إسرائيل والدولة الفلسطينية.. من الإقرار اللفظي إلى الرفض الصريح!
لسنوات طويلة خلت، كان الحديث عن حل الدولتين، أو شعار “دولتين لشعبين”، محورا للصراع والمواجهات السياسية والفكرية، بين من يسمون أنفسهم أنصار السلام في إسرائيل أو قوى اليسار عموما، ومعارضيهم من الأحزاب اليمينية ودعاة أرض إسرائيل الكاملة. وبدا أن القبول بدولة فلسطينية تعيش إلى جانب إسرائيل، وبصرف النظر عن طبيعة هذه الدولة وحدودها ومدى تمتعها بالسيادة أم لا، من المستلزمات الضرورية لإظهار الرغبة في السلام، حتى أن بنيامين نتنياهو اضطر لمجاراة هذا الميل في خطابه الشهير بجامعة بار إيلان. ولكن مع الوقت، ومع استقرار حكم اليمين في إسرائيل، والتغييرات العملية على أرض الواقع نتيجة توسيع الاستيطان والزيادة المطردة في أعداد المستوطنين، تراجع هذا الشعار تدريجيا، وخبا بريقه حتى لدى من يصنفون أنفسهم على أنهم “قوى السلام” في إسرائيل، فغاب عن المعارك الانتخابية الأخيرة، إلى حد الجهر بمعارضته الصريحة من قبل رئيس الحكومة الحالي نفتالي بينيت.
رفض قاطع
استبق بينيت كما هو معروف، لقاءه الأول مع الرئيس الأميركي جو بايدن بإعلان رفضه القاطع لقيام دولة فلسطينية، وأعرب في عدد من اللقاءات المتتابعة مع كل من صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في 25 آب الماضي، و”معاريف” العبرية في أيلول الماضي، ومع عدد من محطات التلفزة الإسرائيلية أبرزها حواره مع القناة الحادية عشرة في 15/9/2021 عن اعتقاده بأن قيام دولة فلسطينية سوف يشكل خطأ فادحا، محذرا مما أسماه استيلاء عناصر متطرفة على هذه الدولة كما حصل عند استيلاء حركة “حماس” على قطاع غزة عقب انسحاب إسرائيل من هناك، وأكد بينيت بشكل قاطع رفضه لقيام دولة فلسطينية، بل رفضه حتى اللقاء مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مستبعدا أن يتم الوصول إلى سلام مع الفلسطينيين في الوقت الحاضر ولا حتى في المدى المنظور، وأعاد بينيت التأكيد على موقفه بحضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في العاشر من تشرين الأول الجاري، إذ ادعى أن قيام دولة فلسطينية يعني “قيام دولة إرهابية على بعد سبع دقائق من بيتي (في رعنانا) ومن أية نقطة في إسرائيل”!
وعلى الرغم مما يثيره طرح حل الدولتين، أو بشكل أدق الحديث عن قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، من إشكاليات وخلافات بين مختلف قوى الطيف السياسي في إسرائيل، يبدو أن طبيعة حكومة بينيت- لبيد الفضفاضة تتيح لبعض أقطابها الحديث بحرية عن تأييدهم المبدئي، أو رفضهم القاطع، لقيام دولة فلسطينية، من دون أن يكون لهذا الحديث أية تبعات عملية، أو أن يؤثر حتى على تماسك هذه الحكومة. فرئيس الحكومة المناوب ووزير الخارجية يائير لبيد قال خلال مشاركته في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل في الثاني عشر من تموز الماضي، إنه شخصيا يدعم حل الدولتين، لكنه يرى أن هذا الحال غير قابل للتطبيق حاليا. وهو في معرض إبداء سعادته لموجات التطبيع واتفاقيات السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، قال إن هذه الدائرة يجب أن تشمل الفلسطينيين في نهاية الأمر، وعن الدولة الفلسطينية التي يفكر بها قال لبيد أمام مجلس الشؤون الخارجية الأوروبي ” إذا كانت هناك دولة فلسطينية فيجب أن تكون ديمقراطية ومحبة للسلام”، مضيفا وكأنه يسارع لقطع الطريق على أية توقعات عملية “لا يجب أن يطلب منا أن نبني تهديدا آخر لحياتنا”.
تأييد لفظي بلا تبعات
وزير الدفاع بيني غانتس هو الآخر نقلت عنه مواقف مشابهة لدى لقائه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس في شهر آب الماضي، فقد نقلت القناة 12 عن صحافيين عرب من الداخل اجتمعوا مع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، أن غانتس قال للرئيس عباس “أنا أؤمن بحل الدولتين وأعتقد أنه الحل المناسب”، وأضاف غانتس بحسب المصادر عينها “أريد أن أكون رابين الجديد، ولكن في هذه الحكومة هناك حدود”.
لكن مكتب غانتس، وجريا على عادة إسرائيلية قديمة تفضل أن تبقي الموقف من الدولة الفلسطينية محاطا بالغموض، سارع إلى التشكيك في هذه التصريحات من دون أن ينفيها ولا أن يؤكدها، واكتفى بالقول إن الاقتباسات المشار لها أعلاه غير دقيقة.
إذن الموقف الإسرائيلي من الدولة الفلسطينية، انتقل من الخلاف بين من هو مع الدولة ومن هو ضدها، إلى من يواصل رفضها رفضا حازما كما يفعل بينيت وزميلته أييلت شاكيد، وبين من يقبل فكرتها نظريا مع استبعاد إمكانية تحقيقها في المدى المنظور. نذكر أن شاكيد أعلنت من أبو ظبي خلال زيارتها لدولة الإمارات مطلع تشرين الأول الجاري أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة بينيت، أو لبيد حين يتولى السلطة، لن تناقش موضوع إقامة الدولة الفلسطينية، وأكدت أن أطراف الحكومة اتفقت على عدم الخوض في قضايا يمكن لها أن تتسبب في حدوث انشقاق داخلي بما في ذلك موضوعات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
ترجمة لـ”الانتصارات في الحروب“!
ترتبط تحولات الموقف الإسرائيلي من الدولة الفلسطينية بمساعي إسرائيل الحثيثة لتصفية القضية الفلسطينية سياسيا وأخلاقيا، عبر جملة من اتجاهات العمل التي رصدها تقرير مدار الاستراتيجي السادس عشر الصادر في العام 2020 وهو من إعداد مهند مصطفى، عن المشهد السياسي الإسرائيلي في العام 2019. ويفرد التقرير مساحة واسعة لعرض “صفقة القرن” وظروف طرحها الدولية والإقليمية والمحلية، باعتبارها محصلة لانتصار إسرائيل في حروبها مع العرب والفلسطينيين، ومحاولة فرض إقرار الفلسطينيين بهزيمتهم بكل ما يستدعيه ذلك من تبعات سياسية أبرزها قبول السردية الإسرائيلية عن الحق التاريخي التوراتي لليهود في فلسطين، ونفي السردية الفلسطينية التي تبنتها الحركة الوطنية الفلسطينية ودعمتها أوساط دولية واسعة باعتبارها حركة تحرر وطني. ويلحظ التقرير أن إسرائيل تركز جهودها لتعزيز الاستيطان، وتضغط على السلطة لتقزيم دورها واختزاله في ثلاث مسائل رئيسة هي التنسيق الأمني والتعاون الاقتصادي وتقديم الخدمات المدنية للسكان، كما تسعى إسرائيل للوصول إلى تسوية بعيدة المدى مع قطاع غزة بما يضمن الهدوء وفصل القطاع عن الضفة وإدامة الانقسام. وفي حال إقرار الفلسطينيين بهزيمتهم، وقبولهم بما تعرضه عليهم “صفقة القرن” من أجزاء مقطعة الأوصال من الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمكن لإسرائيل أن تعترف بدولة فلسطينية على هذه الأجزاء إذا ما منحت ضمانات بأن تكون هذه الدولة منزوعة السلاح، وتوفرت التدابير الأمنية اللازمة لإسرائيل، وإذا ما اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي، وبعد كل هذه الشروط العسيرة يبقى الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية هذه مرهونا بجملة من الشروط ضمن تسوية سلمية مستقبلية.
وليس ثمة أي مؤشر حتى الآن على أن حكومة بينيت- لبيد سوف تحيد عن الخطوط الرئيسة لما تضمنته صفقة القرن، أو سياسات حكومات نتنياهو المتعاقبة تجاه الموضوع الفلسطيني، طالما أن القواسم المشتركة بين الحكومتين تتصل بالقضايا الجوهرية، وأهمها مواصلة الاستيطان والتنفيذ العملي لخطة الضم من دون الإعلان الصاخب عنها، وإدامة الانقسام الفلسطيني مع العمل على الأرض للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة.
مع الدولة.. لكنها بعيدة جدا!
ولا يبدو أن الخلاف حول الدولة الفلسطينية يمكن له أن يعكّر صفو العلاقات مع الولايات المتحدة أو مع الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، فقد كرر الرئيس الأميركي جو بايدن موقفه بأن الحل الوحيد للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني هو في قيام دولة فلسطينية تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل، وقال خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس الكوري الجنوبي بعيد التوصل إلى اتفاق وقف النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة في شهر أيار الماضي ” لا تغيير في التزامي بأمن إسرائيل. نقطة. لا تغيير على الإطلاق”، و”التغيير هو أننا ما زلنا بحاجة إلى حل الدولتين. هذا هو الحل الوحيد، الحل الوحيد”.
وأعاد بايدن التأكيد على هذا الموقف خلال خطابه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول الماضي حيث قال “لا أزال أؤمن بأن مبدأ تعايش الدولتين أفضل سبيل لتأمين مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية تعيش في سلام إلى جانب دولة فلسطينية ديمقراطية قابلة للحياة وذات سيادة”، وفي هذا الخطاب تحديدا وفّر بايدن الغطاء لمن يكتفون بالتأييد اللفظي لهذا الحل من دون أن يتكلفوا عناء القيام بأية خطوة عملية لمنع إسرائيل من تدمير حل الدولتين، حيث قال بايدن في الخطاب إياه “نحن حاليا بعيدون جدا عن هذا الهدف لكن علينا ألا نسمح أبدا برفض إمكانية التقدم”.
والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وخلال زيارتها الوداعية لإسرائيل، قالت إن ثمة خلافات بينها وبين الحكومة الإسرائيلية تجاه الموضوع الفلسطيني، وإنها ما زالت تؤيد حل الدولتين “ليتمكن الفلسطينيون من العيش في بلادهم بأمان”، وأردفت أن سياسة الاستيطان تضع مصاعب أمام الحل، لكن كل هذه الملاحظات بدت هامشية ولا أثر لها في ضوء إفراطها في امتداح إسرائيل التي تمثل بحسب رأيها “منارة وسط بحر هائج”، كما وأنها المكان الوحيد في الشرق الأوسط الذي تتوفر فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير.
ولا توجد في الاتفاقيات الثنائية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولا في المرجعيات المعتمدة رسميا لعملية السلام، أية إشارة مباشرة أو صريحة لموضوع الدولة الفلسطينية، فالموضوع ظل غامضا ومفتوحا للتأويلات، وأجّل البت فيها لمفاوضات الحل النهائي التي كان يفترض أن تبدأ في السنة الثالثة لتطبيق الاتفاقية الانتقالية (أي في العام 1997 وهي بدأت فعليا في العام 2000 ولكنها تفجرت وقادت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية)، لكي تبحث في قضايا الأمن والحدود والمستوطنات واللاجئين والمياه والمصير النهائي والعلاقات الدولية والإقليمية.
وعلى الرغم من غياب فكرة الدولة عن الاتفاقيات ومرجعياتها وأهدافها المعلنة، فقد حضرت فكرة الدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين في عدد لا يحصى من المبادرات والتصريحات والمواقف الدولية، بما في ذلك حضورها العلني في مفاوضات كامب ديفيد بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث قدم الرئيس الأميركي بيل كلينتون مقترحات ملموسة لحدود الدولة الفلسطينية ومساحتها وعاصمتها، وبين الأفكار التي جرى تداولها لحل قضية اللاجئين، طرحت فكرة عودة قسم من اللاجئين لحدود الدولة الفلسطينية، لكن انفجار المفاوضات وفشلها وتدهور الأوضاع الأمنية والسياسية بعد ذلك، جرف معه كل الأفكار والاقتراحات التي قيلت بشأن الدولة الفلسطينية.
رؤية شارون ونتنياهو للدولة
كان رئيس الحكومة الأسبق أريئيل شارون يروّج لفكرة الدولة الفلسطينية في الأردن، وهو قال في مقابلة مع مجلة تايم الأميركية في 5/10/1981 “أعتقد أن الخطوة الأولى باتجاه الحل هي إقامة دولة فلسطينية على هذا الجزء من فلسطين الذي أصبح اليوم الأردن والتي تم فصلها سنة 1922 عن الأرض التي كان مقدرا لها أن تصبح إسرائيل.” لكن شارون غيّر مواقفه بمجرد وصوله إلى سدة الحكم، وقدّم صيغة جديدة للحل خلال خطاب له أمام الأمم المتحدة في أيلول 2005، بعد وقت قصير من انسحاب إسرائيل وإخلاء مستوطناتها من قطاع غزة. وقال شارون في خطابه إن من حق الفلسطينيين أن يعيشوا بحرية، ويتمتعوا بسيادة وطنية على دولة تخصهم، لكنه أكد في الوقت نفسه على أن القدس ستبقى العاصمة الأبدية لإسرائيل، وأن الاستيطان ليس عقبة أمام السلام، وفسر شارون لاحقا اقتراحه لهذه الدولة بأنها “أصغر مما يطالب به الفلسطينيون” قائلا إن انسحابا إسرائيليا بنسبة 42% من أراضي الضفة الغربية يمكن قبوله، واشترط أن تكون هذه الدولة منزوعة السلاح، مع احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على الحدود الخارجية وحقها في استخدام أجواء هذه الدولة الفلسطينية للطيران.
واشتمل خطاب بنيامين نتنياهو الذي ألقاه في جامعة بار إيلان في 14/6/2009 على دولة فلسطينية، وجاء فيه أنه “إذا اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، فإننا سنكون مستعدين ضمن تسوية سلمية مستقبلية للتوصل إلى حل يقوم على وجود دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب الدولة اليهودية”. واتفقت آراء معظم المحللين والسياسيين على أن خطاب نتنياهو هذا كان مجرد كلمات في الهواء لتخفيف الضغط الدولي عن إسرائيل، أو “كلمات جوفاء” كما نقل عكيفا إلدار في مقال له في “هآرتس” عن بيني بيغن. ونتنياهو نفسه لم يتمسك بهذا الخطاب ولم يكرر ما ورد فيه، بل إنه أعلن في آذار 2015، وعلى أبواب الحملة الانتخابية لذلك العام، تنصّله الكامل من ذلك الخطاب، واصفا إياه بأنه “لم يعد ذا صلة”.
دولة أبارتهايد
وهكذا تعامل جميع قادة إسرائيل مع فكرة الدولة الفلسطينية، إما بتجاهلها أو رفضها تماما، أو تقديمها بصورة ممسوخة بحيث يتعذر على أي مسؤول فلسطيني جدّي قبولها.
ويقول الكاتب جدعون ليفي في مقال له في “هآرتس” (19/9/2021) إنه لم يكن هناك أي رئيس حكومة يعتزم تطبيق حل الدولتين الذي يجري ترديده، لكن الكاتب ديمتري شومسكي يرد عليه في نفس الصحيفة بتاريخ 4/10/2021 بأن رئيس حكومة واحدا وحيدا هو إيهود أولمرت اقترب أكثر من أي رئيس حكومة آخر من هذا الحل، وذلك خلال المفاوضات التي جرت في إطار عملية أنابوليس، بحيث يكون مسار الجدار الفاصل هو الأساس للحدود المستقبلية للدولة الفلسطينية. لكن تورط أولمرت في قضايا الفساد قوّض مكانته السياسية وأضعف شرعية أية قرارات يمكن لرئيس حكومة متهم بالفساد أن يتخذها. وبحسب ليفي وشومسكي وكثيرين غيرهم، فإن تنصل إسرائيل من حل الدولتين يخلي الساحة لحل وحيد، حيث “الاستراتيجية الدقيقة والمحكمة” لرئيس الحكومة الحالي نفتالي بينيت الذي يبني بهدوء وبالتدريج دولة الأبارتهايد بين النهر والبحر.
عن مدار للدراسات الإسرائيلية