إن كان تاريخنا مليئاً بالانتصارات، فلماذا لا نزال نولد في المخيمات إذاً؟
في ذكرى الأستاذ سُكّري، الذي كان يكره روايات النصر الزائفة، ويدعونا إلى التّحرر من أيديولوجيا الانتماءات، أتذكّر صديقين:
الأول كان يحدّثني عن حلمٍ يراوده كل ليلةٍ، وهو يحاول التسلل إلى الأراضي المحتلة في فلسطين، ثم يهرب من قنّاصات جنود الاحتلال، ليسقط كلّ حلمٍ في حفرةٍ مظلمة، من دون أن يجد مخرجاً منها. قال لي مرةً: “لم أنتصر على أحد. لم يقتلني أحدٌ لأصير شهيداً. ولم أستطع أن أخرج من تلك الحفرة أبداً”.
لاحقاً، ستأخذ هذه الجمل الأخيرة منحىً عبثياً في علاقتي مع فلسطين، ومع ميراث الهوية والانتماءات. لأتجرّأ بعد سنواتٍ على الكتابة عن كرهي لتلك الانتماءات، بعدما تم اتهامي بالراديكالية، إثر مقالتي عن طريقة تعاطي الإعلام الألماني مع أحداث حيّ الشيخ جرّاح. بعدها، سأفهم أن سعيي للتحرّر من أواصر الانتماءات، إنما كان أيديولوجياً أكثر من كونه واقعاً في عالمٍ يفرض على الإنسان بالولادة، والحياة الاجتماعية والشخصية في أدق تفاصيلها، أن ينتمي إلى خلفياتٍ وعاداتٍ وجنسياتٍ وأعراقٍ تحميه من سلطة المجتمع الذي لا يرحمه، إن خرج عنها. ونقاش الانتماء هذا طويلٌ، ولا أودّ الخوض فيه الآن هنا. أما دافعي عن حيّ الشيخ جرّاح، وهجومي آنذاك على الإعلام الألماني، فلم يأتِ من مبدأ الانتماء الوطني، بل على العكس تماماً، فقد أتى من رفضي لسياسة الانتماءات الدموية التي يقوم باسمها الاحتلال الصهيوني، وجرائمه ضد الفلسطينيين والفلسطينيات.
اليوم أدافع عن فلسطين، وسأنتمي إلى الطرق كلها التي تقودني إلى ذلك، من دون أن أجبر نفسي على الانتماء إلى أيّ أيدولوجيا سياسية، أو دينية، أو إثنية، تبثّها الفصائل فينا، لتقتات عليها. لكن في الغد البعيد، عندما تتحرّر فلسطين يوماً ما، حينها فلسطين الحرة هي من سيحرّرني من الانتماء إليها
اليوم أدافع عن فلسطين، وسأنتمي إلى الطرق كلها التي تقودني إلى ذلك، من دون أن أجبر نفسي على الانتماء إلى أيّ أيدولوجيا سياسية، أو دينية، أو إثنية، تبثّها الفصائل فينا، لتقتات عليها. لكن في الغد البعيد، عندما تتحرّر فلسطين يوماً ما، حينها فلسطين الحرة هي من سيحرّرني من الانتماء إليها.
أما الصديق الثاني، فكان يرغب بشدةٍ في أن يكون جدّه أحد الأبطال الذين قاتلوا ضد الاحتلال، لذلك كان يروي قصة استشهاده كل مرةٍ بطريقة مختلفة. ولا أنكر أنه مع الوقت والإعادة، بدأت ألاحظ كيف أنه اكتسب خبرةً وذكاءً في انتقاء كلماته، بالشكل الذي أصبح سرده يوماً بعد يومٍ مشوقاً أكثر فأكثر، وصار يأخذ طابع الحبكات الروائية، إلى درجة أنه كاد ينسيك المفارقات مع آخر مرةٍ روى فيها الحكاية ذاتها.
صديقاي وأنا، أردنا طوال سنوات المدرسة أن نكون أبطالاً. كنا أطفالاً وأردنا -ببساطةٍ- أن نموت، من دون أن نمتلك ترف التفكير في احتمال أن تؤثّر هذه الرغبة في طفولتنا، وشكل حياتنا القادمة.
مع الوقت، اكتشفت أن عادة الحديث عن الانتصارات فحسب، وإعادة صياغتها، وتجديدها، واختلاق أحداثٍ تاريخيةٍ إن وجب الأمر، لم تقتصر على صديقي هذا، بل كان يفعلها كثيرون من أهلنا ، الذين لم يبقَ لهم سوى حكايات البطولات التي تنسيهم قهر الحياة الظالمة، ليحوّلوا بذلك طفولتنا إلى فيلمٍ ملحميٍّ لا نعرف فيه من الفلسطينيين والفلسطينيّات سوى الأبطال الأخيار الذين انتصروا على كلّ شيءٍ، من دون أن نتجرأ على السؤال: إن كان تاريخنا ملييئاً بالانتصارات، فلماذا لا نزال نولد في المخيمات إذاً؟
أما الخسارات الحقيقية التي صنعت حياتنا في المخيمات، فظلّت حبيسةً في أفئدة الذين اكتفوا من عبث أساطير النصر، وتجرّؤوا على قداسة الشهداء والأبطال. الخسارات الحقيقة لم أكتشفها إلا حين بدأ معلّم العربية ، الأستاذ سُكّري، في مدرسة الكرمل في مخيم اليرموك، بالحديث عنها كلّما أراد الهروب من رتابة المعلّقات، وشرح أبيات محمد مهدي الجواهري.
عن رصيف