إسرائيل وحزب الله… أنْصِبة غير متساوية

ثلّة الشبان الذين ظلوا يتصدّون للهجوم البرّي الإسرائيلي في جنوب لبنان هم الأوْلى باهتمامنا. ليسوا على دراية بما يدور خلف الكواليس بين الطرفين القابضَين على القرار بالحرب والسلم؛ إسرائيل وإيران. هم يستبسلون في سبيل أبسط حقوقهم، أي منع جيش عدوٍّ من اقتحام أراضيهم. هم الأعلم من غيرهم بأن تحريرهم السابق قراهم من العدو نفسه كلفهم أثمانا من أرواحهم وممتلكاتهم. هل نستطيع أن نتخيّل بماذا يفكّر أولئك الشبّان؟ بماذا يستعينون لقضاء مهمّاتهم؟ كيف يتواصلون؟ أين ينامون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يستشهدون؟ أين يُدفنون؟

لا نعرف هذا كله. إنها أسرار الحزب الذي يقودهم، أو التي ربما لا يعرفها هذا الحزب. قد نعلم شيئا من هذا بعد انتهاء الحرب. ولكن لا بد من التفكير بهم، من تقدير استشهادهم من أجل بلداتهم وقراهم، حتى لو هُزموا، أو ربما لأنهم سيُهزمون.

هم في كل الأحوال يشكلون حلقة من سلسلة لم تنقطع منذ تأسيس دولة إسرائيل. لذلك يستحقّون الإشهار عن أسمائهم وصورهم، هم حلقة الوصل مع الجيل اللاحق من الشباب الذين سيقرّرون ماذا يفعلون لاسترجاع بيوتهم: هل سيضحّون بحياتهم أو “يراجعون” تجربتهم؟

تتوسّل غزّة وقفا للنار، توافق عليه “حماس”، ويكون الرد الإسرائيلي بمزيد من العراقيل

إسرائيل متفوقة عليهم. قوتها النارية، كما نشاهد يوميا، قادرة على النّيْل من البلاد كلها. ولكنها، في الوقت نفسه، أصيبت في عديد من نواحيها: تخلّت عن تقديسها حياة مواطنيها، وتركت رهائنها يموتون في غزّة، كما لو كانوا لا يمتّون بصلة الى جلعاد شاليط (الجندي الذي كان أسيراً لدى “حماس” وبذلت إسرائيل الغالي والنفيس من أجل إطلاق سراحه). وهي تتعرّض للمرّة الأولى في تاريخها لنيران وصواريخ في قلب مدنها وثكناتها العسكرية، تتكبّد الخسائر المادية والبشرية، تتعطّل يومياتها واقتصادها، ينفَد الجنود في صفوف جيشها، تنقسم كما لم تكن يوماً منقسمة، وعزلتها ومحاكمتها ومذكرات التوقيف بحق حاكمها ووزيره السابق… وقبل ذلك كله، تحتاج ترسانة أسلحة أميركية لكي تتغلب على ما حولها من نيران. صحيحٌ أنها ليست “بيت العنكبوت” الذي ينهار “بسبع دقائق”، ولكنها لم تعُد قلعةً حصينة منيعة، كما كان يتصوّرها الإسرائيليون، ونحن معهم.

وفي ما يعني بقية لبنان، ومعنى حزب الله أو برنامجه أو رؤيته الواقعية لما يحصل، وهو صاحب الدور الوحيد فيه، يبدو وكأنه في خوضه هذه الحرب فقد معناه الأول، فقد شعارَه الذي حمله على معركة “مشاغلة” إسرائيل بعد يوم واحد من “الطوفان”، في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول قبل الماضي.

بخصوص هذه “المشاغلة”، كان الراحل حسن نصر الله يكرّر أنه فتح جبهة لبنان دعما لغزّة، وأنه لن يتوقف عن إطلاق النار على إسرائيل إلا إذا أوقفته إسرائيل في غزّة. ولكن خليفته الشيخ نعيم قاسم بات يقول بوقف إطلاق النار، يناقش البنود المعدّة لانسحابه ونزع سلاحه، يوافق على “مسار التفاوض” عبر المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، يفوّض حليفَه نبيه برّي بالنقاش والاتفاق، يُكثر بالحديث عن “لبنانيّته”، يؤكّد على اتفاق الطائف، الذي كان الحزب ضدّه… وعندما يذكر غزّة، يقول: “حزب الله حرص أن يكون عمله وجهاده إسنادا لغزّة بمستوى أن نُقدّم ما نستطيع لغزّة ونصرة فلسطين آخذين بعين الاعتبار الظروف اللبنانية، وأيضاً ما ينفع غزّة في العمل، والحمد لله أدّينا مهمّة كبيرة”. وكأنه بذلك يعتذر من غزّة، بأنه بات الآن يفاوض على وقف إطلاق النار في لبنان، من دون أن يتم وقف النار في غزّة. وأهل غزّة يتعرّضون يوميا لمجازر خرافية، لطرد شامل من شمالها، لانفلات الزعران عليها تحت عيون الجيش الإسرائيلي، لتدمير وحرمان من المياه والكهرباء والطعام والدواء. والآن البحر والشتاء اللذان أغرقا خيم أهلها البائسة… تتوسّل غزّة وقفا للنار، توافق عليه “حماس”، ويكون الرد الإسرائيلي بمزيد من العراقيل.

