إلى أين تتّجه حرب لبنان المفتوحة على جميع الاحتمالات؟
تتوالى فصول الحرب الإسرائيلية على لبنان ولا تزال أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة عنها. ماذا سيحدث لحزب الله في المرحلة اللاحقة؟ وما الهدف النهائي للجيش الإسرائيلي؟ وما الاتفاق الذي توصّلت إليه إسرائيل والولايات المتحدة وسمح للأميركيين بتغيير الطرح الذي قدّموه قبل أشهر لوقف الأعمال الحربية بين حزب الله والقوات الإسرائيلية؟
ظهر أول مؤشّر على أن الموقف الأميركي شهد تغييرًا ما في أوائل تشرين الأول/أكتوبر، حين أبلغ مبعوث الرئيس الأميركي الخاص، آموس هوكستين، رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتي، بأن مقترح الحلّ الدبلوماسي الذي عرضه على اللبنانيين في شهر حزيران/يونيو الماضي “لم يعد مطروحًا للنقاش” بسبب تغيّر الأوضاع على الأرض. وقد دعت خطة هوكستين إلى انسحاب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، على بعد 30 كيلومترًا تقريبًا من الحدود، ونشر الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية، إلى جانب قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل).
ردّد طرح هوكستين إلى حدٍّ ما صدى قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي أنهى حرب العام 2006 في البلاد، وتولّى إدارة العلاقات بين لبنان وإسرائيل على طول حدودهما المشتركة. لكن إقدام هوكستين على سحب اقتراحه يشير إلى أن واشنطن تفكر ربما بشيءٍ أكبر من القرار 1701؛ أو تشاطر إسرائيل موقفها بأن هذا القرار لم يعد كافيًا لأنه لا ينطوي على آلية تنفيذ تضمن بقاء حزب الله بعيدًا عن الأراضي الإسرائيلية.
يبدو أن التقارير الإخبارية الصادرة في أوائل تشرين الأول/أكتوبر أكّدت أن إدارة بايدن منخرطة في تفكير أكثر طُموحًا بكثير. بعد أن أصبح حزب الله إلى حدٍّ كبير من دون قيادة سياسة وعسكرية بسبب اغتيال الأمين العام حسن نصر الله، وخلفه المُتوقَّع هاشم صفي الدين، إضافةً إلى عددٍ من كبار القادة العسكريين، يسعى الأميركيون الآن إلى إحداث تغيير جوهري في موازين القوى في لبنان. وجاء توضيح هذه الفكرة على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، حين قال إن “ما نريد أن نراه في نهاية المطاف من هذا الوضع هو أن يتمكّن لبنان من كسر قبضة حزب الله على البلاد-]بل[ أكثر من قبضة، ]نريد[ فكّ الخناق الذي يفرضه حزب الله على البلاد وإزالة الفيتو ]الذي يضعه[ الحزب على ]مسألة انتخاب[ رئيس ]للجمهورية[“.
إن انتخاب رئيس جديد للبنان يشكّل أولويةً للأميركيين الذين يرون في ذلك خطوة أولى ضرورية لتوطيد أركان نظام ما بعد حزب الله. ومن غير المفاجئ أن يكون قائد الجيش جوزيف عون، الذي يمثّل المؤسسة الوطنية الوحيدة التي تحظى باحترام معظم اللبنانيين، الشخصية التي يعتبرونها الأنسب لخوض هذا المسعى. يجسّد عون منطق سلطة الدولة، في وجه منطق حزب الله المتمثّل في المقاومة المفتوحة. لكن ينبغي على الذين يسارعون إلى إعلان نهاية حزب الله أن يتوخّوا الحذر الشديد، ذلك أن محاولة فرض واقعٍ جديد يعتبره الحزب تهديدًا لمصالحه الحيوية قد تؤدّي إلى اندلاع حربٍ أهلية. فعلى الرغم من كل الأزمات التي واجهها لبنان طوال عقودٍ من الزمن، بقي الثابت الوحيد أن القرارات الكبرى، حين لا تُتَّخَذ بشكلٍ توافقي، تميل إلى إشعال صراع طائفي.
قد يكون هذا الأمر مُحبِطًا للحكومات الأجنبية. لكن الآن هو أسوأ توقيت للَيّ ذراع الطائفة الشيعية وإرغامها على القبول بقرارات يعارضها حزب الله. فأبناؤها يعانون من الصدمة والتهجير، ناهيك عن أنهم مدجّجون بالسلاح ويفتقرون إلى زعيمٍ قادرٍ على السيطرة على مشاعر الاستياء والذلّ التي لا بدّ من أنها تتملّكهم باعتبارهم الطائفة الوحيدة التي تستهدفها إسرائيل. قد يبدو هذا التوقيت مناسبًا لصنّاع القرار الأجانب من أجل الضغط على حزب الله، لكن هل فكّر أحدٌ بعواقب ذلك؟ كيف ستكون ردة فعل الحزب تجاه شركائه الطائفيين في الدولة بمجرّد استعادة عافيته؟ سيروّج لسرديةٍ مفادها أنهم استغلّوا العدوان الإسرائيلي لتهميش الشيعة مرة أخرى، وستُمكّنه هذه الرسالة من امتصاص السخط الذي يشعر به الكثير من الشيعة الذين خسروا كل شيء بسبب غضب إسرائيل المدمّر، وإعادة توجيهه نحو الداخل.
وفقًا لأصواتٍ مؤثّرة في واشنطن، دار كلامٌ في الآونة الأخيرة عن فرض عقوبات على رئيس مجلس النواب نبيه بري، إذا امتنع عن الدعوة إلى عقد جلسة نيابية لانتخاب رئيسٍ جديدٍ للبلاد. لا بدّ من التساؤل، مَن خطرت له هذه الفكرة الشديدة الغباء؟ يترأس بري مجلس النواب الذي هو مؤسسة الحكم الوحيدة التي لا تزال تعمل في لبنان، ويقع عند تقاطع منطقَين اثنَين سائدَين في الوقت الحالي، هما منطق المقاومة ومنطق الدولة. في حال فرض الأميركيون عقوبات على بري، فهم لن يحيّدوه فحسب بتعطيل دوره كشخصية قادرة على المساعدة في التوصّل إلى حلٍّ توافقي للأزمة المؤكّدة التي سيواجهها لبنان بعد الحرب، وعلى دفع بحزب الله في نهاية المطاف إلى القبول بمثل هذه التسوية؛ بل سيقوّضون أيضًا مجلس النواب في حدّ ذاته، ما يُلقي بالبلاد في فراغ مؤسسي.
يبدو أن ثمّة سوء فهم لماهيّة حزب الله. ففي نظر الأميركيين والإسرائيليين، التنظيم هو مجرّد قوة “وكيلة لإيران”، ما يعني أنك إذا قتلت قادتها، تحلّ مشكلتك. ولكن الحزب متجذّرٌ أيضًا في واحدة من أكبر الطوائف في لبنان، وقد أصبحت الرمزيّة التي يمثّلها جزءًا من الهوية الشيعية الجماعية. بعبارة أخرى، سيرى عددٌ كبيرٌ من الشيعة في الجهود الرامية إلى إضعاف حزب الله مسعًى لإضعاف الطائفة ككُل. لهذا السبب، يحافظ كثرٌ من النازحين الشيعة اليوم على ولائهم للحزب، على الرغم من أن سوء التقدير الفادح الذي وقع فيه تجاه إسرائيل – وهي المرّة الثانية التي يخطئ فيها التقدير في غضون ثمانية عشر عامًا – تسبّبَ بدمار المناطق الخاضعة لسيطرته، ما أسفر عن نزوح نحو 1.2 مليون شخص.
من الشخصيات التي تربطها بالولايات المتحدة علاقاتٌ جيدة بوجهٍ خاص رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، الذي أخذ على عاتقه بشكل واضح قيادة الحملة ضدّ حزب الله. وقد كرّر جعجع، في مؤتمر عُقِد في دارته في نهاية الأسبوع الماضي، دعمه لقرارات الأمم المتحدة عن لبنان، وفي مقدّمها قرار مجلس الأمن رقم 1559، الذي يدعو إلى نزع سلاح حزب الله. لكن المشكلة هي أن قلّةً من معارضي حزب الله ستسير على خطى جعجع في خوض مواجهة مع الحزب من شأنها تأجيج العداوات الطائفية. وما يزيد الأمور تعقيدًا للأميركيين هو أن جعجع غير متحمّسٍ لانتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، حتى لو أنه قد يوافق على صفقة متكاملة تأتي بعون إلى سدّة الرئاسة برعاية دولية.
على مستوى آخر، يجب على الأميركيين أن يحدّدوا دور الخطط العسكرية الإسرائيلية في لبنان في كل ذلك. يحتفظ الإسرائيليون بمجموعة من الخيارات يهدف أحدها على ما يبدو إلى تطبيق القرار 1559 من خلال نزع سلاح حزب الله بالقوّة، فيما يسعى خيارٌ آخر إلى تعزيز الترتيبات الأمنية على طول الحدود في جنوب لبنان. قد ينطوي الهدف الأول على حملة تستمر لفترة طويلة جدًّا في لبنان، وتشمل ربما اجتياحًا إسرائيليَّا وصولًا إلى نهر الأولي وصيدا، حيث يمكن للإسرائيليين أن يستغرقوا ما يحتاجونه من وقتٍ لتدمير مخابئ سلاح الحزب في مختلف أنحاء البلاد. أما المسعى الثاني فقد يعني إقدام إسرائيليين على احتلال كامل المنطقة الواقعة بين نهر الليطاني والحدود، واحتفاظهم بالأراضي التي قد يسيطرون عليها، وربط انسحابهم منها باشتراط صدور قرار عن الأمم المتحدة أكثر صرامةً من القرار 1701.
وفقًا لما كشفه الصحافي اللبناني منير الربيع، يجري حاليًّا تداول مشروع قرار أوّلي بهذا الصدد لطرحه على النقاش في مجلس الأمن. يجمع النص بصورة أساسية بين الأهداف الواردة في القرارَين 1559 و1701، بما في ذلك انسحاب حزب الله إلى الليطاني ونزع سلاحه، فضلًا عن خطوات أخرى تشمل إجراء انتخابات نيابية مبكرة وانتخاب رئيس للجمهورية. ولكن فرص اعتماد القرار محدودة، بحسب الربيع، إلّا أنه قد يكون بمثابة مناورة افتتاحية في المفاوضات. المفارقة أن هذا الوضع يمنح إسرائيل ورقة نفوذ يمكنها استخدامها من خلال التهديد بتوسيع حملتها في لبنان لإرغام مجلس الأمن على تمرير ما تعتبره نسخةً مُرضية لمشروع القرار؛ وإذا جرت عرقلة الإسرائيليين والأميركيين في المجلس، فقد يحاولون استغلال هذا التعطيل واستخدامه ذريعةً لتبرير استمرار العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان.
غالب الظن أن عددًا كبيرًا من اللبنانيين سيؤيّدون الدفع باتّجاه إضعاف قبضة حزب الله على النظام اللبناني واستبدال قوّته العسكرية بالجيش اللبناني. ولكن الأكيد أن ذلك لن يتحقّق بنجاح انطلاقًا من واشنطن أو إسرائيل. ففي أقصى تقدير، قد يتمكّن الأفرقاء اللبنانيون من إرغام حزب الله على الدخول في مفاوضات بشأن استراتيجية جديدة للدفاع الوطني، ولا شكّ أنهم سيحتاجون إلى تعاون بري لفعل ذلك. وحتى في هذه الحالة، لا شيء مضمون، لأن إيران هي صاحبة القرار النهائي بشأن سلاح الحزب.
ولكن قد تكون ثمّة فرصةٌ لفتح كوّة في هذا الجدار، نظرًا إلى أن الدمار المروّع الذي ألحقته إسرائيل ببيئة حزب الله يشير إلى أنه لن يتمكّن من خوض مغامرات عسكرية جديدة على مدى عقودٍ من الزمن، وقد لا يستطيع ذلك مطلقًا. فالطائفة الشيعية لم تعد قادرة على تحمّل المزيد. في ضوء ذلك، قد تُبدِّل إيران أولوياتها فتنتقل من إعادة تسليح الحزب إلى حماية الطائفة الشيعية المنكوبة واستنهاضها من جديد، بطريقة تتيح لها الحفاظ على نفوذها في لبنان. وإذا أخفقت في ذلك، قد يستنتج شيعة لبنان أن دورهم يقتصر على أن يكونوا وقودًا للمدافع الإيرانية، ما يلحق ضررًا بالغًا بطهران يتعذّر ترميمه.
عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي