إقفال باب المصالحة الفلسطينية
اشترط الرئيس الفلسطيني محمود عباس للحوار مع حركة حماس أن “تعترف، وبتوقيع إسماعيل هنية، بقرارات الشرعية الدولية، وبدون ذاك لا حوار معهم”، مؤكّدًا أن هذا هو “المطلوب منها كي تكون شريكة” في النظام السياسي الفلسطيني. جاء ذلك في ردّ عباس بتوقيعه وخط يده، بتاريخ 25/8/2021، على رسالة أرسلها إليه رجل الأعمال، الوسيط، منيب المصري، مؤرّخة بتاريخ 17/8/2021، يضع فيها الرئيس في صورة تفاصيل حوار تم مع “حماس”، وربما شاركه فيها آخرون من الهيئة التي شكّلها سابقًا تحت اسم “هيئة النوايا الحسنة” والتي هدفت إلى التوسط ما بين حركتي فتح وحماس، في محاولة للتوفيق بين السلطة الفلسطينية المقسمة ما بين رام الله وغزة.
يصف منيب المصري تفاصيل اجتماع امتد أكثر من أربع ساعات، وشارك فيه من حركة حماس إسماعيل هنية، وصالح العاروري، وحسام بدران، وصلاح البردويل. كان اللقاء إيجابيًا، كما تصفه رسالة المصري التي أكّدت على التزام الحركة بإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية، وتعهدها بتقديم ردٍّ رسمي على مبادرة هيئة النوايا الحسنة خلال أسبوع. ويتضح من مضمون رسالة المصري إلى الرئيس محمود عباس أن الاجتماع ركّز على مناقشة “تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، واعترافها بقرارات الشرعية الدولية”. كما يتّضح أيضًا أنّ ثمّة تحفظًا لحركة حماس على هذا الطلب، فهي حين توافق على حكومة وحدة وطنية إنما تشترط أن يكون برنامجها مستندًا إلى حوارات القاهرة. أما بشأن الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية فقد ارتأت أن يكون اتفاق مكّة الذي وقعته الحركتان بتاريخ 8/2/2007، برعاية ملك السعودية الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، هو الأساس لذلك. وقد تضمّن أربع نقاط رئيسة: تحريم الدم الفلسطيني، واعتماد لغة الحوار أساسا وحيدا لحل المشكلات الفلسطينية، والاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، والمضي في إجراءات تفعيل منظمة التحرير وتطويرها وإصلاحها، والتأكيد على مبدأ التعدّدية السياسية.
لم ينتظر الرئيس محمود عباس وصول الرد الرسمي لحركة حماس، ولم يلتقِ منيب المصري ورفاقه ليعرف منهم مجريات الحوار، وما إذا كان ثمّة قاسم مشترك يمكن الانطلاق منه لرأب الصدع الفلسطيني، واكتفى ببضع كلمات حاسمة، كتبها في ذيل الرسالة، أنهت الحوار قبل أن يبدأ، وقضت على مهمة هيئة النوايا الحسنة في مهدها، وأكدت عزوف الرئيس عباس عن أي حوار مع “حماس”، وتنصله من كل الاتفاقات السابقة التي تمت خلال الفترة التي اتحد فيها الموقف الفلسطيني في مواجهة صفقة ترامب – نتنياهو، وكان من نتائجها اجتماع الأمناء العامين، وقرارات المجلس المركزي بقطع العلاقات مع العدو، ووقف التنسيق الأمني معه، وتفعيل الإطار القيادي الموحد، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.
ليست شروط الرئيس جديدة، وقد ساهمت في حدوث الانقسام الفلسطيني في الماضي، بعدما فازت حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي عام 2006، حينما اشترطت الرباعية الدولية، بقيادة توني بلير، اعتراف “حماس” بإسرائيل، وباتفاق أوسلو، شرطًا للتعامل مع أي حكومة تشكّلها أو تشارك فيها. وأنهت هذه الشروط اتفاق مكّة، وهو ما كرّره الرئيس عباس بعد أن ألغى منفردًا الانتخابات التي كان مقرّرا إجراؤها في مايو/ أيار 2021، وتراجع عن مقرّرات اجتماع الأمناء العامين بإعادة بناء منظمة التحرير، مقدّمًا برنامجًا مختلفًا، قوامه تشكيل حكومة وفاق وطني تشارك فيها “حماس”، شريطة اعترافها ببرنامج السلطة الفلسطينية والتزاماتها، وقبولها قرارات الشرعية الدولية، الأمر الذي تسبّب بانهيار اجتماع القاهرة، ووقف الحوار الفلسطيني – الفلسطيني. وهو الموقف ذاته الذي كرّره اليوم في ردّه المقتضب على رسالة منيب المصري، معلنًا وقف أي حوار قد يؤدّي إلى المصالحة أو حتى إدارة الانقسام، ما لم يلبِّ الطرف الآخر شروطه كلها، والتي تعني تخلي “حماس” وقوى وفصائل فلسطينية عن برامجها السياسية وأولوياتها، وتحوّلها إلى حزبٍ من أحزاب السلطة وبرنامجها الذي فقد جميع مبرّرات بقائه، وأصبح عائقًا أمام حرية الشعب الفلسطيني ووحدته.
ثمّة سؤال يتعلق بمدى شرعية أن تطالَب حركة سياسية بتغيير برنامجها السياسي لتلتزم ببرنامج السلطة الفلسطينية وسياساتها؟ وما مدى علاقة ذلك بتعدّد الرؤى السياسية وبالديمقراطية في الساحة الفلسطينية؟ ومتى أصبح الاعتراف بالعدو والتنسيق معه شرطًا للمشاركة في العملية السياسية والحوار، وبديلًا من التمسّك بالرواية الفلسطينية التاريخية؟ ولماذا لا تُطبّق السياسات ذاتها على الجانب الصهيوني فيُطلب من حكومته ومن أحزابه الصهيونية كلها الالتزام بهذه القرارات؟ بل أين هي مسؤولية المجتمع الدولي الذي يكيل بمكيالين، ويفرض في كل يوم شروطًا جديدةً مجحفةً على الطرف الفلسطيني، في حين لم يتمكّن من وقف الاستيطان أو حتى تجميده، أو من حمْل إسرائيل على الانسحاب من متر واحد من الأرض الفلسطينية، أو وقف سياسة القتل اليومي الذي تمارسه بحق الفلسطينيين؟
في جميع مساعي القيادة الفلسطينية للانضمام إلى عملية السلام منذ برنامج النقاط العشر عام 1974، مرورًا بمؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وما ترتب عليه، كان الحديث دومًا عن التزامات الفلسطينيين، وما يمكن أن يقدّموه من تعهدات وتنازلات، وهو ما تمّ بالتدريج، وصولًا إلى الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، واعتبار ضمان الأمن الصهيوني شرطًا لبقاء السلطة الفلسطينية ووجودها. وتنتقل الآن المساعي ذاتها إلى محاولة انتزاع التنازلات ذاتها من حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، في حين يتم الصمت عن موقف الحكومة الإسرائيلية والأحزاب الصهيونية.
ثمّة تساؤل ملحّ عن السبب الذي يجعل الرئيس محمود عباس مصرّا على هذه الإجراءات التي لن تقود إلا إلى إقفال باب المصالحة الفلسطينية، الذي بات واضحًا أنه انقسامٌ سياسيٌّ بالدرجة الأولى، وقد تقود إلى فرزٍ غير محمود في الساحة الفلسطينية بأسرها، أمام إصرار قيادة السلطة الفلسطينية على هذا النهج، ورفضها أي محاولةٍ لإعادة بناء منظمة التحرير كيانًا سياسيًا جامعًا للكل الفلسطيني.
تتعلق الإجابة عن هذا التساؤل برؤية الرئيس محمود عباس للمرحلة المقبلة، إذ تراجع هاجس الضم القانوني في صفقة القرن بعد سقوط دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، لكن المفاوضات بشأن إقامة دولة فلسطينية بحكم ذاتي محدود لم تتقدّم، وغير مقدّر لها أن ترى النور في ظل إدارة جو بايدن، المشغول بملفاتٍ أكبر وبالنزاع مع روسيا والصين، أو في ظل حكومة نفتالي بينت الحالية، الذي أعلن بوضوح سياسته المتمثلة بإرجاء الضم القانوني، مع استمرار السياسات الاستيطانية، وعدم موافقته على قيام دولة فلسطينية، وعدم تعجله في إيجاد حل للصراع في المرحلة الحالية. هذه السياسة تضمن بقاء السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي، مع الوعود بتدفق المساعدات الاقتصادية، ومن ناحية الشكل تُبقي السلطة وتزيد من ارتهانها وتبعيتها للعدو، وتضيّع الأرض والحقوق تدريجيًا، وهي سياسة تريح الولايات المتحدة وأوروبا اللتين تنحصر مطالبهما بعدم الوصول إلى وضع متفجّر تصعب السيطرة عليه، وتريح الرئيس محمود عباس الذي يضمن بها استمرار السلطة، تحت ذريعة انتظار الوعود بحل قادم، وترويجها، والتماس الأعذار لتأجيلها، تارّة إلى حين تغير الحكومة الإسرائيلية، أو إلى حين انتهاء الإدارة الأميركية من اهتماماتها الراهنة، في الوقت الذي تضمن إسرائيل استمرار وظيفة السلطة الأمنية، وتغوّل الاستيطان، وتشجيع هجرة الفلسطينيين من أرضهم، وتراجع ملفات دحر الاحتلال، والمصالحة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام.
في المقابل، على حركة حماس وما تبقى من فصائل المقاومة الفلسطينية أن تعتبر من تجربة قيادة منظمة التحرير السابقة، والتنازلات المتدرّجة التي قدّمتها، وأن تدرك أن “أول الرقص حنجلة”، كما يقول المثل الدارج، وأن التنازل لن يعقبه إلا تنازل آخر، ولعلّ الأوان قد آن لبلورة مشروع وطني جديد ينقل الشعب الفلسطيني من مرحلة إلى أخرى، فاعتبروا يا أولي الألباب.
عن العربي الجديد