إنصاف درويش لا يكون بتقديسه بل في توسيع حدود قراءته


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

لقد رحل محمود درويش وفي حلقه غصّة أن النقاد قد اغتالوه، وأن جمهوره قد تخلّف عن فهمه وقراءته كما كان يشتهي. وضع نشأ لأن قرّاءه لا سيّما من النقّاد والوسطاء بين شعره وبين الجمهور قرأوه من اعتبارات هويتيّة (قومية: فلسطينية وعربيّة) وإيديولوجية سياسيّة محدودة. فإذا قدّسوه فمن اعتبارات الهويّة والدفاع عنها والإبداع في الاشتباك مع العالم لأجلها. وإذا شنّوا ضدّه الحملات فمن الاعتبارات ذاتها، أنه لم يعد ملتزمًا وشاعر مقاومة كما كان. في الحالتيْن ظلّ فهم درويش وتجربته ونتاجه الشعريّ قاصرًا عن الإحاطة بالرجل وأثره الأدبيّ.

وعليه، سأقترح قراءات أخرى لدرويش قد تُنصفه ولو بعد رحيله. وهي القراءات التي تعتمد في فهم درويش ونصّه الشعريّ على نظريات وأفكار تأتي من حقول الأدب المقارَن وأدب ما بعد الاستعمار والأدب العالميّ. صحيح أن بعضنا كتب وأشار إلى حقيقة أن درويش استطاع أن يأخذ فلسطين القضية والمعنى إلى العالم الرحب خارجًا من حدود قوميّته وهويّته. بيد أن هذا الطرح أيضًا استند إلى فلسطين كمركز وقاس الأمور بمدى نجاح درويش في تدويل القضيّة أدبيًا وثقافيًا ليس أبعد من هذا.

عالمية درويش لا تأتي من حقيقة ترجمة شعره إلى عشرات اللغات بل من حقيقة أنه كان على معرفة منهجية بالتحولات في حقل الأدب لا سيّما نظريات الاستشراق وما بعده والثقافة والأدب العالمي. يكفي أن نطالع قصيدته “طباق” المهداة إلى إدوارد سعيد (أتت في أربعة مقاطع في مجموعة “كزهر اللوز أو أبعد” ـ 2006) لنُدرك كيف أنه اعتمد نظريات سعيد في الثقافة والإمبرياليّة والهويّة ومفهومه المطوّب باسمه “طباق” للعلاقات بين الهويّات الثقافيّة، وناقشها شعرًا فكريًا فلسفيًّا ألمعيًّا. وهو ما فعله في الجدارية التي فكّك فيها تفكيكات دريدا. وهو ما فعله بمنهجيّة في نتاجه المتأخّر. عالمية درويش تنبع أساسًا من بلوغه الجماليّ في الشعر بوصفه قيمة راسخة وقدرته على تقمّص الجوهر البشريّ والإتيان به شعرًا عابرا للثقافات واللغات. تأتي عاميّته من فرادة شعره ولغته الشعريّة التي تشكّل إضافة وازنة إلى اللغة العربيّة ذاتها. من هنا تأتي ترجمة درويش إلى لغات كثيرة وتحرّر ترجمته من الغائية الإيديولوجية.

أعرف أن هناك مَن يعتقد أن عالمية درويش وأدبه تأتي على حساب “هويّته” التي قِيس بها درويش ونتاجه مُعظم الوقت. وأنا على اعتقاد مغاير وهو أن عالمية درويش هو حقّه الشخصيّ يدمج فلسطين قضيّة ومعنى ضمن الإرث والتجربة واللغة الإنسانية عوضًا عن بقائها “استثناء” كرهه درويش ودعا إلى التحرر من إساره لأنه قابض كالاستعمار على روح فلسطين وناسها.

إن التحرر والانعتاق من القراءة الهويتية الإيديولوجية لا تحرّر شعر درويش ونتاجه فحسب، بل من شأنها أن تحرّر الوقت والمستقبل، أيضًا.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: مرزوق الحلبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *