بقلم أحمد الشنطي
خاص ملتقى فلسطين
مع تصاعد الخطوات الأمريكية في تنفيذ ما يسمى “بصفقة القرن”، يجد الشعب الفلسطيني نفسه بدون بوصلة مقاومة محددة للتصدي لهذه الخطوات التي تعد أحادية الجانب، والحقيقة أنه مع كل خطوة أمريكية –آخرها مؤتمر المنامة الاقتصادي- نجد فقد تصاعد في لهجة التحدي من قبل السلطة، لكن الجميع يتساءل عن الخطة الفلسطينية للتصدي لهذا المشروع الآخذ في التنفيذ رويدا رويدا، ولم يخرج علينا حتى اللحظة أي مسؤول فلسطيني (سواء من فتح أو حماس) بخطة واضحة المعالم يستجمع بها طاقات الشعب ويوحدها أو يوجهها، فهل هناك خطة أم لا من الأساس؟ وهل هناك تحرك ما يخفى علينا؟ وهل يوجد أي استراتيجية حقيقية للتعامل مع هذه اللحظة الفارقة في تاريخ صراعنا مع المشروع الصهيوني؟
لنتحدث أولا عن التوقيت، أمة عربية منهكة من ثورات حية معظمها لم يحسم مصيرها، وجزء آخر يعاني من هاجس التمدد الإيراني في المنطقة، أما دوليا فالاتحاد الأوربي بدوره يصارع في عدة دول أمام تيارات يمينية متشددة من جهة، ومن جهة أخرى تتوجه اهتمامات مجتمعاته لظاهرة اللجوء التي لا تبدو في طريقها للحل قريبا، بل يبدو أنها ستبقى الموضوع الساخن على طاولة الانتخابات في الفترة المقبلة، أما روسيا فهي أيضا ترزح تحت ضغوطات اقتصادية بسبب العقوبات المفروضة عليها أمريكيا وأوروبيا، بخلاف وضعها الصعب في سوريا –وجديدا في فنزويلا-، أمام هذه الصورة القاتمة التي تعني تراجع أهمية القضية الفلسطينية عالميا تجد القيادة الفلسطينية نفسها في وضع لا تحسد عليه، وللإنصاف لم تصل القضية الفلسطينية في تاريخها لهذه الدرجة من انعدام الدعم، ففي أحلك الظروف كانت مصادر التمويل للسلطة أو المنظمة أو حتى فصيل مثل فتح مستقرة نسبيا، والأنروا أعلنت أن ميزانيتها تتقلص كما لم يحدث من قبل، والدعم العربي الرسمي وما يصحبه من ممانعة ومقاطعة وغيره من أساليب العزلة على إسرائيل لم يكن في يوما أمرا يمكن التلاعب به –على الأقل على المستوى الرسمي-، لذا فكل الظروف مواتية لضرب منظمة التحرير والسلطة وأي جهة فلسطينية بشكل عام، ومعهم القضية الفلسطينية بكل تأكيد.
إن موقف السلطة الفلسطينية واستراتيجيتها الغير معلنة برأيي هي الصمود حتى تتغير أي من هذه المعطيات، فلربما تنجح ثورة في بلد ما، مما قد يغير موازين القوى، أو لربما تندلع الحرب الإيرانية-الأمريكية وتتغير كل المعطيات، أما الحلم الأعظم هو الصمود حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل! نعم إن الرئيس محمود عباس مقتنع منذ عقود خلت أن كل شيء بيد “أمريكا” وعليه فتغيير النظام الحاكم الحالي –وهو بكل تأكيد الأسوأ- قد يأتي بمن هو ألين وأكثر دبلوماسية من نظيره الحالي، أعلم تماما أن رأيي سيثير حنق العديد سواء ممن يدعم أو يعارض السلطة في رام الله، لكن أدعي أن رأيي قد كونته من انعدام وجود خطة معلنة للتصدي للمشروع أولا، وثانيا وبعد لقاء بعض المسؤولين الفلسطينيين بشكل شخصي يتبين لي –أو أدعي مرة أخرى أنني استشفيت- أن الخطة هي السكون ومحاولة البقاء ضمن هذه الرياح السياسة العاتية أو لنقل الإعصار السياسي الذي يحاول ضرب منظمة التحرير أولا وفلسطين كقضية ثانيا، وللإنصاف أرى أن هذا الرأي له إيجابيات، فبكل وضوح نحن لا نملك الكثير من أوراق الضغط في أيدينا، ودعونا من “التنسيق الأمني” الذي وإن كنت أعارضه فهو لا يحمل ثقل لما يكفي لإيقاف مشروع بهذه الضخامة، ومن يدري فقد تتغير إحدى المعطيات السابق ذكرها وأهمها خسارة ترامب لتستفيق السلطة من هذا الكابوس المظلم، بل إن القدر ها قد لعب لعبته في الداخل الإسرائيلي، فبعد التمني أن يرحل نتانياهو في آخر انتخابات، فاز الرجل وتحالفه، ولكن وبعد عدم القدرة على تشكيل حكومة -انتظرتها الولايات المتحدة بفارغ الصبر لكي تعلن عن خطتها المزمعة “صفقة القرن”- فيبدو أن القدر بدأ يلعب لصالح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فقد أصبح جليا أن معوقات الصفقة تتزايد، فالانتخابات الإسرائيلية ستقام مرة أخرى في شهر سبتمبر/أيلول المقبل، ولا ندري ما ستفرزه الانتخابات، من يدري قد يأفل نجم نتانياهو للأبد خصوصا أن المبادرة الأمريكية تعتمد عليه كثيرا، بل والقدر يقول أيضا أن الانتخابات الأمريكية التمهيدية ستكون بعد شهرين فقط من تشكيل الحكومة في تل أبيب! الوقت يضيق على أعداء أبو مازن وفلسطين، هل يكمل القدر جميله؟ من يدري قد يصبح الحلم حقيقة بالنسبة للمقاطعة في رام الله.
لكن على الجانب الآخر، لي تساؤلات مشروعة، ما إذا تغيرت المعطيات للأسوأ؟ ماذا لو فاز ترامب ونتنياهو مرة أخرى وصعد اليمين في ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا، ماذا عندها؟ هل هناك خطة “ب” للتعامل مع التدهور في الأوضاع؟ ولو كانت هناك خطة، فهل يستطيع من “سقط” في الامتحان الأول الأسهل أن ينجح في الثاني؟ ثم كيف يمكن أن نشرح للشعب الفلسطيني الثائر هذا الاستخفاف الشديد بقدراته على قلب الطاولة والمعطيات في العديد من اللحظات الحاسمة، ألم نتعلم من تجربة الانتفاضة الأولى التي انقذت القيادة والفصائل الفلسطينية من الحصار الرهيب الذي وقعوا فيه؟ ثم كيف نرد على اهدار طاقات شعب متواجد في كل أرجاء المعمورة وله كوادر أكاديمية وعلمية وأدبية ناجحة وفاعلة في أماكن تواجدها؟ هل سيرحم التاريخ وقتها قيادة الشعب الفلسطيني الذي ركن للسكون وقت أن حاك الصهاينة خطتهم الخطيرة على قضيتنا؟ هل يعقل أن تستكين الفريسة وتبقى جالسة أمام الوحش الذي يريد التهامها؟ إن الطبيعة الفسيولوجية تقول إنه مهما بلغ الضعف وجبت المقاومة والمناورة بل وحتى استخدام كل طاقة في الجسم والاستفادة من الأدرينالين الملتهب في الجسد بالضبط كما هو الحال مع الشعب الفلسطيني المتأجج التهابا من كل ما يسمع عن تصفيته. برأيي أن طريقة رام الله هي تحريف لطريقة غاندي السلمية، حيث كانت هناك ثورة شعبية وتحريض مستمر وآلية حشد جماهيري دائمة، لم يكن غاندي المسالم كامنا ولا خاملا، بل كان العصيان والإضراب والمقاطعة أسلحة ثورته السلمية، وهي أسلحة فاعلة داخليا وأمميا وإعلاميا.
أنا لا أدعي امتلاكي للحل السحري، وأعلم –بل أيقن- أننا نجحنا جزئيا منذ اليوم الأول للصراع، حيث استطاع قطاع كبير من الشعب الفلسطيني البقاء في فلسطين التاريخية، فمنذ تلك اللحظة التي وضعت فيها الحرب أوزارها عام 1949 ولم يستطع العدو عمل إحلال كامل أو تطهير عرقي كامل فقد خسر المعركة طويلة الأمد، لذا نحن لن نصبح كالأمريكيتين، وعلى الإسرائيليين التعامل اليوم مع 6.5 مليون فلسطيني، فحتى عند ضم كل الضفة أو حتى غزة –هم لا يريدون ضمها- فستكون تلك بداية النهاية للكيان الصهيوني بعد السقوط الرسمي في مستنقع (الأبرتهايد)، لذا أنا وإن كنت لا أملك حلا سحريا اليوم، فأنا أعلم أن أقوى ورقة ضغط هي فيما بعد صفقة القرن، هم يريدون كيان هزيل يحكم بعض الفلسطينيين لكي لا يقعوا في إشكالية الدولة الواحدة، وهنا تكمن أقوى أوراق السلطة التي يمكن أن تعيد صياغة نفسها شعبيا أو رد نفسها لمنظمة التحرير لكي لا تعطي هذا الحل السهل للإسرائيليين أو الأمريكان، وهنا تكمن أيضا للأسف موقع قوة القيادة الفلسطينية أمام شعبها، فنحن لا نستطيع التنصل من السلطة أو بالأخص منظمة تحرير حيث يعني انهيارها، انهيار السد أمام صفقة القرن.
مع أني أتعاطف مع وضع السلطة الصعب –بعيدا عن أي خلافات أخرى- إلا أنني أرى أن على السلطة أن تقدم ما هو مقنع لشعبها لكي يلتف حولها، وعليها أن تعيد الأمر للشعب، ما نمر به أكبر من عقد انتخابات ستفرز لنا بالضرورة فتح أو حماس، لذا فرد الأمر للشعب عن طريق تشكيل إدارة شعبية غير مسيسة مثلا للتصدي لصفقة القرن قد يخرج السلطة وحماس من مأزق الانقسام وعدم القدرة على التحرك بشكل ثوري، تكون هذه الإدارة أو اللجنة مكونة من كامل أطياف الشعب في الداخل والخارج من أكاديميين ومن لجان وطنية مشهود لها بالعمل الميداني لوضع خطة شعبية تستجمع طاقات الشعب الفلسطيني، وهنا نترك السلطة في استراتيجية الانتظار بينما يأخذ الشعب دوره في التصدي بشكل جمعي لهذا المشروع، بكل تأكيد فكرة هذه اللجنة خطوة بين عدة خطوات أريد عرضها لكن أبدأ بهذه الفكرة التي ستجعل شعبنا قادرا على التواصل مع بعضه لتنسيق الجهود وعمل فعاليات متزامنة يكون لها زخم أكبر سواء في الداخل أو الخارج، بالطبع هناك خطوات أفضل يمكن القيام بها من قبل السلطة، لكن هنا فضلت أن ألازم الواقعية وما يمكن عمله شعبيا.