استحضار التاريخ لفهم حاضر الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي واستشراف مستقبله وسبل حله
تصادف اليوم الذكرى السنوية السابعة بعد المائة لوعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر/ 1917، بالإعلان عن شروع التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري بتنفيذ مشروعه لاستبدال إسرائيل بفلسطين، واستبدال الغزاة المستوطنين الصهاينة،بشعبها العربي الفلسطيني، بعد أكثر من قرن من التخطيط والإعداد والتأسيس.
وبمراجعة عاجلة لحصاد أكثر من قرن من حروب الإبادة التي يواصل التحالف شنها على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة لتحقيقه. خصوصا مع استئناف الجولة الأخيرة الأعنف بعد موقعة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ 2023. التي شكلت مرحلة تأسيسية مفصلية لوقف تقدم المشروع وإفشاله. يرى فيها البعض جنونا فلسطينيا ومقامرة متهورة غير محسوبة في ظل الفارق الهائل في موازين القوى المادية لصالح التحالف. ويعتقدون أنه كان بالإمكان تجنب تداعياتها التدميرية الهائلة لو لم توقظ حركة حماس التنين الغربي الصهيوني العنصري بهجوم طوفان الأقصى، ونأت بنفسها وبقطاع غزة، وتغاضت عن مواصلة تقدمه في المحيط العربي كما تفعل السلطة الفلسطينية والنظام العربي الرسمي، باعتبار أن ما يريده التحالف قدرا محتوما لا راد لقضائه.
فيما يراه البعض الآخر – وأنا منهم- تطورا نوعيا غير مسبوق في الوعي المعرفي الفلسطيني بطبيعة الصراع الوجودي مع العدو الصهيوني- الذي للمرة الأولى منذ بدء الغزو الغربي لبلادنا العربية – الإسلامية قبل أكثرمن قرنين – يسبق الفعل المقاوم ويوجهه. ويستعيد زمام المبادرة، مدفوعا بإدراك يقيني لمخاطر مواصلة تغلغل المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري في بلادنا. ومحاولة استباقية جسورة ضرورية لعكس مسار الصراع الوجودي الفلسطيني- الإسرائيلي. ولتقليص الكلفة المستقبلية لهزيمة التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري في بلادنا. عبر هز الأساسات البنيوية للمستعمرة الصهيونية في فلسطين. لتقويض دورها الخاص- اليهودي- ودورها العام -الوظيفي الإمبريالي- في عموم المنطقة العربية الإسلامية الممتدة.
غني عن القول إن تطور الوعي المعرفي الفلسطيني بجوهر الصراع مع العدو الصهيوني تأخرلأكثرمن قرن. قبل أن يتحول إلى رؤية نهضوية ومشروع تحرري إنساني نقيض للمشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري. وبرنامجا كفاحيا واعدا بالشروع بعكس مسار الصراع الوجودي. يبدأ في مركزه الفلسطيني، ويمتد ويتطور عربيا وإقليميا وعالميا. ويؤسس لتصويب اعوجاج مساره في منطقتنا الذي بدأ أواخر القرن الثامن عشر، عندما أعاد الغرب الاستعماري غزو بلادنا وقام نابليون بونابرت بأول حملة عسكرية لإعادة احتلال بلادنا (1798-1801) ودعا خلالها اليهود لاستيطان فلسطين. بعد سبعة قرون من الحروب الإفرنجية/الصليبية / وثماني حملات عسكرية خلال قرنين (1095- 1291)، ونجاحه في إقامة المشروع الاستعماري الاستيطاني الإفرنجي/ الصليبي/ في فلسطين الذي استطال بقاءه قرابة قرنين (1095-1187).
لكن نابليون بونابارت أخفق في بلوغ مسعاه، آنذاك، رغم تفوقه الحاسم في موازين القوى، لأسباب عديدة تم تناولها في مقالات سابقة ولا حاجة لتكرارها في هذا المقال. يتصل أهمها بانعدام جاهزية اليهود ورفضهم لمخالفة تعاليم دينهم إذ يرون أن قيام دولة إسرائيل خطيئة تعارض النصوص التوراتية التي تؤكد أن خلاص اليهود سيكون مع عودة المسيح.
ومعارضتهم الانخراط في مشروعه الاستعماري الإمبراطوري التوسعي. فلم تكن الحركة الصهيونية قد أنشئت، بعد، لتسييس الدين اليهودي وتوظيفه في استيطان فلسطين. التي تتموضع في مركزالوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري للمنطقة العربية- الإسلامية الممتدة المستهدفة بالإخضاع.
غيرأن إخفاقه لم يؤد إلى وأد فكرته. بل سرعان ما تلقفتها القوى الاستعمارية الأوروبية المتنفذة وحولتها إلى مشروع أوروبي شاركت في بلورته المملكة المتحدة، والإمبراطورية النمساوية، والإمبراطورية الروسية، وبروسيا. ووجدوا في احتدام الصراع على الحكم في دولة الخلافة الإسلامية بين المركزالعثماني الآيل للسقوط، وبين والي مصر محمد علي الساعي للاستحواذ على الحكم فرصة مواتية. فتجاوزوا صراعاتهم التنافسية البينية، وتداعوا لاجتماع عاجل في لندن لمواجهة تقدم جيش محمد علي – الذي كان جنوده قد وصلوا لمشارف الأناضول- لإجباره على التراجع تحت وطأة تهديد حكمه. ودعموا المركز العثماني – الذي آثر الاحتماء بالقوى الأوروبية المتربصة بدولة الخلافة – للاحتفاظ بالحكم فوقع معها في15/7/1840 معاهدة لندن التي سميت ب “اتفاقية إعادة السلام إلى بلاد الشام”. وبموجبها أجبر محمد علي والي مصر على الإذعان لتقليص نفوذه وسحب جيشه والانكفاء داخل حدود مصر للحفاظ على حكمه.
وحظيت القوى الأوروبية لقاء دعمها لمركز الحكم العثماني بامتيازات في أراضي دولة الخلافة الإسلامية. أسست لاحقا لغزو القوى الاستعمارية الأوروبية. فخضعت ولايات شمال إفريقيا والخليج العربي واليمن للاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي خلال القرن التاسع عشر. فيما بقيت ولايات المشرق العربي والإسلامي تحت حكم المركز العثماني حتى الحرب العالمية الأولى.
وبالتزامن تم التوافق مع الإمبريالية اليهودية على تأسيس الحركة الصهيونية لاستحداث قومية يهودية، تنقلب على صحيح الدين اليهودي، وتستولي على حصرية حق تمثيل يهود العالم. وتعمل على استقطابهم بتوظيف العداء التاريخي الأوروبي لليهود الذي تواصل على مدى قرون طويلة – لأسباب عديدة بعضها ديني، وبعضها اقتصادي ومالي، وأخرى اجتماعية وسياسية يحتاج تناولها لمقالات منفصلة- وبذلك، استكمال الجاهزية الضرورية لإنجاز ما عجزعنه نابليون بونابارت قبل قرن، والشروع بتنفيذ المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري لاستكمال السيطرة على إرث الإمبراطورية العثمانية في المشرق. فتم عقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، وضم 204 عضوا ممثلين للجاليات اليهودية في 15 دولة وأقروا إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين من خلال تشجيع الهجرة اليهودية، وتنظيم اليهود وربطهم بالصهيونية، وحشد التأييد الدولي. وأعلنو إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية، والجهاز التنفيذي / الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي/. وبالتوازي مع الاستعدادات الصهيونية تم عقد مؤتمر كامبل في لندن عام 1905 لتشكيل تحالف استعماري ضم 6 دول أوروبيّة (بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا) للحفاظ على تفوقهم ومكاسبهم الاستعمارية لأطول فترة ممكنة، والتوسع في آسيا وإفريقيا، ومواجهة التوسع الاستعماري الألماني. وتواصلت جلساته على مدى عامين وقسموا العالم إلى ثلاث فئات:
– الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية يتوجب دعمها ماديا وتقنيا (أوروبا وامريكا الشمالية وأستراليا).
– الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحيه ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا، ويتوجب احتواؤها (دول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا).
– الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها، ويشكل تقدمها تهديدا ما يتوجب معه العمل على تجزئتها وفصل الجزء الإفريقي عن الآسيوي بإقامة دولة عازلة مغايرة عرقيا ودينيا وثقافيا موالية لاوروبا. ومحاربة أي توجه وحدوي فيها، وحرمان دولها من التطور والتقدم العلمي والتقني (الدول العربية خصوصا والإسلامية عموما).
وأتاحت الحرب العالمية الأولى بين الحلفاء (بريطانيا وإيرلندا وفرنسا والإمبراطورية الروسية وانضمت لها لاحقا إيطاليا واليابان ورومانيا والولايات المتحدة الأمريكية) ودول المركز (ألمانيا والنمسا والمجر وانضمت لاحقا الإمبراطورية العثمانية وبلغاريا). الفرصة للشروع بتنفيذ قرارات مؤتمر كامبل. فتم توقيع اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا بمصادقة الإمبراطورية الروسية وإيطاليا لتقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط في المشرق العربي بنهاية الحرب العالمية الأولى. وتم إصدار وعد بلفور عام 1917 لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين/ الدولة العازلة / بين اسيا وإفريقيا.
وغني عن القول أن النخب العربية تحالفت مع الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى وتمردت على الحكم العثماني لقاء وعود بدعم سعيهم للاستقلال، وسرعان ما تراجع الحلفاء عن وعودهم بعد انتصارهم في الحرب. وتهيأت الظروف لتنفيذ المخططات الغربية بسرعة بالغة وبدون كلفة تذكر.
نستحضر التاريخ الحديث الذي غاب فيه الفعل الفلسطيني والعربي المقاوم للاستعمار الغربي لفهم الحاضر الذي ما يزال يلقي بثقله ويصوغ وقائعه المريرة. ولفهم ظروف وتعقيدات نشأة الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري وبناه التكوينية الغربية وتوسعه في فلسطين وجوارها العربي والإقليمي، فبدون هذا الفهم يستعصي النهوض، وتتعذر فرص توفير موجبات هزيمته.
وبدون الإدراك بأن حرب الإبادة الجماعية المحتدمة حاليا ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني هي حرب التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بكل الإمكانات، عبر القاعدة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية المتقدمة في فلسطين. سنبقى أسرى لذات السياسات والسلوكيات المدمرة للذات. وسنبقى نروج لذات الشعارات والمصطلحات الخاطئة التي يراد بتكرارها مواصلة تشويه الوعي الجمعي. كوصف الدعم الأمريكي والأوروبي لحرب الإبادة الجماعية للشعبين الفلسطيني واللبناني بأنه مجرد انحياز للكيان الصهيوني تحت تأثير اللوبي الصهيوني المتنفذ ماليا واقتصاديا وسياسيا وإعلاميا إلخ. والإيحاء بإمكانية تقليص هذا الانحياز بتكثيف العمل السياسي والدبلوماسي العربي والإسلامي، وبالتنافس مع الكيان الصهيوني عبر تعزيز التشابكات والروابط المالية والاقتصادية والتجارية والسياسية والعسكرية العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية. فنعزز بذلك قدرات التحالف، ونبدد مواردنا ونوظفها ضد أنفسنا. ونواصل القبول بالولايات المتحدة الأمريكية التي تقود التحالف وسيطا تفاوضيا لوقف حرب الإبادة الجماعية التي تديرها، فتمكنهم من كسب الوقت لمواصلة اجتثاث أوطاننا وشعوبنا.
وعليه، ولفهم الأهمية الاستراتيجية لطوفان الأقصى، الذي أطلق مسيرة تحررية لا رجعة فيها لتصويب اعوجاج مسار التاريخ في المنطقة. لإدراك يقيني بتعذر إمكانية حل الصراع سلميا – دون استبعاد إمكانية التوقف المؤقت للحرب الدائرة حاليا عبر هدن محدودة قد تمليها التطورات الميدانية، وعجز التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري الآيل للسقوط عن حسمه لصالحه رغم تغوله وتوحشه غير المسبوق في التاريخ الإنساني المدون.
غير أن تعذر حل الصراع سلميا لا يجب أن يدفعنا للقفز إلى إستنتاجات متسرعة والاستخلاص بتعذر فرص إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الناشىء عام 1967، فقد جعله طوفان الأقصى ممكنا في المستقبل القريب. وبات يحظى باجماع دولي غير مسبوق، يدلل عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 18/9/2024 بأغلبية 124 عضو بينها دول غربية وازنة، وأخرى امتنعت عن التصويت. ولم تعترض عليه سوى إسرائيل وهنغاريا والولايات المتحدة الأمريكية وإحدى عشر دولة هامشية في الجزرالتابعة لها. والذي يطالب إسرائيل : بان “تنهي – دون إبطاء- وجودها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة في غضون مدة أقصاها 12 شهرا من تاريخ اتخاذ القرار، وأن تمتثل دون إبطاء لجميع التزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك على النحو الذي تنص عليه محكمة العدل الدول الدولية. وبأن تقوم بجملة أمور منها:
* سحب جميع قواتها العسكرية من الأرض الفلسطينية المحتلة،
* إنهاء سياساتها وممارساتها غير القانونية بما في ذلك الوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة وإجلاء جميع المستوطنين من الأرض الفلسطينية المحتلة وتفكيك أجزاء الجدار الذي شيدته إسرائيل،
* إعادة الأراضي وغيرها من الممتلكات غير المنقولة، وجميع الأصول التي تم الاستيلاء عليها منذ بدء احتلالها عام 1967،
* السماح لجميع الفلسطينيين الذين نزحوا أثناء الاحتلال بالعودة إلى أماكن إقامتهم الأصلية،
* عدم إعاقة الشعب الفلسطينية عن ممارسة حقه في تقرير المصير بما في ذلك حقه في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية رغم معارضتها للقرار إلا أنها لا تنفي التزامها بحل الدولتين “عبر مسار تفاوضي”، فيما تنفرد إسرائيل وحدها برفض إنشاء دولة فلسطينية على أي جزء من أراضي فلسطين الانتدابية.
كما ينبغي عدم التسرع بالقفز أيضا الى استخلاص بتعذر إمكانية التعايش مع اليهود في دولة واحدة. باعتباره الحل النهائي للصراع، والحل الإنساني الوحيد القادر على إنهاء الصراع الوجودي، لاستجابته لمصالح الشعب الفلسطيني المقيم والعائد من مواطن اللجوء.
ولمصالح يهود إسرائيل الراغبين في مواصلة العيش في بلادنا. الذين يزج بهم التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري لخوض حروبه التدميرية. ويمدهم بمستلزمات إدامة الحرب لتأبيد الصراع كما يفعل في أوكرانيا. وكما يسعى لتكراره في تايوان. وفي مناطق عدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ويستوجب ذلك بداية إنهاء التماهي والتطابق بين اليهودية والصهيونية. وتخليهم عن عقيدتهم الاستعمارية الاستيطانية الاستئثارية العنصرية وأوهام التفوق اليهودي على الأغيار. والانخراط في النضال التحرري ضد النظام الصهيوني العنصري، وتفكيك مرتكزاته وبناه المؤسسية، والقبول بالعيش مع أصحاب البلادالأصلانيين في دولة وطنية يتساوى جميع مواطنيها أمام القانون. مثلما جرى في جنوب إفريقيا، وكما عاشوا في البلاد العربية والإسلامية على مدى قرون طويلة قبل إنشاء الحركة الصهيونية.
والانطلاق في استشراف المستقبل وسبل حل الصراع الوجودي العربي – الصهيوني وجوهره الفلسطيني – الإسرائيلي من الحقائق التأسيسية التالية التي سبق تناولها ويمكن تلخيصها بما يلي:
* أولا: أن المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري نتاج لشراكة عضوية بين مشروع استعماري استيطاني خاص بالإمبريالية اليهودية عبر استحداثها قومية يهودية مصطنعة/ صهيونية/ بإيجاد مركز جغرافي يستوطنه اليهود حصريا ويخضع لسيطرتها خارج أوروبا/فلسطين/.. ومشروع استعماري توسعي عام للإمبرياليات الغربية الأوروبية التي نجحت في إحكام سيطرتها على شمال الكرة الأرضية بإحلال الحداثة المادية الرأسمالية والاشتراكية “اللاحضارة” محل حضاراتها الأصيلة. وتوافقهما سويا على إدماج المشروعين الصهيوني الخاص، والإمبريالي العام لاستكمال السيطرة على جنوب الكرة الأرضية، والانفراد بالقيادة العالمية.
* ثانيا: أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري/ اليهودي/ في فلسطين نتاجا لتلاقي وتقاطع المصالح الاستراتيجية :
- بين الإمبرياليات الأوروبية الساعية للتخلص من المسألة اليهودية المتفاقمة لديها بفعل تنامي العنصرية وحلها عبر تصديرها للخارج من جهة. ولتلبية حاجتها من جهة أخرى لتوظيف يهود العالم في إنشاء قاعدة استعمارية استيطانية غربية متقدمة في مركز المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة المستهدفة بالسيطرة والإخضاع، لأهميتها الجيو استراتيجية والجيو سياسية. وتموضعها جغرافيا في مركز العالم وملتقى قاراته وبحاره. وإشرافها على خطوط التجارة والملاحة والمواصلات والاتصالات الدولية، وامتلاكها ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة وطاقة أحفورية رخيصة باحتياطيات هي الأكبر عالميا ما تزال تشكل عصب الاقتصاد الدولي. فضلا عن كونها مركز إشعاع حضاري باعتبارها موئلا للديانات التوحيدية الثلاث التي يدين بها – وفقا لويكيبيديا- 75% من البشرية. والتي تلعب السيطرة عليها دورا مركزيا في ترجيح موازين القوى الدولية.
- وبين الإمبريالية اليهودية الساعية لتأسيس مركز جغرافي يستوطنه اليهود حصريا، ويخضع لسيطرتها، ويمكنها من بلورة هوية قومية صهيونية تؤهلها للشراكة في القيادة العالمية. وتوافقهما على التعاون بمقايضة حاجاتهما الاستعمارية الاستيطانية التوسعية لبلوغ أهدافهما المشتركة.
* ثالثا: أن التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري يرى في استمرار حرب الإبادة الجماعية المتواصلة للعقد الثامن على التوالي المستأنفة منذ 393 يوما ضد الشعب الفلسطيني وامتدادها للبنان، والتهديد بتوسعها لعموم الإقليم، تشكل بالنسبة للتحالف مسألة وجودية.
- فعلى الصعيد الصهيوني الخاص: تشكل دولة إسرائيل حجر الأساس في بناء القومية اليهودية المتعذرة دون التماهي التام بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل. ويشكل الحفاظ على سيطرتها على الجغرافيا الفلسطينية وتفوقها الإقليمي مسألة مصيرية، ليس ليهود إسرائيل فحسب، وإنما للإمبريالية اليهودية والحركة الصهيونية العالمية، للحفاظ على شراكتها في قيادة النظام العالمي.
- وعلى صعيد الإمبرياليات الغربية: فإن الدفاع المستميت عن وجود إسرائيل وتفوقها الإقليمي يشكل بالنسبة لهم أيضا قضية مصيرية، للدفاع عن آخر المعاقل الاستعمارية الاستيطانية الغربية المتقدمة في جنوب الكرة الأرضية. ولإدامة الهيمنة الأمريكية والغربية على المنطقة الجيو- استراتيجية الأهم، التي تلعب السيطرة عليها دورا مركزيا في ترجيح موازين القوى الدولية. وللتصدي لصعود الأقطاب الدولية المنافسة/ الصين وروسيا/ لإدامة السيطرة الأحادية على النظام الدولي. ولمنع ارتداد المسألة اليهودية إلى مصدرها الأوروبي والأمريكي. وللتأكيد على الحاجة الوجودية للكيان الصهيونى للحماية الغربية وتقويض مساعيه لتوطيد علاقاته بالصين وروسيا لتحسين موقعه التفاوضي مع شركائه . ولتقييد تنامي دور الإمبريالية اليهودية والحركة الصهيونية العالمية في تقرير السياسات الداخلية والخارجية للمراكز الأمريكية والأوروبية.
* رابعا: ضرورة مراجعة وتدقيق الاستنتاج المتسرع بوجود اختلافات جدية بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية. يجري الترويج لها للإيحاء بامكانية مهادنة الصهيونية العلمانية والتعايش معها. رغم أنهما في جوهرهما انعكاس لعقيدة التفوق اليهودي على الأغيار. وامتلاكهم حقا حصريا في فلسطين وجوارها العربي. وهو أساس المشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي الصهيوني العنصري بشقيه العلماني والديني/ تثبتها مراجعة كافة الوثائق التأسيسية/. حيث لا يكتمل انتصاره إلا باستبدال كامل فلسطين بإسرائيل، واستبدال كامل الشعب الفلسطيني بالمستوطنين اليهود الذين يتم استجلابهم من مختلف بقاع الأرض وفقا للحاجة للقيام بدوره الصهيوني الخاص ودوره الإمبريالي العام. فهدف الصهيونبة العلمانية والدينية المتوافق عليه مع الغرب الاستعماري: إبادة واجتثاث الشعب الفلسطيني من فلسطين واستعباد الباقين منه. ومنع نشوء إقليم عربي وازن، واستبدال هويته الحضارية العربية الإسلامية الجامعة بأخرى شرق أوسطية هجينة. وإسناد قيادته للكيان الصهيوني. كما تدلل عليه رمزيّة العلم الإسرائيلي الذي اعتمدته الصهيونية العلمانية/ من الفرات الى النيل/، وليس فقط الصهيونية الدينية لليمين الديني والقومي كما يجري الترويج له. فالتباين بين الصهيونية العلمانية والدينية يقتصر على المناهج والأساليب، والتنافس بينهما لبلوغ ذات الأهداف بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا. وتكامل الأدوار بينهما وتتابعها أمر تمليه اعتبارات ذاتية وموضوعية ذات علاقة بالتطورات الإسرائيلية والفلسطينية، والعربية، والإقليمية، والدولية.
* خامسا: ضرورة التخلص من الأوهام التي تروج لها النخب السياسية الفلسطينية والعربية المتغربة حول وجود انقسامات داخل الكيان الصهيونى بين حكم ومعارضة. ومحافظين وليبراليين. وصقور وحمائم. ويمين ويسار. وكبار وصغار. وأشرار وأخيار. لتبرير مواصلة السياسات العبثية للتهرب من تحمل مسؤولية وأعباء مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني العنصري التوسعي. والاستمرار بالبحث عن سبل للتعايش مع ما يجود به من هوامش محدودة يتيحها لمن يرتضون القيام بدور الوكيل المحلي لمحاصرة المقاومة وملاحقة الثوار. فلم يضم الكيان الصهيوني في أي مرحلة منذ إنشائه قادة إنسانيّين أو محبين للسلام. فجميعهم يعتنقون الأيديولوجية الصهيونية العنصرية القائمة على التفوق المطلق لشعب الله المختار على الأغيار، وحقه الحصري بالسيادة بداية على فلسطين الانتدابية، ولاحقا التاريخية التي تشمل شرق الأردن، وأراضي إسرائيل التوراتية بين الفرات والنيل. ولم تعد القيادات الصهيونية تتحرج من إعلان أهدافها بوضوح في المحافل الدولية. لإدراكهم بتشارك ذات الأيديولوجيا والقيم الاستعمارية الاستعلائية الغربية المرتكزة على عقدة التفوق العرقي للجنس الأوروبي الأبيض. ولمعرفتهم اليقينية بأن النظام الغربي، سواء في مواطنه الأوروبية أم في المستعمرات الاستيطانية التي استحدثها /الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا / أم في مناطق سيطرته في دول العالم الثالث، لا يسمح لأناس إنسانيّين ومحبين للسلام بالصعود إلى مواقع صنع القرار. وإن وصلوا مصادفة فسوف يحاصرون ويقتلعون /جيريمي كوربين نموذجا حيا / ويقتلون جون كنيدي وسلفادور أليندي وجمال عبد الناصر والملك فيصل بل وحتى إسحق رابين/.
* سادسا: تعذر التصالح والتعايش مع العقيدة الصهيونية. فالبدائل هي إما بانتصارها الكامل أو بانهيارها الكامل. والخلاص الوحيد للفلسطينيين ويهود إسرائيل وعموم اليهود والعرب والاقليم والعالم أجمع يكمن في هزيمة هذه العقيدة الاستعمارية الاستيطانية الإجلائية – الإحلالية الاستئثارية العنصرية. وإلا فإن العالم بأسره سوف يواجه حروبا مدمرة متتالية، كما كان الحال مع النازية والفاشية.
* سابعا: من المؤكد أن الأمل قائم رغم الكلفة الباهظة في أن تتحول الأمور بفعل مواصلة النضال والمواجهة بكافة أشكال المقاومة الفكرية والثقافية والسياسية والدبلوماسية والإقتصادية والعسكرية وهزيمة المعتدين الصهاينه، الذين سوف يفشلون في نهاية المطاف. مثل كل المعتدين الذين سبقوهم في التاريخ. فجلهم كانوا يعتقدون أن ساعة غزوهم للعالم قد حانت بفعل قدرتهم التدميرية الهائلة. إلا أنهم بسعيهم لبلوغ النصر الكامل عبرحروب الإبادة والتدمير والتطهير العرقي إنما يسارعون إلى نهايتهم دون قصد. ومن شأن ذلك أن يكلف شعوب المنطقة والعالم الكثير من الضحايا، كالتي تكبدها في مواجهة النازية والفاشية. اللتان للأسف أفرزتهما الديمقراطيات الغربية الشوهاء بنيويا. فأخفقت في منع وصول المتعصبين المأفونين بعقدة التفوق إلى السلطة. وعجزت عن منع الإبادة الجماعية والعدوان والجرائم ضد الإنسانية. ولم تستطع وقف الاستغلال غير المقيد للقوة التدميرية التي لا تبالي بالقيم الإنسانية والمعاييرالأخلاقية.
* ثامنا: الثابت تاريخيا أن ظاهرة العنصرية الاستعلائية الاستئثارية الأوروبية والأمريكية، وإفرازاتها النازيه والفاشية والصهيونية أنتجتها الحداثة المادية وقطع الصلة البشرية بالقيم الروحانية والإنسانيّة. وليس من قبيل المصادفة أن الصهيونية العالمية، التي يرتجف أمامها العالم الغربي المكنى ب “الحر” بما في ذلك الرؤساء والمشرعون والقضاة والإعلاميون الغربيون وأتباعهم من الأنظمة في عموم البلاد العربية والإسلامية. ويتواطؤون جميعا معها لاسترضائها. ويتقاعسون عن بذل أي جهد جدي لوقف حرب الإبادة الجماعية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني. ويراقبون بصمت اجتثاثهما ظنا بإمكانية خلاصهم. لكنهم سيكونون جميعا ضحاياها القادمين. لأنهم لا يعون أن القوة تتعاظم مع المعاناة والشدة. وأن شعبا يفرض عليه خوض حرب وجودية منذ أكثر من قرن، ولم تسحقه ولم تذله القوة، ولم يشوهه أو يجرده الظلم من إنسانيته وأخلاقه سينتصر لا محالة.
* تاسعا: قد يفرض الشر نفسه على بعض البشر ويفسدهم. لكن الظلم والقهر يؤدي إلى ولادة عملية معاكسة ـ عملية السمو الروحي، بل وحتى الوصول إلى عنان السماء. فالمقاومون أكثر سخاء في عطائهم ودعم بعضهم البعض. وكل هذا يتم طوعا، حيث المخاطرة من أجل بلوغ الحقوق وتحقيق الأهداف الإنسانيّة النبيلة تشكل جزءا بنيويا من عقيدة المقاومة وأخلاق الشعوب، ومن قيم الحضارة الأصيلة لشعبنا وأمتنا.
* عاشرا: باتت شعوب المنطقة والعالم تعي أن الصهيونية لن تتوقف أبدا بالمفاوضات. وأنه لا يمكن إيقافها إلا بالقوة وهزيمتها وتفككها من الداخل. وأن المسار الذي اختاره الغرب الاستعماري لا يمكنه الاستمرار إلى الأبد. وبات الآن يقترب من نهايته.
ربما لم نصل بعد إلى حافة الهاوية، لكنها أصبحت على بعد خطوة واحدة فقط كما يدلل الانهيار القيمي والأخلاقي الكامل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية للدولة التي تقود العالم. وفي المجتمع الاستيطاني للمستعمرة الصهيونية المتعطش للدماء والقتل والتدمير.
واليوم يواجه العالم خطرا صهيونيا أعظم من الخطر النازي والفاشي الذي واجهه في الحرب العالمية الثانية. وينسى أولئك الذين لا يكلون من مواصلة إبادة الشعبين الفلسطيني واللبناني أن يراقبوا ساعاتهم. فكل أخطاء الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الاستعماري وتصوراتهم الخاطئة لقدرة الشعوب الثائرة، التي لم تعد كما كانت عليه سابقا في عالم اليوم سريع التغير، ستتجلى بوضوح عشية المعركة العالمية الكبرى بين الصهيونية العالمية والإنسانية العالمية. ذلك أن الأجيال الصاعدة في دول الغرب الاستعماري ذاتها، باتت تميز بين أعداء الإنسانية وأصدقاءها. وها هم ينتفضون ويسعون للتحالف مع الأصدقاء وليس مع الأعداء. والعالم الغربي وأتباعه أصبحوا غير قادرين على الانتصار، حتى لو توحدت جميع أنظمة الحكم. فقد باتوا عاجزين في مواجهة ثورة شعوب العالم القادمة لا محالة. بعد ان كشف طوفان الأقصى همجيتهم ووحشيتهم غير المسبوقة في التاريخ، وأظهر زيف ادعاءات قيم الحداثة المادية. وأسقط قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وباتت الشعوب تشاهد بأم العين صوتا وصورة، كيف يوجّه الإرهابيون الصهاينه وحماتهم الأمريكيون والأوروبيون والغربيون طائراتهم وقنابلهم الذكية ضد المدنيين العزل، ويتفاخرون بقتلهم الأطفال والنساء والشيوخ والصحفيين والأطباء والمسعفين وعمال الإغاثة الدوليين. ويتسابقون لتدمير المستشفيات والمدارس والجامعات والمساكن والكنائس والجوامع ومراكز الإيواء والمواقع الأثرية والتاريخية والتراثية. ويتباهون بتجريف الطرقات والمقابر واقتلاع وحرق الأشجار والأطفال والنساء في الخيام. وبإعدام وتعذيب وإذلال الأسرى المدنيين الفلسطينيين رجالا، ونساء، وشيوخا، وأطفالا. ولا يسلم من وحشيتهم حتى مواطنيهم الذين يتظاهرون للمطالبة بوقف حرب الإبادة الجماعية والتطهيرالعرقي. بل ولا يستثنى من الوحشية حتى مستوطني المستعمرة الصهيونية المطالبين باستعادة أسراهم بعد أن خذلهم قادتهم، وفعلوا ضد أبنائهم بروتوكول هانيبال، فقتلوا العديد منهم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023. وتخلوا عن الأسرى في قطاع غزة، فقصفوهم وقتلوا بعضهم. وأوقفوا عملية التبادل، وتركوا من تبقى منهم لمواجهة مصيره مع أهل غزة الذين يتعرضون للإبادة والتجويع للعام الثاني على التوالي. وما يزال هؤلاء القادة يمعنون في القتل والتدمير، ويعدون مستوطني المستعمرة الصهيونية بمواصلة العيش على حد السيف مع الشعوب الأصيلة في المنطقة العربية – الإسلامية. التي لم تعرف الأمن والاستقرار والسلام منذ أن غزا الغرب الاستعماري الصهيوني العنصري أوطانهم، وأقاموا الكيان الصهيونى فوق أنقاض الشعب الفلسطيني.
وفي الختام، من الضروري التنبيه إلى تنامي الدعوات (تحت وقع تعاظم الفاشية والهمجية الأمريكية والغربية والاسرائيلية، التي لهولها، تذهب العقول وتربك التفكير وتفطر القلوب وتزغلل الأبصار) وتزايد المطالبة بالتسليم لتفوق القوة القاهرة بذريعة الحفاظ على البقاء.
ورغم تفهم صرخات أولئك الذين يدفعون الثمن بأجسادهم وأرواحهم ودماء أبنائهم وممتلكاتهم نيابة عنا جميعا. وقد خذلهم ذووا القربى – من تواطأ مع العدو، ومن صمت، ومن تقلب بين المواقف، ومن انقلب على المقاومة بدعوى العقلانية، ومن ساوم على دمائهم وما يزال- ورغم أن الكثير من الداعين للاستسلام لجبروت القوة القاهرة لوقف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي هم وطنيون مخلصون.
إلا أنهم يغفلون حقيقة أن الاستسلام ليس خيارا، وإنما دعوة للهلاك المحقق. لأنه لن يوقف الطغاة المأفونون بعقدة التفوق العنصري، بل سيفتح شهيتهم إلى تكرار ذات النهج لإخضاع الجميع لسطوتهم. وتاريخ النازية والفاشية أكبر دليل. وما نتحمله اليوم من كلفة بشرية ومادية وأهوال تفوق الخيال. ستدفعها شعوبنا على مدى الأجيال القادمة مضاعفة، إن لم نتوحد الآن جميعا معا، في مواجهة الطغيان الامبريالي الغربي الصهيوني العنصري بكل إمكاناتنا وطاقاتنا الوفيرة لتعزيز المقاومة بكل اشكالها السلمية والمسلحة. وإن لم نع أن هزيمة العدو ممكنة ومتاحة وشواهدها لمن يريد أن يرى جلية.