إلى الحرب الأهلية في إسرائيل؟

عندما واجه المحققون الإسرائيليون إيغال عامير، قاتل رئيس الوزراء الأسبق، إسحق رابين، بأن “قتل القادة ليس عملاً فعالاً، لأن قادة آخرين على الفور ينهضون مكانهم”، أجاب على الفور: إذن لماذا قتلنا فتحي الشقاقي.
ربط عامير بين رابين وزعيم حركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي هو توحيد النظرة إليهما بوصفهما عدوّين. وبذلك شكّل اغتيال رابين صدمة للمجتمع الإسرائيلي، فلم يعد العدو يقتصر على الخارج كما كان سائداً في السابق، فهناك شرائح وقوى في المجتمع الإسرائيلي تعتقد بوجود عدو داخلي لا يقل خطورة عن العدو الخارجي. تنظر اتجاهات الصهيونية الدينية في إسرائيل التي أفتت حينها بقتل رابين إلى نفسها بصفتها شيئاً مختلفاً ومعادياً للمجتمع الإسرائيلي العلماني. ومنذ ذلك الحين، زادت قوة الأحزاب الصهيونية الدينية، والتي تفرض اليوم في ظل التحالف في ظل حكومة بنيامين نتنياهو شروطها، لمواجهة المحكمة الإسرائيلية العليا، وكفّ يدها عن التدخّل في عمل الحكومة، من خلال تعديلات قضائية تحدّ من صلاحياتها، وتعطي صلاحياتٍ أوسع للحكومة، وتجعل المحكمة العليا غير قادرةٍ على التدخّل في هذه القرارات والتعيينات الحكومية. وقد اعتبرت قطاعات واسعة في المجتمع الإسرائيلي هذه التعديلات مسّاً بالأسس الديمقراطية التي قامت عليها إسرائيل، ما ولّد موجة احتجاجات واسعة على هذه التعديلات، ما تزال مستمرّة، وستستمر إلى وقت.
حذّر المفكر الإسرائيلي ديفيد هارتمان، في العام 1990، من الاستقطاب الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي، واعتبر أن أخطر مسألة في إسرائيل “أن يعرف المرء في ما إذا كان من الممكن أن تؤدّي الخلافات المزمنة بين اليهود إلى حرب أهلية”. ومنذ ذلك اليومن لم تضعُف الاتجاهات الأكثر يمينية في إسرائيل، بل ازدادت قوة، وأعطاها تفتّت الساحة السياسية الإسرائيلية وضعف الأحزاب الكبيرة، وحتى اختفاؤها من الساحة السياسية، مثل ما حدث لحزب العمل، مؤسّس دولة إسرائيل الذي هيمن على الساحة السياسية عقودا بعد تأسيس إسرائيل، مزيدا من القوة. ومع ميل دول كثيرة إلى اليمين والشعبوية، لم تنج إسرائيل من هذا الميل، خلال السنوات المنصرمة، ما جعل اليمين الديني في إسرائيل يزداد قوةً في ظل تفتت الآخرين وضعفهم.

ما تزال مشكلة الهوية الأعقد التي تواجه مجتمعات وشعوبا عديدة اليوم، والتي تأخذ في إسرائيل طابعاً خاصاً بحكم توزّع الأماكن والانتماءات

عانت التجمعات اليهودية في أوروبا مشكلة الهوية قبل ولادة الحركة الصهيونية في مؤتمر بال (1897)، وما تزال مشكلة الهوية الأعقد التي تواجه مجتمعات وشعوبا عديدة اليوم، والتي تأخذ في إسرائيل طابعاً خاصاً بحكم توزّع الأماكن والانتماءات التي جاء منها تشكيلات المجتمع الإسرائيلي الذي حاول دمج الجميع في بوتقة الصهر، التي لم تنجح في إنتاج هوية واحدة سوى في حربها على الفلسطينيين، فعندما ظهرت الحركة الصهيونية وطرحت الحل القومي حلّا لما تسمّى “المشكلة اليهودية” لم تكن الحل الوحيد المطروح لها. ولأن الصهيونية كانت ثمرة اتجاه العلمنة الذي ساد العالم الذي يعيش فيه اليهود، ولأنها تأثّرت بالحركة القومية الحديثة في أوروبا وأفكار القومية العلمانية، فإنها أخذت الطابع العلماني، رغم تعقيداتٍ كثيرة واجهتها في حل مشكلة العلاقة بين الدين والقومية، ففي وقت تنطلق الصهيونية من مواقع علمانية حافظت على علاقاتٍ وثيقة مع اليهودية لتوظيفها في إطار المشروع الصهيوني.
فرغم علمانيّتها، اعتمدت الصهيونية الوعد الإلهي لبني إسرائيل بإنهاء تشتّتهم من خلال العودة إلى صهيون، وهو المبدأ المركزي الذي يحرّك الصهيونية ويضفي عليها الشرعية. وهكذا زرعت الصهيونية في الوعي اليهودين عبر الأجيال، فكرة العلاقة الوثيقة التي لا تنفصم بين الهوية الدينية والهدف السياسي لكل مرحلة. وشكلت الهجرة الطقس الأول في الصهيونية، وهي حقٌّ لجميع اليهود، والتزام يترتب على كل صهيوني، فإن محكّ التمسّك بالمعتقد الصهيوني هو موقف اليهودي من “قانون العودة” الذي يضمن تلقائياً حق المواطنة الإسرائيلية لكل يهودي يهاجر إلى إسرائيل. وتسعى الهجرة إلى تغيير ظروف الوجود الخاصة بالشعب اليهودي، عن طريق القضاء التدريجي على الشتات، بجمع شتات المنفيين اليهود في الدولة اليهودية. ورغم التنوّع والتناقضات بين التيارات الصهيونية المختلفة، إلا أن هناك اتفاقاً واسعاً بينها حول الأهداف، وهناك أيضاً استعداد كبير فيما بينها للتعاون من أجل تحقيقها.

مع استقطاب الأحزاب الدينية وأحزاب الصهيونية الدينية مؤيدين جددا، أصبحت تشكّل قوة لا يستهان بها

اختلفت الأطروحات السابقة مع الطرح الصهيوني للهوية، ولكن هذا الاختلاف ليس حول المبادئ الأساسية للصهيونية، لكنه نوع من التمرّد عليها، انطلاقاً من الرؤية الخاصة بهذه الهويات، بأنه لم يعد هناك مجال لاستمرار سيطرة الصهيونية على الواقع الجديد في إسرائيل المستقبل. وانطلقت هذه الهويات من أن الصهيونية انتهى دورها في تاريخ اليهود المعاصر، وأن إسرائيل بحاجةٍ إلى هوية أخرى تكون مسؤولة عن تشكيل مستقبلها.
مع التقدّم الذي أحرزته الأحزاب الدينية وأحزاب الصهيونية الدينية على مدار الدورات العشر الانتخابية التي جرت في إسرائيل، انطلاقاً من انتخابات الكنيست الرابع عشر بحصولها على 23 مقعداً، أصبحوا القوة السياسية الثالثة بعد الحزبين الكبيرين. ومع استقطاب هذه الأحزاب مؤيدين جددا، أصبحت تشكّل قوة لا يستهان بها، وازدادت قوة في السنوات التالية. وتتبنّى هذه الأحزاب الدين اليهودي وحده الأساس والمصدر لهوية المجتمع الإسرائيلي، وتسعى إلى تحويلها إلى دولةٍ يهوديةٍ تحكمها قوانين متشدّدة، وعدوانية تجاه الفلسطينيين، والذي يظهر بوضوح في سياسات الحكومة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، والتي يديرها الوزراء العنصريون والمتطرّفون في مواجهة الفلسطينيين في حكومة نتنياهو، أمثال بن غفير وسموتريتش.

في استطلاع حديث للرأي أجرته القناة الإسرائيلية 12 عبر 67% من الإسرائيليين عن خشيتهم من اندلاع حرب أهلية

تحاول هذه الأحزاب من خلال الشعور بالقوة فرض مفاهيمها على المجتمع الإسرائيلي. وبالرغم من أن المتدينين أقلية والعلمانيون هم الأغلبية، إلا أنه لا يوجد تناسب في فرض قيم كل منهما على الآخر، حيث يقوم اليمين الديني بمحاولاتٍ لا تهدأ من أجل فرض قيمه، وهو الأكثر تنظيماً رغم أنه أقلّية، لكنه يستغل هدف نتنياهو بالنجاة من قضايا الفساد التي تلاحقه، ليمضِي في التعديلات القضائية بعيداً، تجعله أكثر قدرة على فرض سياسته على مجمل الإسرائيليين وعلى الفلسطينيين الأكثر تضرّراً من وجود اليمين الديني في الحكومة في مراكز قادرة على فرض سياسات استيطانية واعتداءات على الفلسطينيين يحميها الجيش والشرطة التي يديرها بن غفير.
يخشى الإسرائيليون اليوم اندلاع حرب أهلية، وجاء ذلك في استطلاع حديث للرأي أجرته القناة الإسرائيلية 12، حيث عبر 67% من الإسرائيليين عن خشيتهم من اندلاع حربٍ أهلية. والحديث الذي كان في السابق عن “حربٍ ثقافية” تحوّل إلى الحديث عن “حربٍ أهلية”، حدث ذلك بعد اغتيال رابين، وأصبح المصطلح شائعاً في أجهزة الإعلام الإسرائيلية. ومنذ سنوات، يرجّح كثيرون من علماء الاجتماع والسياسة في إسرائيل أن تنزلق الأوضاع بين الطرفين إلى حربٍ أهلية في المستقبل. ولكن في كل مرة يتم تصدير الاحتقان الإسرائيلي إلى الخارج، عبر سفك الدم الفلسطيني، أو ترهيب المجتمع بالخطر الخارجي.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *