أول جملة تعلمت قراءتها قبل المدرسة “الطيان جابر شاهين”
لم نعد نصدق الموت عن بعد… بين لحظةٍ وأخرى وأنا أكلم ابنة خالي عبر الهاتف اليوم صباحاً لأعزيها بوفاة خالي وهو مسجى بقربها في بيتها كادت تخرج من فمي عبارة ” أعطيني خالي أحكي معه”!
من هو خالي جابر شاهين؟ الذي خطفت كورونا روحه اليوم رغم أنه نجا من كل ويلات حصار اليرموك، ومن قبلها حرب تشرين، حيث رفض مغادرة المخيم رغم تقدمه بالسن. ولم يستسلم لفكرة أن معظم سكان المخيم قد لجؤوا إلى خارجه. أمثاله يظهرون في الشخصيات الروائية ولكن يبقون من بنات خيال الروائي الذي يمنحهم أسماء غير أسماءهم الحقيقية.
جابر أبو النور هو واحد من أمهر من حملوا لقب طيان في دمشق، وهو من أجمل من عزفوا على العود وغنى “يا طيرة طيرة يام حمامة” و “القرصية منين منين”، وهو أحن خالٍ بالدنيا، من أوائل من نشطوا في مفوضية الكشاف في مخيم اليرموك مع صديقه الراحل حسن الباش الله يرحمه. أشهى شاي في العالم يمكنك أن تشربه فقط عند جابر شاهين.
لم أدخل روضة للأطفال لأنه لم يكن في مخيم اليرموك سوى روضة أطفال واحدة هي روضة “العودة” في نهاية ساحة أبو حشيش، وبالقرب من مدرستي ترشيحا والمالكية، واللوثري الذي تحول إلى مدرسة لاحقاً، وبالطبع جامع عبد القادر الحسيني وحديقة البلدية “الملجأ” الذي تم تشيده أواخر الستينات، وكنا نذهب للعلب على تلة التراب التي أعدت لتغطية الملجأ ليصبح حديقة أو مستودع لمعدات البلدية.
روضة العودة كانت شيئاً مبهماً بالنسبة لنا، لم ندخلها ولا نعرف ماذا يجري خلف أسوارها العالية التي هي جدران البناء نفسه، ولم نعرف أي معنى لكلمة روضة، ولا نعرف من يدخل ويخرج من بوابتها الحديدية الموصدة، فهي لأبناء الموظفين وأبناء الميسورين، لكنها لم تكن آنداك لتستوعب كل أبناء أطفال المخيم، ولا اذكر إذا كان في حينها رياض أطفال خاصة ولو كانت لا يمكن للفقراء ارتيادها.
لكن لي شيء ما لا أنساه على مبنى تلك الروضة المرشوشة رشة مكينة باللون الزهري الضارب إلى البني، وهذا ما قل نظيره آنداك في المخيم، فالقليل من البيوت كانت واجهاتها الخارجية مطينة ومرشوشة.
كُتب على جدار الروضة بخطٍ جميل “الطيان جابر شاهين”. كنا نسكن في جادة قريبة من الروضة من جادات شارع صفد الموصلة إلى الروضة، وكان إخوتي الكبار الذين سبقوني للدخول إلى المدرسة كلما مررنا من جانب الروضة يقرؤون لي تلك العبارة افتخاراً بصاحبها، أخي ابو زكريا الله يرحمه علمني تهجئتها ا ل ط ي ا ن ج ا ب ر ش ا ه ي ن “الطيان جابر شاهين”، فكانت هي جملتي الأولى التي تمكنت من قراءتها بالعربية.
أبو النور كان من الرجال الأقوياء جداً له عضلات منتفخة كانت كفيلة أن تبعثرنا أنا وإخوتي الثمانية قبل أن نصبح 14 كباراً وصغاراً عندما كان يلعب معنا المصارعة، حيث كان يأتي لزيارتنا بشكلٍ دائم ويجلب معه الهدايا والكستنا الحلويات وغيرها، ومن أهم ما كان يجلبه بين الحين والأخر بقجة كبيرة جداً مليئة بالثياب والأحذية “باليه” حيث كان يشتريها دفعة واحدة وهي مغلقة من صديق له كان لديه محل باليه “ملابس مستعملة” وسط شارع لوبية قبل أن يتحول إلى أهم سوق تجاري ربما في دمشق بعد الحميدية والصالحية وباب توما. في إحدى المرات قال هذه الباليه جيدة إنها من السويد، بالطبع كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة السويد وأشم رائحتها التي ظلت في أنفي حتى قدومي للسويد، فأصبحت أحب زيارة السكندهاند لأستعيد تلك الرائحة التي حفرت عميقاً في ذاكرتي عندما لم أكن أتخيل أنني سوف أنتقل يوماً للعيش في بلد الباليه الفاخرة.
جابر شاهين طيان ماهر ليس كمثله اثنين في مخيم اليرموك، لناحية السرعة بالعمل والإتقان، كان يعمل على الودع لمن يعرف تلك المهنة يعرف معنى ذلك، وسعر الودع أغلى بكثير من سعر القدة، ولكنه رغم السعر المنخفض كان يرفض العمل إلا على أصوله، وكان دائماً محجوز لستة أشهر أو أكثر، عملنا معه ونحن أطفال وعمل معه الكثير من شباب المخيم، وفي بداية تعلمه المهنة كان يعمل هو والفنان فهد بلان رحمه الله مع جدي عبد الرحمن، وفي وقت الغداء كانوا يحولون الاستراحة إلى حفلة كما ذكر جدي فكلاهما كان يغني ويعزف العود.
شارك في وقت مبكر في مفوضية الكشاف هو وأصدقاء كثر كان يحدثنا عنهم ولكن كان أكثرهم معرفة بالنسبة لي الدكتور الراحل حسن الباش رحمه الله، وكان خالي يذكره كثيرا.
جابر شاهين كان عازف ماهر جداً على العود وكان صوته عذباً وصداحا وقوياً، بالطبع قبل أن يهجر العود والفن بشكلٍ نهائي ولا أحد يعرف سبب ذلك غيره، ولكنه من أجمل من غنى لمدن فلسطين قاطبة، وأجمل ما سمعت منه أغنيتي “يا طيرة طيري ياحمامة” و”القرصية منين منين”، نور ابن خالي الكبير هو من ورث منه موهبة العزف على العود، بالطبع إضافة إلى اتقان المهنة، وباقي أبناءه محمد النجار الله يرحمه، وعبد الرحمن وأحمد ورثوا جديته ومثابرته بالعمل.
كان أبو النور الذي يعمل بطاقة خمسة طيانين أو أكثر يأكل أيضاً ما يأكله خمسة رجال بدقائق عندما كان شاباً ولكنه لا يسمن أبداً، كل ما يأكله يحرقه في العمل والحركة الدؤوبة من الفجر إلى وقتٍ متأخرٍ من المساء، في إحدى المرات كان يعمل ببيتٍ قريب من بيت جدي حيث كان يسكن هناك في “شارع فلسطين موقف أبو حسن”، جاء جابر كما تقول جدتي لطيفة جبريل أبو ثابت الله يرحمها عند استراحة الغداء، ودخل خلسة إلى المطبخ بينما كانت جدتي تصلي في غرفتها، وكان فوق البابور طنجرة كوسا محشي كبيرة عم تستوي، أكل خالي جابر كل ما في الطنجرة وهي فوق النار، ودخل إلى الغرفة وقال لجدتي أين الغداء، ذهبت إلى المطبخ فوجدت الطنجرة فارغة تماماً، فأجابها كنت عم بتذوق أكلك يا حجة.
عمل مع أبو النور الكثير من شباب المخيم وخاصة أولئك المساكين الذين ليس من السهل أن يجدوا عملا، كان يحبهم ويمازحهم فكانت أجواء الورشة لديه دائماً كوميديا ومرح ولكن دون أي توقف عن العمل، كان يستطيع التحدث والتنكيت والغناء وهو على ظهر السقالة يمد سقفاً بالطين، لديه سرعة في انجاز العمل كانت تتطلب أن يعمل معه عدة شغيلة لحتى يلحقوا عليه شغل.
قبل أزمة المخيم تضمن ارضاً في حي الزين لزراعتها وكان لديه منهل ماء يوزع الماء للزرع وللعمار، كان يوزع على العائلة كل ما يزرعه من باذنجان لذيذ للمكدوس، كوسا، بندورة، نعنع، خس وغيرها من الخضروات، فبعد عودته من العمل يتفرغ للأرض وبعدها يلف بالماتور الذي رافقه طوال حياته كوسيلة نقل ليوزع ما أعطته الأرض من خير على بيوت الأهل والأقارب.
رغم صعوبة العيش في المخيم في ظل الحصار رفض مغادرة المخيم، عاش كل ظروف الحصار وكان يتدبر امر عائلته بما تيسر من الطعام وما يزيد عن حاجته كان يقدمه لمن يحتاج. خرج من المخيم إلى يلدا بوقتٍ متأخر. واستمر بالعمل وجني رزقه بنفسه رغم كبر سنه إلى أن داهمه فيروس كورونا مع حلول عيد الأضحى، قلبه الذي كابد غربة الأهل والأولاد لم يحتمل فغادر قبل أن يهده التعب.
كنت كلما ضاقت بي الدنيا أزوره، لأشرب الشاي عنده، واستمع لحكاياه الشيقة التي تبدأ دائما بالحديث عن عمله، ومن ثم نوادر العمل، وصولاً إلى حكايات شبابه والحديث بالطبع عن فلسطين.
لم اصدق أنه مات كما لم أصدق أن أبي مات وأمي هي الأخرى ماتت وأنا في الغربة، خلال نهار هذا اليوم أمسكت بالهاتف كنت على وشك الاتصال برقم أمي لأعزيها بوفاة خالي لكني استفقت على أكذوبة موتها كما أكذوبة موته وموت أبي وأخي أبو زكريا وأخي يحيى والكثير من الأحبة، كلهم لم ارى موتهم. الموت مع البعد كذبة يصعب تصديقها.