استخفّت إسرائيل بالشعب الفلسطيني ففاجأها المقاومون
الدعم الشامل غير المشروط لإسرائيل الذي منحتها إياه الولايات المتحدة ودول أوروبية ما هو إلا ترخيص علني بالقتل. وهي تمتنع عن الإقرار بحقّ الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وحقّه في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأرضه، وحقّه في مواجهة التنكيل اليومي الذي ترتكبه إسرائيل بحقه، بكل الوسائل المشروعة التي تكفلها القوانين الدولية. وتعدّ معركة طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس جزءا من هذا الحق. بغض النظر عما في جعبتها من نيات أو فشلها في حساب ردود الفعل الإسرائيلية، أو حساب الثمن الذي يدفعه أهل غزّة إنْ كان يتناسب مع أهداف هذه الحملة العسكرية ونتائجها. ولا تحتاج إسرائيل لذريعة كي تقتل بوحشية وتشرّد الآلاف وتدمّر البيوت والممتلكات. ولن يبخل الشعب الفلسطيني في غزّة بالتضحيات إن كانت تستثمر في مكانها على طريق تحرير فلسطين واسترداد الأراضي المحتلة. لكننا جميعا اغتبطنا، بمن فينا أهل غزّة الصامدون، حين باغتت كتائب عز الدين القسّام المستوطنات بهجوم مفاجئ صبيحة السبت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وبأساليب قتالية إبداعية تمتزج بجرأة غير مسبوقة، سيطرت فيها على عدة مستوطنات في ساعات معدودة من الجو والبر والبحر. لكننا أيضا وضعنا أيدينا على قلوبنا مما قد يحدُث في اليوم التالي، لأننا نعلم حجم الوحشية وحجم الدعم الذي ستتلقاه إسرائيل إثر هذه العملية.
وإذا كنّا، فلسطينيين وفلسطينيات، ننبذ العنف وإراقة الدماء، فالمقاومة المسلحة ليست عُنفا لمجرّد ارتكاب العنف، بل هي إحدى وسائل النضال الرئيسة التي يحقّ لكل شعبٍ تحت الاحتلال أن يلجأ إليها لتحرير أرضه. هي حقّ مشروعٌ يكفله القانون الدولي الذي لا تمتثل إليه إسرائيل، بل تنتهكه يوميا منذ النكبة المستمرّة في العام 1948. والشعب المناضل والأبي في غزّة يعرف تماما أكثر من الجميع معنى التضحيات. وأيضا يعرف معنى التعرّض للعنف الذي لا يتمنّاه لعدوه. لكن نبذ العنف شيء، والاضطرار للجوء إلى القوّة المسلحة للدفاع عن الشعب الفلسطيني بمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية اليومية بحقّه شيء آخر. النضال المسلح لاسترداد أرضه وتحريرها من نير الاحتلال شيء آخر وآخر وآخر، فالشعب الفلسطيني في داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات يعلم تماما أنه لا خيار له إلا باللجوء للكفاح المسلّح. إذ لم تترك له إسرائيل ومستوطنوها في الآونة الأخيرة خيارا آخر، فالقتل اليومي وقضم الأراضي وإحراق المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية وتدنيس المقدّسات ودور العبادة، فضلا عن ارتكاب جرائم حرب متواصلة بحق أهالي قطاع غزّة المحاصر منذ ما يقرب 17 عاما بلغت حدّا لم يعد قابلا للتحمّل. ويتزامن ذلك مع اعتقال آلاف الفلسطينيين والفلسطينيات والأطفال من المدنيين الذين تجرّأوا على مناهضة الاحتلال حتى بالوسائل السلمية، إن في الضفة الغربية وقطاع غزّة أو في عموم الأراضي المحتلة عام 1948. بل وملاحقتهم في بلدان اللجوء لتصفية أي تفكير حالي أو مستقبلي بالمقاومة، بل أي مسعى إلى العودة، وذلك بتسوية مخيمات فلسطينية عديدة بالأرض كلما حانت فرصة لأن يفعلوا (لبنان وسورية). وقد جرى ذلك وما زال يجري، عبر التواطؤ مع أنظمة أو أحزاب محلية للقضاء على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. يتزامن مع التواطؤ مع مجتمع دولي لتقليص خدمات منظمة وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين (أونروا) تمهيدا للتخلص منها بوصفها الشاهد الحي على نكبة 1948. مع ما يعنيه ذلك من ترك مئات الآلاف من اللاجئين من دون أي نوع من الحماية أو الرعاية، ووضعهم تحت خط الفقر المدقع. فضلا عن منعهم في بعض البلدان (لبنان) من حقّ العمل، أو التضييق المتواصل عليهم في التنقل أو الحصول على فرص عمل تتيح لهم عيش حياةٍ كريمة، ولو بالحد الأدنى في دول أخرى.
استخفّت إسرائيل بالشعب الذي يشهد له التاريخ بالبطولات أمام كل الغزاة الذين حاولوا كسره على مر العصور
تجتمع كل تلك العوامل وغيرها لدفع اللاجئين الفلسطينيين إلى الهجرة إلى أقاصي الأرض، للابتعاد الجغرافي عن بلدان اللجوء المتاخمة لأرضهم المحتلة ما أمكنها ذلك، وتركهم عرضةً لذلّ المنافي والضياع في متاهات الشتات، فمحاولات إسرائيل تشتيتهم وتشريدهم في كل أصقاع الأرض لم تتوقف عند التطهير العرقي عام 1948، بل هي ممتدة كما يحصل حاليا في غزّة والضفة الغربية. الأسوأ أن ذلك كله يحصل أمام مجتمع دولي وبعلمه ودعمه ونفاقه. إذ لا يحرّك ساكنا لنجدتهم، إلا من مظاهرات حاشدة بين حين وآخر تقوم بها الشعوب، فيما لا تتوقف عمليات الإبادة الجماعية المتنقلة مجدّدا عبر الأراضي المحتلة، أو كما حدث على امتداد زمن الانتظار منذ 1948، انتظار العودة وتحرير الأرض. وفي حال تجرّأ الفلسطينيون والفلسطينيات على مقاومة الانتهاكات ومحاولات الإبادة الجماعية الممنهجة، فإن العقاب سيكون شديد البطش والوحشية. وكأن عليهم أن يصمتوا وأن يُطأطئوا رؤوسهم ويتحوّلوا إلى عبيد عند الاحتلال، يمتثلون لأوامره بالترحيل والتهجير ويقبلون اعتداءاته المتواصلة عليهم. وإن قاوموا أو حاولوا تحرير أرضهم وأنفسهم من الاحتلال أو الدفاع عن أنفسهم اعتبر ذلك إرهابا وتطرفا، ليس من إسرائيل فحسب، بل من الولايات المتحدة ودول أوروبية كثيرة، بل وبعض الدول العربية.
جُنّ جنون إسرائيل، حين تجرأ فلسطينيون مقاومون على كسر الحصار واقتحموا عدّة مستوطنات. وهو ما لم يتوقعه الكيان الصهيوني، بسبب غطرسة القوة التي تصيب عقله المريض، وتدفعه إلى سلوك عقاب جماعي للشعب الفلسطيني، سواء في غزّة أو الضفة الغربية، والتي تمادى في استخدامه في القدس والضفة الغربية. وهو ما أدى إلى صعود ظاهرة عرين الأسود وكتيبتي نابلس وجنين، بعدما طفح الكيل. اعتمدت هذه المجموعات في نضالها أسلوب الذئاب المنفردة، إن كنّا نذكر ذلك. لأن هناك من ينسى الأسباب التي دفعت للعودة إلى العمليات العسكرية والنضال المسلح، وجاءت عملية طوفان الأقصى في سياقها، وتتويجا لإحدى الوسائل النضالية المؤثرة بقوّة في التصدّي لجرائم الاحتلال وانتهاكاته.
صدّ العدوان البرّي الإسرائيلي الوشيك هو الطريق الوحيد للتصدّي لمحاولات التهجير القسري والتطهير العرقي لسكان غزّة خارج فلسطين
من المؤسف أن تضطر الكاتبة هنا إلى مناقشة بديهيات الحقّ في الدفاع عن النفس الذي يعتبر الهجوم أقصر الطرق إليه، خصوصا مع ما يعانيه الشعب الفلسطيني من انتهاكاتٍ وحشيةٍ على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين المسعورين فاقت كل تصوّر أو احتمال. إذ لا تقبل إسرائيل حتى حقّ الفلسطينيين في ردّ النار بالنار. لا تقبل حقّهم في رفض الاحتلال. لا تقبل رفض اقتلاعهم من بيوتهم وتدنيس مقدساتهم. سيفعلون بهم ما يفعلونه، وعليهم أن يسكُتوا وألا يردّوا الصفعة بالصفعة أو القتل بالقتل. وإلا لم يكن على إسرائيل أن تُفاجأ أو تُصدم من عملية طوفان الأقصى، بل إن المفاجأة والصدمة هما جزء من سلوك الغطرسة الإسرائيلية. هي جزء من عقلية الاستخفاف بهذا الشعب. وإلا كيف يمكن لهم أن يظنّوا أن الشعب الفلسطيني لن يردّ على الانتهاكات وجرائم الحرب التي تُرتكب بحقّه، فعملية طوفان الأقصى أتت في هذا السياق. في سياق القانون الطبيعي لنيوتن الفيزيائي للحركة “لكل فعلٍ ردّ فعل، يوازيه بالقوة ويعاكسه بالاتجاه”. ولأن سلطات الاحتلال استكانت إلى قوّتها وبطشها والدعم الدولي الواسع والتخلي العربي عن الشعب الفلسطيني، ظنّت أنها ستستطيع أن تلوي إرادة الشعب الفلسطيني وعزّته وكرامته وتطلعاته في التحرّر، بل وتفُتّ من عزيمته وتحرض على انقسامه وتُدخِلُ في قلوب أبنائه وبناته مشاعر اليأس والعجز. حقا استخفّت إسرائيل بالشعب الذي يشهد له التاريخ بالبطولات أمام كل الغزاة الذين حاولوا كسره على مر العصور. لذلك يعِّول الفلسطينيون والفلسطينيات وكل أحرار العالم على المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزّة على التصدي للعدوان البرّي الإسرائيلي الوشيك، كي تلقّن العدو المجرم درسا أقسى من عملية طوفان الأقصى بكثير. حينها ستحقق المقاومة انتصارا سيشهد له التاريخ تستحقه التضحيات الجسام التي يبذلها أهل غزّة، ويكون بمثابة الهدية لهم على الآلام والخسائر التي عاشوها ويعيشونها.
صدّ العدوان البرّي الإسرائيلي الوشيك هو الطريق الوحيد للتصدّي لمحاولات التهجير القسري والتطهير العرقي لسكان غزّة خارج فلسطين. هو الثمن الذي ستدفعه إسرائيل على جرائمها الوحشية، لأنها ستتكبّد ثمنا باهظا هي ومن منحها الترخيص بالقتل. بل سيكون بداية النهاية للكيان الصهيوني. بل نهاية الغطرسة الصهيونية وفشل المشروع الصهيوني.
قدر الشعب في غزّة أن يتحمّل تضحياتٍ جساما في معركة ستكون فاصلة بين زمني الاحتلال والتحرير. قلوبنا معكم.
عن العربي الجديد