إعادة صياغة إسرائيلية للقرار 1701
من يتابع مفاوضات الموفد الأميركي عاموس هوكشتاين في لبنان وإسرائيل، لتجسير الفجوات بين الطرفَين بشأن التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، من خلال تطبيق القرار الصادر عن مجلس الأمن رقم 1701 (أغسطس/ آب 2006)، الذي أوقف المعارك في لبنان آنذاك (نصّ على وقف الأعمال القتالية وإخلاء المنطقة الفاصلة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني جنوب لبنان من أيّ مسلحين)، لا يمكن له إلّا أن يُلاحظ الفوارق الكبيرة في التعاطي الإسرائيلي مع هذا القرار، بالمقارنة مع التعاطي اللبناني.
يمثّل الجانب اللبناني في هذه المفاوضات رئيسُ مجلس النواب، نبيه برّي، الذي فوّضه حزب الله التفاوض باسمه، بعد موافقة الحزب على فصل جبهة لبنان عن جبهة غزّة، الشرط الذي وضعه الأمين العام السابق (اغتالته إسرائيل) حسن نصر الله لوقف النار، وبعد الضوء الأخضر الإيراني الذي حصل عليه الحزب، والذي يأتي ضمن سعي إيران إلى المحافظة على ما تبقّى من قدرات عسكرية لحزب الله في الوقت الحالي. ومن متابعة أداء برّي في إدارته المفاوضات، يتّضح أنه ما يزال يتعامل مع القرار الصادر عام 2006 على أنه يصلح هذه الأيام، وأنه يمكن من جديد وقف المعارك في لبنان، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بعد الالتزام بتطبيقه.
إسرائيل تحاول إعادة صياغة القرار 1701 بما يتلاءم مع مصالحها الأمنية
ومن أجل هذا الهدف، يستخدم خبرته كلّها في الالتفاف على العقبات وعلى المشكلات الجديدة والشروط الإسرائيلية الجديدة، بصيغ كلامية شكلية فضفاضة، مثل الالتفاف على شرط إسرائيل الإصرار على الاحتفاظ بـ”حقّها في الدفاع عن النفس” وتطبيق القرار بالقوة عندما يخرقه حزب الله مجدّداً، من خلال استخدام صيغة “حقّ الطرفَين في الدفاع عن النفس”، وذلك بحسب تسريباتٍ إلى الإعلام اللبناني، لأنّ لا أحد، حتى أعضاء مجلس النواب، يعرف المضمون الفعلي لبنود الاتفاق التي تُوصِّل إليها بين هوكشتاين والرئيس برّي. ماذا يعني احتفاظ لبنان بحقّ الدفاع عن نفسه؟ وهل معنى ذلك حقّه في الردّ على أيّ تدخّل عسكري إسرائيلي في لبنان للتصدّي لخروقات حزب الله للاتفاق؟ ومن سيتولّى الردّ؟ الجيش اللبناني أم حزب الله؟ وكيف يمكن للجانب اللبناني أن يحصر التفاوض على اتفاق ستكون له انعكاساته الأمنية بعيدة المدى من دون وجود وزير الدفاع اللبناني على سبيل المثال، أو ممثّلين عن قيادة الجيش اللبناني، التي ستُوكل إليها مهمّة تنفيذ الاتفاق والإشراف على انسحاب قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني؟ وهل فعلاً يفاوض برّي باسم الدولة اللبنانية التي لا وجود لها في هذه المفاوضات، باستثناء التشاور مع رئيسها تجيب ميقاتي، الذي “لا يحلّ ولا يربط”؟ أم إنه يفاوض حصرياً باسم حزب الله؟ وهل الأهداف الفعلية للتوصّل إلى وقف النار وقف الأعمال الحربية بين إسرائيل ولبنان، أم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من قدرات حزب الله العسكرية، وحماية مكانته السياسية، والمحافظة على نفوذه في داخل لبنان، في انتظار إعادة بنائه من جديد لمواجهة المرحلة المقبلة، التي لا تبدو ملامحها واضحةً حتى الآن، لا في الداخل اللبناني ولا في المنطقة عموماً.
تختلف المقاربة الإسرائيلية لتطبيق القرار 1701 جذرياً عن المقاربة اللبنانية، تحاول إسرائيل إعادة صياغة القرار بصورة تتلاءم مع مصالحها الأمنية القريبة والبعيدة الأجل، وفي الأثناء، تواصل تغيير الوقائع في الأرض في جنوب لبنان، من خلال تعميق توغّلها البرّي واقترابها من الإشراف على خطّ نهر الليطاني بنفسها، وتدمير ما تستطيع من قدرات عسكرية لحزب الله في هذه المنطقة، والمماطلة في الإعلان عن التوصّل إلى اتفاق لإعطاء الجيش الإسرائيلي فرصة إنجاز توسيع سيطرته العسكرية على المنطقة التي من المفترض أن يُخليها حزب الله لاحقاً، وفقاً للاتفاق.
من ناحية أخرى، على الرغم من الكلام الإسرائيلي كلّه بشأن ضرورة انتشار الجيش اللبناني على طول الحدود، وتفعيل عمل قوات الأمم المتحدة المؤقّتة (يونيفيل) في الإشراف على جعل منطقة جنوب الليطاني منزوعةَ السلاح، فإن إسرائيل فعلياً لا تعّول كثيراً عليها بعد تجربة السنوات الماضية، والتعويل الفعلي هذه المرّة على عمل اللجنة الدولية للرقابة على تطبيق الاتفاق، التي لا ينحصر عملها من وجهة النظر الإسرائيلية في نزع سلاح حزب الله من جنوب الليطاني، بل أيضاً العمل على منع تهريب السلاح إلى الحزب في لبنان عبر سورية، من خلال فرض نوع من حصار جوّي وبحري وبرّي، والتفاوض مع النظام السوري في هذا الشأن. لكنّ الأكثر أهمية من هذا كلّه في المقاربة الإسرائيلية لتطبيق القرار حرّية التدخّل العسكري الإسرائيلي في كلّ مرّة يخرق فيها حزب الله الاتفاق، من دون أن ينجح الجيش واليوينفيل في التصدّي له.
لإسرائيل مصلحة في اتفاق مع لبنان يطوي صفحة سلاح حزب الله، مقدّمة لتغييرات جوهرية في الشرق الأوسط
وهنا الخطورة الكبيرة، لأن هذا الأمر لا يحتاج إلى أن يكون بنداً في الاتفاق الموقّع، ويكفي التفاهم عليه مع الجانب الأميركي. ومعنى هذا أننا أمام واقع أمني جديد تماماً، ليس في جنوب لبنان فحسب، بل في المعابر البرّية مع سورية، وكذلك بحرّاً وجوّاً، بمعنى تطويق إسرائيل لبنان في الفترة المقبلة، فيقدّم وقف إطلاق النار غطاءً شرعياً لاستمرار إسرائيل في التضييق على حزب الله مستقبلاً، ومنعه من إعادة بناء قدراته العسكرية، ووضع الحكم في لبنان أمام خيار لا مفرّ منه، من أجل تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي في لبنان، ألا وهو نزع سلاح حزب الله.
هذه هي المصلحة الحقيقية لإسرائيل في التوصّل إلى اتفاق مع لبنان يطوي صفحة سلاح حزب الله، ويكون مقدّمة لإحداث تغييرات جوهرية، بحسب بعض الخبراء الإسرائيليين ستُغير وجه الشرق الأوسط.
عن العربي الجديد