يقول الشيخ نعيم قاسم إنه يسهّل وقف النار بين إسرائيل ولبنان، من أجل تسهيله في غزّة. أي أنه يقلب المعادلة التي أعلنها حزبُه منذ بدء “مشاغتله” إسرائيل

يقول الشيخ نعيم قاسم إنه يسهّل وقف النار بين إسرائيل ولبنان، من أجل تسهيله في غزّة. أي أنه يقلب المعادلة التي أعلنها حزبُه منذ بدء “مشاغتله” إسرائيل. فيما أصبحت إسرائيل تقول، على لسان نتنياهو، إن وقف النار في غزّة مرهونٌ بوقف النار في لبنان. وهذه واحدةٌ من الانقلابات التي يحجُبها صخب الصواريخ والطائرات… بقطعه للصلة بينه وبين غزّة، هكذا، وفي عزّ جحيمها، يفقد حزب الله واحداً من المعاني التي أسّس عليها وجوده وشرعية سلاحه، فضلا عن فتحه جبهة “المشاغلة”.

معنى آخر من معاني حزب الله جوّفته هذه الحرب. إنه شعار “الجيش والشعب والمقاومة”، الذي بنى عليه الحزب أيضا شرعية وجوده. والذي يفترض التحالف الوطيد بين هذه “الأجنحة” الثلاثة، ليكمّل الحزب، أي “المقاومة”، هيمنته على الاثنين الباقيين، الشعب والجيش.

سوف تجد أيضا في كلمات الشيخ نعيم قاسم شيئاً منه. في كلمة سابقة، عاتب الشيخ الجيش لأنه لم يوقف إسرائيل بخطفها البحار عماد أمهز من شاطئ جبيل. وفي كلمته أخيراً، أشاد بهذا الجيش، لسبب غير ظاهر، حيث دعا إلى التعاون معه: “نستطيع أن نبني وطننا”. والحال أن الجيش في هذه الحرب لم يعُد على قصده القديم من هذه الثلاثية. صار في مكان آخر. وعلى الطريقة الفسيفسائية اللبنانية، التي تشبه لعبة “البازل”، لعبة الأطفال التركيبية المفيدة: بدأ يلعب الدور الذي كان موكلاً به قبل أن يحلّ حزب الله محلّه، مراقبة الحدود.

معنى آخر من معاني حزب الله جوّفته الحرب، شعار “الجيش والشعب والمقاومة”، الذي بنى عليه الحزب أيضاً شرعية وجوده

خذْ المثل الأكثر وضوحاً: تلك المسؤوليات الجديدة التي يتولاها الجيش حالياً في مطار بيروت الدولي، كان الحزب قد استولى عليها بتغطية تامة من “الأمن العام”. هذه السيطرة الجديدة أعلن الجيش عن الغرض منها بصفة شبه رسمية: “سحب ذرائع دولة الاحتلال التي تُساق عادة لتبرير استهداف المطار وإخراجه عن الخدمة”، والحرص اللبناني على “عدم استعمال المطار لأغراض عسكرية”. والأرجح أن هذا الغرض سيتطوّر ويتفصّل. وجديد تجليات هذه المهمّة الضاربة لشعار “الجيش والشعب والمقاومة” كيفية استقبال المسؤول الإيراني الرفيع علي لاريجاني في مطار بيروت: حيث أغلقت عليه، وعلى مرافقيه، صالة الاستقبال، وأُرغم على ختمْ جوازه عبر الأمن العام مثل كل مسافر بسيط، وفُتشت حقائبه. هوكشتاين عومل بالطريقة نفسها. ربما للإقناع بأن المطار صار فعلا بقبضة الجيش حصراً.

توقفت الحرب بوقف إطلاق النار. سوف يسجّل فيها مزيد من الانسلاخ بين حزب الله ومعناه الأصلي. ولو افترضنا مثلا أن الحزب سيتحول إلى حزب سياسي، أسوة ببقية الأحزاب التي نُزع سلاحها، وأن المطلوب منه أن يقول شيئا عن برنامجه أو رؤيته، فهل سيعلن أنه يريد تحرير القدس؟ وفلسطين؟ وأنه مندمج مع الجيش؟ أو مع الشعب؟… فإذا أراد على الأقل الحفاظ على هذا الأخير (الشعب)، أي بيئته، أبناء طائفته، أن يسترجع قراهم وبلداتهم، أن يحرّرها، أن يعيد إعمارها وزراعتها، أن يستعيد حياتهم الماضية، سوف يكون عليه أن يخترع برنامجا، معنى آخر لوجوده، معنى آخر لـ”المقاومة”.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *