيتناميون فكرة إحضار حيوان الوعر الذي يصيب الإوزة بصدمة فتتجمد مكانها وتعجز عن إصدار أصوات.

وعندما حفر الفيتناميون الأنفاق استدعى الأميركيون الجنود قصار القامة من وحدات المارينز للنزول داخلها لمحاربة الفيتكونغ فقام الفيتناميون باستخدام ثعبان الكوبرا لمواجهة المارينز.

هكذا تمكنوا من تحييد القوة الأميركية وإرغام أميركا على قتالها بأدوات العصر الحجري، لا تهم الوسيلة بل الهدف.

وهنا بات الفلسطينيون أمام ضرورة تحييد القوة الإسرائيلية واستمرار الاشتباك بأقل من السلاح، وهذا ممكن لإجهاض برنامج الحكومة وللحفاظ على صمود الشعب.

عن الأيام

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *