إعادة صياغة الحروب من خلال المساعدات الإنسانية

  • مراجعة لكتاب ليزا بنغاليا «إمبراطورية مرنة: إعادة صياغة الحرب من خلال المساعدات في فلسطين» الذي يتناول آلية خفية وسرّية من آليات الحرب الاستعمارية الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلّين، ويقدّم تحليلاً مفصّلاً لكيفية تداخل المساعدات الإنسانية مع قانون مكافحة الإرهاب ليشكّل أسلوباً جديداً للحرب.

شهد القرن الماضي كل أشكال الحروب المتخيلة في فلسطين، بدءاً من العنف الاستعماري التقليدي الذي ميّز الإمبراطورية البريطانية وصولاً إلى الأساليب عالية التقنية للمراقبة وحروب الطائرات المسيّرة التي تجسّد ما يُعرف بـ«الحرب على الإرهاب» التي لا تنتهي. في كتابها الأول «إمبراطورية مرنة: إعادة صياغة الحرب من خلال المساعدات في فلسطين» تسلّط ليزا بُنغاليا الضوء على آلية خفية وسرّية من آليات الحرب الاستعمارية الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلّين. تقدّم بنغاليا، المتخصّصة في الجغرافيا السياسية في جامعة ويسكونسن–ماديسون، تحليلاً مفصّلاً لكيفية تداخل المساعدات الإنسانية مع قانون مكافحة الإرهاب، لتشكّل أسلوباً جديداً للحرب يلخّص طبيعة عمل «الإمبراطورية الحديثة المتأخّرة».

جاء الكتاب في 5 فصول ومقدمة وخاتمة، ويتتبّع تطوّر قانون مكافحة الإرهاب قبل الحرب العالمية على الإرهاب، وكيفية ظهور تلك القوانين في فلسطين من خلال ترتيبات طوبولوجية إمبراطورية، وتأثير «قوائم الإرهاب» العالمية في الأجساد والبيئات المعرقنة، وتأثيرات رئاسة ترامب في المساعدات في فلسطين، و«العنف الخانق» في فلسطين نتيجة الطبيعة المتشابكة بين المساعدات وقانون مكافحة الإرهاب. وعلى طول صفحات الكتاب، توضِح بنغاليا كيف أصبحت فلسطين مختبراً لتطوير أسلوب الحرب عبر المساعدات في إطار الإمبراطورية الحديثة المتأخّرة.

تمثِّل شهادة مكافحة الإرهاب مثالاً بارزاً على مفهوم المرونة؛ أي الطريقة التي تتحرّك بها حدود الإمبراطورية وتتوسّع إلى الخارج، بينما تتحرّك في الوقت نفسه إلى الداخل لاستهداف الأجساد المعرقنة

لم تكن غاية بنغاليا عند وصولها إلى فلسطين دراسة التشابك بين مكافحة الإرهاب والمساعدات، بل كانت مهتمة بالعمل الإنساني وحالات النزوح البشري لفترات طويلة (ص. 48). لكنّها اكتشفت عند وصولها أن كل شيء عند محاوريها يدور حول «الورقة»، وهي شهادة مكافحة الإرهاب الصادرة عن الولايات المتحدة ويُطلب من جميع متلقي المساعدات توقيعها. تمثِّل هذه الشهادة، وهي اختراعٌ أميركي في فلسطين، مثالاً بارزاً على تنظير بنغاليا لمفهوم المرونة؛ أي الطريقة التي تتحرّك بها حدود الإمبراطورية، وتمتد، وتتوسّع كيفما اتفق إلى الخارج، بينما تتحرّك في الوقت نفسه إلى الداخل لاستهداف الأجساد المعرقنة (ص. 14). تصف المرونة آلية عمل تقنيات الإمبراطورية، مثل قوانين مكافحة الإرهاب، خارجياً على نطاق عالمي وداخلياً على الصعيد المحلي لتشكيل علاقات السلطة المتغلغلة في مناحي الحياة كافة. يُعد تنظير المرونة التدخل المفاهيمي الأساسي لبنغاليا، إذ يوسّع (وإنْ لم يكن صراحةً) مفهوم هارت ونيغري (2000) عن الإمبراطورية غير الخاضعة لحدود ترابية، موضّحاً ذلك من خلال الحالة الملموسة لقوانين مكافحة الإرهاب الأميركية عبر المكان. والمكان عند بنغاليا «تشكيل طوبولوجي… ترتبط فيه السلطة السيادية بطرائق مختلفة مع الأجساد ليمتزج معها الداخل والخارج» (ص. 15).

تتسم منهجية الكتاب بالتنوّع والشمول. على مدار أكثر من عقد (2009-2021)، أجرت بنغاليا أبحاثاً في فلسطين، وعمّان (مقر الأونروا)، وواشنطن العاصمة. وأكملت أكثر من 150 مقابلة شبه مُنظّمة داخل «شبكة المساعدات العابرة للحدود»، ضمّت مسؤولي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومسؤولي الأمم المتّحدة والمنظّمات غير الحكومية الأميركية والدولية ومسؤولي السلطة الفلسطينية والمنظّمات غير الحكومية الفلسطينية والمنظّمين المجتمعيين والأكاديميين الفلسطينيين والمنظّمات القاعدية. بالإضافة إلى ذلك، حلّلت بنغاليا مصادر أولية، بينها مواد قانونية وسياسات صادرة عن وزارتي الخارجية والخزانة الأميركيتين، ونصوص من المفاوضات بين القيادة الفلسطينية والإسرائيلية، وبيانات باللغتين العربية والإنكليزية صادرة عن منظّمات حقوق الإنسان الفلسطينية (ص. 21-23). تجادل بنغاليا بأنّ نتائج كتابها تندرج ضمن «مجموعة متزايدة من الدراسات النقدية عن دور المساعدات الخارجية في تقنيات الحكم الاستعماري الاستيطاني الحديث المتأخر، مع التركيز الدقيق على كيفية تحوّل مكافحة الإرهاب إلى أداة تتحكّم في العمل الإنساني» (ص. 24).

يتناول الفصل الأول تطوّر الحرب باستخدام التقنيات القانونية قبل الحرب العالمية على الإرهاب. وترى بنغاليا أنّ فلسطين تحتل موقعاً مركزياً في هذه التطوّرات، إذ ظهر الجسد الفلسطيني  في مظهر الشخصية النموذجية، أو ما أطلق عليه إدوارد سعيد «الإرهابي بطبيعته»، في الخطاب الصاعد عن الإرهاب (ص. 32-33). والتقنية القانونية الأساسية التي يُبرزها هذا الفصل هي «حظر الدعم المادي»، وهو قانون أميركي لمكافحة الإرهاب يستهدف الأفراد والمنظّمات المشتبه في تقديمهما دعماً مالياً لمنظّمات مصنّفة إرهابية، ما يمنح الدولة الأمنية الأميركية صلاحيّات مراقبة وتجريم كيانات خارج نطاق ولايتها القضائية الرسمية (ص. 44).

تُعد قوائم الإرهاب، وحظر الدعم المادي، وشهادة مكافحة الإرهاب أدوات لمواجهة التمرّد بهدف تفتيت الفلسطينيين وخلق مجتمع أكثر انصياعاً وقابلية للحكم

يتناول الفصل الثاني شهادة مكافحة الإرهاب أو صيغة حظر الدعم المادي في فلسطين. ويُجسّد الإلزام بتوقيع الشهادة الصادرة عن الولايات المتّحدة ما تسميه بنغاليا «السيادة المرنة» – أي الطريقة التي ترتبط بها مبادرات مكافحة الإرهاب الأميركية بتدفّقات المساعدات والفاعلين من غير الدول، لتشكيل سلطة إمبراطورية سيادية مرنة ولا متكافئة (ص. 51-52).

يركز الفصل الثالث على تقنية قانونية أخرى من تقنيات الإمبراطورية: قوائم الإرهاب. تُجادل بنغاليا بأنّ هذه القوائم «تُنتج أنواعاً جديدة من الأنظمة الإبستمولوجية والعلائقية» (ص. 85). تتغلغل القوائم في فضاء المساعدات في فلسطين، فتُعطّل تدفّقها وتُحدث انقسامات في المجتمع المدني الفلسطيني بإجبارها الأفراد على اختيار من يتعاونون معهم بناءً على وضعهم في القوائم (ص. 87-89). في المجمل، تُعد قوائم الإرهاب، وحظر الدعم المادي، وشهادة مكافحة الإرهاب أدوات لمواجهة التمرد تهدف إلى تفتيت الفلسطينيين وخلق مجتمع أكثر انصياعاً وقابلية للحكم على مدى «القوس الطويل للتجريد الملكية» (ص. 106).

يتناول الفصل الرابع فترة رئاسة ترامب بوصفها خروجاً عن السياسات الليبرالية التمويهية التي ميّزت سياسة المساعدات الأميركية تجاه فلسطين في السابق (ص. 109). ينصبّ اهتمام بنغاليا في هذا الفصل على استكشاف تداعيات التاريخ الطويل لتدخّلات المساعدات، أي الطريقة التي تستمرّ بها تلك التدخّلات في التأثير، محوّلة العلاقات الاجتماعية حتى حين تتوقّف «آخر قنبلة عن السقوط» وتنقطع تدفّقات المساعدات (ص.113). في هذا السياق، تُشن الحرب داخل فضاء المساعدات نفسه، لتنخفض معها فرص التنمية والعمل الإنساني غير المرتبط بإملاءات منظومات الأمن ومكافحة الإرهاب الإسرائيلية والدولية (ص.121). يُفضي تقلّص المساحة التي يمكن للفلسطيني العمل فيها إلى نوع من الخنق للحياة الفلسطينية نفسها، وهو ما تصفه بنغاليا بـ«العنف الخانق» في الفصل الخامس. يشير العنف الخانق إلى «أسلوبٍ من العنف يُحقّق آثاره التدميرية عبر وسائل أقل دراماتيكية من القنابل أو الدبابات، بل من خلال عملية تقييد هادئة وممتدّة زمنياً تُهدم فيها تدريجياً شروط الحياة» (ص. 136). يجسّد تصنيف إسرائيل لست منظّمات غير حكومية فلسطينية كمنظّمات إرهابية في العام 2021 مثالاً على العنف الخانق، لكنه يُظهر في الوقت ذاته حدود مصداقية إسرائيل أمام العالم الليبرالي والغربي (ص. 142). وفي حين تسحق إسرائيل جهود حقوق الإنسان الفلسطينية تحت وطأة خطاب الإرهاب، تظهر حركتان مضادتان: محلياً، يجد الفلسطيني أشكالاً جديدة من العلاقات تتجاوز اعتماده على تدفّق المساعدات، ودولياً، تزداد انتقادات المنظمات الدولية البارزة والمعتبرة لإسرائيل بأنّها تنتهج أساليب توتاليتارية، أو بحسب منظمة العفو الدولية، أساليب نظام الفصل العنصري (ص. 159). تُشن الحرب في فلسطين بأشكال متعددة ومتداخلة، ودراسة بنغاليا التفصيلية تكشف عن تكتيكات الحرب عبر المساعدات الغائبة عن المشهد عادة.

المساعدات تُعد «حلاً سريعاً» للكوارث الإنسانية، يمكنه تخفيف بعض من أكثر جوانب الحرب والاحتلال وحشية، لكنّه في النهاية يعجز عن كسر دوّامات الحرب

انتُقِدَت المساعدات في فلسطين لكونها أداة محدودة للتنمية (Rad 2015)، وجزءاً من عملية «بناء السلام» العقيمة (Hanafi and Tabar 2003)، وأداة محصورة ضمن مفاهيم العمل الإنساني التي تفشل في معالجة الأسس البنيوية للعنف في المنطقة (Perugini and Gordon 2015). يشير عمل بنغاليا السابق (2015) إلى أن المساعدات تُعد «حلاً سريعاً» للكوارث الإنسانية، يمكنه تخفيف بعض من أكثر جوانب الحرب والاحتلال وحشية، لكنّه في النهاية يعجز عن كسر دوّامات الحرب. تقدّم بنغاليا في كتابها توسعاً نقدياً لهذا النقاش، موصّفةً المساعدات ليس كأداة تدعم القوى البنيوية للحرب والعنف في فلسطين فحسب، بل كشكل من أشكال الحرب نفسها ضد الشعب الفلسطيني. علاوةً على ذلك، ترى بنغاليا أنّ بنى الحرب ليست معزولة عن جغرافيا فلسطين، بل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتشكيلات الطوبولوجية للإمبراطورية.

يصعب قراءة إثنوغرافيا عن فلسطين من دون التساؤل عن الكيفية التي قد تختلف بها كلمات المحاورين في سياق الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. على سبيل المثال، يقول أحد محاوري بنغاليا في حديثه عن الهامش الضيّق الذي يمكن للفلسطيني أن يتحرّك فيه: نحن نقبّل أموال المساعدات الدولية لأنّ «التحرّر مؤجّل في الوقت الراهن» (ص.106). ومع مشاهدة العالم للدول القوية والجهات الفاعلة العابرة للحدود وهي تعضد الهجوم الإسرائيلي على غزة، كيف يتحرّك متلقّو المساعدات في فلسطين بين تناقضات العمل الإنساني الدولي والتجاهل الدولي لأشدّ أزماتهم منذ النكبة؟ ليس هذا سؤالاً يقع على عاتق بنغاليا الإجابة عنه، لكن كتابها يكشف عن قوى وتوجهات وحركات لا بد من أخذها في الحسبان عند التفكير في المساعدات والحرب في الزمن الحاضر. ومع تحوّل المساعدات إلى شكل من أشكال الحرب ذاتها، تُمارس كنوع من العنف الخانق بحد ذاته، تُبرز بنغاليا الكيفية التي يواصل بها الفلسطيني إيجاد أشكال جديدة من العلاقات تمكّنه من البقاء في مواجهة أكثر من قرن من التجريد الاستعماري الاستيطاني من الملكية.

نُشِرت هذه المراجعة في Antipode في عدد أيلول/سبتمبر 2024، وتُرجمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الكاتب. 


مراجع

Bhungalia L (2015) Managing violence: Aid, counterinsurgency, and the humanitarian present in Palestine. Environment and Planning A 47(11):2308-2323

Hanafi S and Tabar L (2003) The intifada and the aid industry: The impact of the new liberal agenda on the Palestinian NGOs. Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East 23(1/2):205-214

Hardt M and Negri A (2000) Empire. Cambridge: Harvard University Press

Perugini N and Gordon N (2015) The Human Right to Dominate. Oxford: Oxford University Press

Rad S T (2015) Political economy of aid in conflict: An analysis of pre- and post-Intifada donor behaviour in the Occupied Palestinian Territories. Stability: International Journal of Security & Development, 4 (1) https://doi.org/10.5334/sta.fl

تشارلز فِنباحث في الدراسات العالمية والدولية في جامعة كاليفورنيا – إرفن، وحاصل على الماجستير في دراسات التنمية من كلية الدراسات الشرقية في لندن.

علاء بريك هنيدي مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.

عن موقع صفر

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *