إسرائيل ونتنياهو في مذكرات بولتون: التغافل المجلجل!
خاص – ملتقى فلسطين
كأنما “المعلم الأول” يسطر حكمه وتنظيراته، يتسنم جون بولتون (مستشار الامن القومي لدونالد ترامب حتى سبتمبر 2019) قلما حاد النصل يشق به غرور الرئيس الاهوج ويمزقه. لا يظهر ترامب في كتاب بولتون بغير ما هو عليه، ارعن، نزق، بذيء اللسان، يظن نفسه اذكى من الجميع، ويحتقر الجميع أيضا، مهووس بالإعلام والنجومية وتزويق العبارات البلاغية catchphrases لإغواء الاعلام بإلتقاطها وإعادة نشرها. بولتون، الذي يُبرز نفسه في هذه المذكرات “حكيم البيت الأبيض” الذي يسير على خطى الكبار من إيزنهاور إلى ريغان وكيسنجر (صديقه)، لا يترك المجال للتأكيد على انه اختلف مع ترامب في كل شيء تقريبا. لكن رغم كل التفصيلات “الخلافية” فإن التمحيص في قراءة نص بولتون يدلنا على ان تلك الخلافات كانت في الشكل والإخراج، ليست في الجوهر والعمق. بولتون يريد، كما يقول، مأسسة عملية اتخاذ القرار في البيت البيضاوي مُقرا بأن الرئيس في نهاية الامر هو صاحب القرار الأخير. لكن ترامب يريد اتخاذ القرارات بطريقته التي تعود عليها، خليط من تحرر رجل الصفقات من اية قيود او قيم، مع انتهازية قصوى، وإخراج كاميراتي للقرار او الصفقة النهائية يضمن نجومية ترامب دائما وأبدا. من زاوية أخرى، اختلف بولتون مع ترامب في طريقة اجبار الخصوم على دفع الفواتير وتوقيت الدفع. ترامب المهجوس بفترة انتخابية ثانية، يريد الاستعجال في قنص تلك الفواتير لتقديمها في كشفه الانتخابي في نوفمبر القادم. بولتون غير مستعجل، ولا يريد القبول بفاتورة مستعجلة الدفع لكن منخفضة القيمة. يريد اجبار ايران وكوريا الشمالية وفنزويلا، على سبيل المثال، لدفع اكبر ثمن ممكن على طاولة المفاوضات مع أمريكا، وحتى قبل ان يعلن الأبيض مثلا “قبوله” مجرد فكرة التفاوض. ترامب العجول لا يروق له هذا التفكير، يرد صفقات سريعة، إعلامية، مُبهرة، يكون هو نجمها الأوحد، وليتحدث عنه التاريخ: “ترامب اول رئيس امريكي يجلس على طاولة المفاوضات مع رئيس كوريا الشمالية”، “ترامب اول رئيس امريكي يجتمع مع آية الله العظمى، القائد الفعلي في ايران”، “ترامب اول زعيم امريكي يسحب كل القوات الامريكية من الشرق الأوسط وأفغانستان”، وهكذا. عليه، اختلف الإثنان في آليات وزمن وكيفية اجبار “الأعداء” على دفع الفواتير، ونقطة آخر السطر. بقية الكتاب تفاصيل وتنويعات على القضايا المختلفة من أوكرانيا وروسيا، الى فنزويلا وتفاصيل قمة العشرين في بيونس آيرس سنة 2018.
ماذا عن إسرائيل؟
المُدهش في كتاب بولتون و”حكمته” التي يتعالى فيها على ترامب ليكشف رعونته وسياساته المتعجلة في كل القضايا، ان إسرائيل وتعامل ترامب معها وسياسته إزاء قضية فلسطين غير موجودة ببساطة! هنا لا نرى اية أخطاء لترامب، ولا نقاش لقراراته، سوى التأييد الكلي وبدون أي تحفظ. يشيد بولتون بإعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو القرار الذي اتخذ قبل انضمام بولتون للبيت الأبيض، كما يشيد بقرار ترامب تخفيض الدعم الأمريكي للانروا، من 125 مليون إلى 60 مليون دولار، مشيرا الى ان هذا القرار تأخر كثيراً عن الصدور. هذا هو المجال الوحيد الذي ايد فيه بولتون ترامب بلا تحفظ.
لا يخبرنا مستشار الامن القومي اية تفاصيل عن الكيفية التي صيغت بها “صفقة القرن” على سبيل المثال والتي من المفترض ان تخلق “الامن والازدهار” في الشرق الأوسط ومرتبطة بإستراتيجية أمريكا ضد ايران، وهذا يعني تموضعها في قلب اهتمامات “الامن القومي” الأمريكي ووظيفة بولتون. تفاصيل العلاقة مع إسرائيل، والتي يشير اليها اكثر من مرة بإعتزاز، أو اية قضايا ذات ارتباط بها خلاف فترة وظيفته تبدو وكأنها “الثقف الأسود” في كتاب بولتون. هناك بطبيعة الحال إشارات عديدة لإسرائيل وبنجامين نتنياهو رئيس وزرائها وكذلك بعض قادتها الأمنيين، وضربات إسرائيل للوجود الإيراني في سورية، وتوعد إسرائيل لإيران باستخدام القوة العسكرية، وسوى ذلك، لكن ليس هناك توقف لنقاش أي من هذه القضايا بعمق وتفصيل. و”حكيم البيت الأبيض” المزعوم يبلع لسانه في العديد من الحالات التي تكشف تناقضا كبيرا في مقاربته النقدية لكل البلدان والقضايا وتعاملات ترامب معها ومقاربته لإسرائيل. بعض الأمثلة والقضايا توضح هذا التناقض بشكل اكثر جلاءً.
“صفقة القرن”:
لا يتطرق بولتون ل “الصفقة” ولا يعطينا رأيه فيها من منظور “امن قومي استراتيجي”، ولا ينتقد مثلاً الآلية التي صيغت بها، واقتصار “صناعتها” على عدد محدود من الناس، اقل من أصابع اليد. تمر اشارتان او ثلاث بشكل عابر في الكتاب من دون أي اهتمام او تفصيل. يذكر مثلا ان كوشنر دعاه في آب (أغسطس) 2018 للقاء كي يعرض عليه خطة السلام في الشرق الأوسط، ويتحدث معه عن ايران (صفحة 14)، لكنه وعلى غير عادته لم يحدثنا ماذا تم في اللقاء، وماذا اخبره كوشنر عن الخطة. ولا يشرح لنا من ناحية “مهنية” ومؤسساتية علاقة جاريد كوشنر وموقعه إزاء وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، ومجلس الامن القومي، وكيف كان بولتون ينسق خلاصات ما يصل إليه كوشنر مع ترامب، بما يتمشى مع “المأسسة” التي كان يطالب بها. ليس هذا فحسب، بل لا يتطرق بولتون إلى شكل عصابة “الأربعة” التي صاغت “الصفقة”، في المقابل اوسعنا محاضرات وتدريس حول اللجان التي انيط بها مهمات تفاوض مع كوريا الشمالية او الجنوبية او اليابان او روسيا او أوكرانيا. وفي كل حالة يرهق القارىء بتفاصيل دقيقة ليس فقط حول صلاحية هذا الشخص ام لا، وتاريخه، ونجاحاته او عثراته السابقة، بل وأيضا حول حيثيات التفاوض والآليات الاصح للوصول الى نتائج، وهكذا.
“السفراء المُتعاطفون”:
يشير بولتون الى ظاهرة في العمل الدبلوماسي تتمثل في انحياز وتعاطف واع او غير واع عند بعض السفراء للمواقف السياسية للبلدان التي انتدبوا لتمثيل حكوماتهم فيها، وجذر هذا التعاطف يعود الى طيلة فترة مكوثهم فيها، او الالفة مع المحيط الاجتماعي والثقافي، وغير ذلك من أسباب ربما لها علاقة بالطبيعة البشرية. انتقد بولتون وبشدة اكثر من سفير امريكي منطلقا من هذه النقطة، وانتقد على وجه الخصوص السفير الأمريكي السابق في انقرة، جيم جفري لقربه من السياسة التركية، والسفيرة الامريكية في أوكرانيا بكونها أصبحت قريبة من السياسة الأوكرانية على حساب تقديرها للمصالح الامريكية، والتي اقالها ترامب في نهاية الامر. السفير الوحيد الذي نجا من هذا النقد هو السفير الأمريكي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان. والتحليل الموضوعي لمواقف وسياسة هذا الأخير خلال السنوات القليلة الماضية لا يترك مجالا للشك بأنه لم يكن مُنحازا ومتعاطفا مع إسرائيل وحسب بل كان ناطقا باسم نتنياهو اكثر مما كان ناطقا باسم ترامب (على تنافس الاثنين في السوء). فريدمان صرح اكثر من مرة بأنه يقوم بعمله كسفير في إسرائيل لخدمة الرب، وفي الموقف من عملية “ضم” غور الأردن وثلث الضفة الغربية كان مُتحمسا اكثر من نتنياهو لتنفيذ الضم مع بداية شهر يوليو، فيما كان موقف الخارجية الأمريكي التمهل بعض الشيء والتصريح الرسمي بأن هذا القرار يبقى في يد إسرائيل. المهم هنا ان بولتون “الحكيم” لا يرى أي خلل “مؤسسي” في التماهي الذي يبديه فريدمان مع سياسات البلد الذي يعمل سفيرا عنده.
“كوشنر … ومنصبه”:
لم يترك بولتون أحدا في إدارة ترامب الا واخضعه لمبضع التشريح والتفكيك والنقد من زاوية اهليته (او اهليتها) للمنصب الذي احتله. من ركس تيلرسون وزير الخارجية الأول ووزير الدفاع، الى معظم اركان البيت الأبيض، وصولا إلى نيك هيلي سفيرة أمريكا في الأمم المتحدة. الوحيد الذي جبن عن نقده بشكل مباشر وواضح كان جاريد كوشنر، صهر الرئيس ومستشارة الأقرب. كوشنر يصغر بولتون ب 32 سنة، أي في عمر ابناءه، وخبرته في السياسة والدبلوماسية هي صفر حقيقي مقارنة مع خبرة بولتون. ونراه في كتاب بولتون يتدخل في شؤون وقضايا لا يفهم فيها ولا تعنيه ويتجاوز فيها دور وزارة الخارجية، مثل تدخله في مسألة الحدود مع المكسيك (ص 98). ومع ذلك يظل بولتون بالعا لسانه ولا يحلل لنا كوشنر كما حلل وفكك العشرات غيره. والنقد الخجول الذي يورده لتصرف او اثنين لكوشنر يأتي في سياق وصف الحدث وترك الحكم للقارىء. ولو فعل بولتون ذلك مع الآخرين الذين دمرهم في نقده لفهمنا ذلك، لكن الصمت إزاء أي قضية او فرد له علاقة بإسرائيل او مجموعاتها المهيمنة في واشنطن كان سيد الكلام. ومن المثير هنا اقتباس ما قاله بولتون على لسان نتنياهو بشأن كوشنر (مرة أخرى، ينقل أي نقد لكوشنر ورد على لسان الآخرين، ولا يتحمل مسؤوليته). يقول بولتون انه كان في إسرائيل لإلقاء خطاب وانه التقى نتنياهو الذي يعرفه منذ 41 سنة وان نتنياهو تبادل معه مسألة الخطر الإيراني التي كانت تحتل قلب اهتماماته، وانه كان متشككا حول إيلاء ملف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لكوشنر (ونتنياهو يعرف عائلته منذ سنوات طويلة كما يقول بولتون). يعلق بولتون بحذر على رأي نتنياهو ويقول: “وبكونه سياسي عارف فإنه لم يعترض على ذلك التعيين علنا، لكنه مثل كثيرين في العالم، تساءلوا كيف سينجح كوشنر في امر فشل فيه كيسنجر وامثاله؟ (صفحات 12 و13).
“نتنياهو المستشار الضاغط”:
يقفز اسم نتنياهو او إسرائيل او أجهزتها الأمنية مرات عديدة عند مناقشة ايران وفي سياق استشارتها واستشارة نتنياهو. مثلا، بعد استخدام نظام بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في دوما، وفي خضم نقاش إدارة ترامب حول توجيه ضربة عسكرية للنظام، يتصل بولتون بنظيره الإسرائيلي مائير بن شابات ويتحدثان حول استهداف إسرائيل للوجود الإيراني في سورية (صفحة 24). في يناير 2019 يزور بولتون إسرائيل مرة أخرى وهو في طريقه الى انقرة للاتفاق مع الاتراك على ترتيبات انسحاب القوات الامريكية من شمال سورية. يريد بولتون ان يقول لنا شيئا عبر مروره في تل ابيب لكن ليس كل شي: إسرائيل هنا في قلب المعادلة، لكن لا حاجة لقول المزيد. يلتقي نتنياهو ويتشاوران عن ايران وسورية وعن إمكانية تغيير النظام في ايران، والاحساس ب “الخطر المشترك” لدى الدول العربية الخليجية. والغريب هنا مرة أخرى ان بولتون لا يذكر “خطة ترامب للسلام” التي كانت في ذلك الوقت تنضج اكثر فاكثر، وتتسرب بنودها. تتوالى إشارات الاعجاب في نتنياهو كلما ورد اسمه، ويخبرنا بولتون انه في لقاء له مع بوتين قبل قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين بأن هذا الأخير اخبره بأنه يريد ان يخرج من سورية و”بأنه احب نتنياهو” (ص 66). وفي الاتجاه العام نفسه، يخبرنا بولتون ان السفير الإسرائيلي في واشنطن دون دريمر اتصل اخبره بعد قرار ترامب بالانسحاب من سورية بأن يوم الإعلان ذاك كان اسوأ يوم خبره السفير في إدارة ترامب (ص 81). وبعيد حادثة اسقاط ايران لطائرة درون أمريكية ونية أمريكا بتوجيه ضربات صاروخية لاهداف إيرانية داخل ايران ثم عدول ترامب عن ذلك في اللحظة الأخيرة، بما اغاط بولتون، فإنه يسافر فورا الى إسرائيل لتدارس الموضوع مع نتنياهو. وفي حادثة أخرى، كان ترامب متحمسا للقاء ظريف في باريس في يوليو 2018 على هاش اجتماعات مع الأوروبيين، وفعلا وصل ظريف الى فرنسا، وعندها اتصل بولتون مع نتنياهو وطلب منه الاتصال مع ترامب لثنيه عن اللقاء (ص 172).
“إيران وإسرائيل”:
ليس هناك أي إشارات لدور إسرائيل المعروف في الضغط على ترامب للانسحاب من الملف النووي. كل ما يشير اليه بولتون هو مواقف إسرائيل المعلنة إعلاميا وسياسيا، لكنه لا يخبرنا (وبخلاف تفاصيل الملفات الأخرى) عن اية اتصالات ذات معنى بين الطرفين بهذا الشأن. وفي الوقت الذي حصر النقاش حول الملف وكأنه فقط بينه هو وترامب ووزير الدفاع، والرئيس الفرنسي ماكرون، فإنه حال جاءت اللحظة التي سيعلن فيها ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، فإن بولتون يسارع الى مهاتفة السفير الإسرائيلي في واشنطن رون ديرمر زافا اليه الخبر السعيد. لنا ان نستنتج ببساطة ان السفير ودولته من ورائه كانت عمليا، بوجود مباشر او غير مباشر، في قلب الاجتماعات ذات العلاقة بالملف النووي. ثم يعود بولتون للتباهي بقدراته وانه كان وراء تنظيم وتفعيل قرار الخروج من الاتفاق: “لقد استغرق قرار تمزيق الاتفاق النووي الإيراني شهر، وهذا يشير الى سهولة انجاز الأمور حال توفر شخص يتعامل مع الأمور مباشرة” (ص 34).
“افتراق عن استراتيجية الحليف”:
في نقاشه للملف النووي في كوريا الشمالية تحدث بولتون كثيرا عن دور وموقف كوريا الجنوبية، وانتقد رئيسها وحكومتها ونزعتها “التصالحية” مع عدوها الشمالي، وهي التي تبني سياستها أمل توحيد شطري الجزيرة في المستقبل. وفي معرض نقده ذاك يؤكد بولتون ان اجندة الولايات المتحدة تختلف عن اجندة حليفتها كوريا الجنوبية (صفحة 37). وهذا التحليل والتفريق بين الاستراتيجية الامريكية واستراتيجيات حلفائها الاقربين لا اثر له في حالة إسرائيل. في كتاب بولتون وفي المرات القليلة التي ظهرت فيها إسرائيل لا نرى بلدين حليفين، بل امتدادات لنفس البلد ولنفس الاجندة السياسية.
في خاتمة الكتاب يضع بولتون صورا له تعكس نشاطاته وزياراته سواء داخل أمريكا ام خارجها. صوره في إسرائيل هي اكثر صور خص بها بلدا محددا. زياراته للصين او أوروبا او أوكرانيا او اليابان او كوريا الجنوبية وغيرها لم تحظ الا بصورة او اثنتين على اقصى حد للبلد الواحد، رغم ان تلك البلدان اخذت منه فصولا في الكتاب. إسرائيل التي كانت تمر مرورا عابرا في الكتاب حظيت بثلاث من صوره العتيدة. صورتان مع نتنياهو في غور الأردن يقول التعليق تحتهما ان الهدف كان الاطلاع على الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة لإسرائيل، والثالثة صورة لبولتون وهو يضع اكليل زهور في متحف ياد فاشيم (الذي يؤرخ للمحرقة). الصور الثلاث قالت وتقول الكثير مما لم يقله بولتون في نص الكتاب.