إسرائيل وإيران .. استعراض القوة والتهديد..!
خلال سلسلة مساهماته التي كتبها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقالاته المطولة عن الصراع العربي الإسرائيلي تباعاً في مجلة «وجهات نظر» نهاية تسعينيات القرن الماضي بعد أن أفرجت إسرائيل عن وثائق مهمة احتفالاً بمرور خمسة عقود على إقامتها كشف سراً من الأسرار الذي أفشته وثيقة مكنت من فهم المؤسسة الإسرائيلية أكثر وكيف تتم فيها صناعة القرار، توقفت الوثيقة عند اعتزال بن غوريون نهائياً للسياسة في المرة الثانية العام 62 حيث غادر كما تقول الوثيقة مطمئناً إلى أنه هندس الدولة بحيث «وضع قرارها وأمنها القومي في يد المؤسسة العسكرية والجيش وليس بيد هواة السياسة المتشاكسين» هكذا وصف بن غوريون قادة الأحزاب والمتصارعين على الحكم والانتخابات بأنهم ليسوا أكثر من هواة في عالم الحرب والسياسة.
ربما يساهم هذا في فهم ما يجري في إسرائيل والحروب التي خاضتها وضعف سياسييها عند الاقتراب من قرار الحرب، وهو على درجة من الأهمية في قراءة الصراع الدائر منذ عقود بين إسرائيل وإيران، ذهب نتنياهو لزيارة الحاخام عوفاديا يوسف قبل أكثر من عقد في محاولة لاستمالته لتشكيل لوبي مؤيد لضرب إيران ليقول له: «لقد تعرضنا للمحرقة مرة ولن نسمح بأن تتكرر».
هكذا هو الأمر بالنسبة له منذ أن جاء العام 2009 معتبراً كما قال أحد الصحافيين الإسرائيليين أن نتنياهو يعتبر الملف الإيراني ملف حياته.
عندما شكل حكومته في ذلك العام اتكأ على إيهود باراك «الجندي رقم 1» أي الأكثر توسيماً في إسرائيل وذلك لضرب إيران. ولكن قرار الدولة رغم حضور باراك كان بيد رئيس الأركان حينها غابي أشكنازي ومعه قادة الأجهزة الأمنية حينها مائير داغان رئيس الموساد ويوفال ديسكين رئيس الشاباك وعاموس يدلين رئيس الاستخبارات العسكرية وعيدو نحوشتان رئيس سلاح الجو، وكلهم عارضوا قرار الحرب.
انتظر نتنياهو سنوات قليلة كانت تنتهي فيها ولاية هؤلاء ليختار آخرين يشاركونه الرؤية. فقد جاء بني غانتس لرئاسة الأركان وأصبح تمير باردو قائداً للموساد ويورام كوهين للشاباك وتم تعيين أفيف كوخافي للاستخبارات العسكرية، وأهمهم بالنسبة لنتنياهو كان تعيين أمير ايشيل قائداً لسلاح الطيران لأنه الضابط الذي أشرف على ضرب مفاعل دير الزور السوري، ومع ذلك ولنفس الاعتبارات المهنية والقومية عارض جميع الجدد توجهات نتنياهو بالهجوم على إيران.
من راقب إسرائيل لسنوات كان مطمئناً لعدم نشوب حرب تحترق فيها المنطقة، لكن الأسبوع الماضي وما رافقه من تصريحات لأول مرة بهذه الكثافة على لسان قادة الأمن سواء تصريحات متفرقة أو جاءت في مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي كما تمت تسميته العام 2000 في هرتسيليا لا بد أن يشعر أن هناك تغيراً في توجهات قادة الجيش. فقد كانوا شديدي الوضوح بالتعبير عن رغبة إسرائيل بالحرب، فما كانت تضخّه وسائل الإعلام عن «هدف كبير» و»نتنياهو ومستشاره العسكري ينقلون بطائرة مروحية على عجل» و»دعوة مفاجئة للكابينيت» كلها كانت تشير إلى المنطقة أمام ساعات قليلة للحرب قبل أن يخرج الناطق باسم الجيش بتصريح أكثر هدوءا.
رافق المناخ الحربي الذي ارتفعت درجة حرارته فجأة مناورات على طرفي الحدود. فقد أجرى حزب الله مناورتين متتابعتين أشار فيهما لفرقة اقتحام الحدود والسيطرة على مدن وقرى، فيما كانت إسرائيل قد قررت واحدة من أكبر مناوراتها لتشمل ضرب إيران وساحات أخرى، وبدا واضحاً أنها ستكون جزءا من الحرب القادمة وأطلقت عليها اسماً هجومياً «اللكمة القاضية» على غير عادتها في إطلاق تسميات دفاعية على نمط الجرف الصامد أو حارس الأسوار.
تجاوزت إيران المسموح به من اليورانيوم المخصب بأكثر من 23 ضعفاً هذا بحسب تقرير وكالة الطاقة الذرية الذي نشر أول من أمس وهو ما يضع إسرائيل أمام معضلة كبيرة، كان واضحاً أن إسرائيل تعرف عن التقرير قبل صدوره وربما أن هذا ما يقف خلف كل التسخين الذي رأيناه. ولكن هل بإمكان إسرائيل ضرب إيران ؟ فالأمر لا يتعلق بإسرائيل وحدها ليس فقط على صعيد القدرة والإمكانيات والاستعداد لردود الفعل، بل الأبرز أن ضرب إيران مسألة دولية حيث قدرتها على إغلاق حركة الملاحة ما يتسبب برفع خيالي لأسعار الطاقة ما يؤدي لاضطرابات اقتصادية وسياسية عالمية وخصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة، وإذا كان هذا سبباً يضاف لمنع إسرائيل عن الحرب خلال السنوات الماضية بدا الآن أكثر كابحاً نظراً للحرب الدائرة في أوكرانيا والرغبة الأميركية برفع إنتاج النفط والخلاف مع السعودية وأوبك. فهل ستوافق الولايات المتحدة على مغامرة إسرائيلية تتسبب بكل هذا الزلزال في أسوأ الظروف ؟
خلال السنوات الماضية كانت إسرائيل تصنع ما يشبه نفس المناخات كأن الطيارين في قمرات القيادة للتحرك نحو طهران، لكن مجملها أصبح روتينياً كانت على نمط «امسكوني وإلا ضربت» كانت تريد أن تشكل محوراً دولياً لإدراكها أن القوة الإسرائيلية وحدها لا تكفي لإتمام المهمة بصرف النظر عن رد الفعل. فإسرائيل في هذه الحرب جاهزة لدفع ثمن لكن لو كانت القوة كافية لفعلت مثل مفاعل تموز في العراق ومفاعل دير الزور السوري دون صخب.
مع الزمن يتضح أن نتنياهو كان الأكثر قدرة على تقييم الأمر، فقد أصبحت إيران أقوى تسليحاً للحد الذي تمول فيه روسيا بحربها وأكثر مقبولة بالمنطقة فقد تصالحت مع السعودية، وأذرعها في المنطقة زادت قوتها. فما عرضه حزب الله في مناورته الأخيرة كان لافتاً بالإضافة لاكتسابه خبرة من التجربة مع الروس في سورية فقد أصبح الأمر أكثر صعوبة على إسرائيل، يضاف إلى كل ذلك إشاحة العالم وجهه عن المنطقة وانشغاله بقضايا وحروب أكثر أهمية بالنسبة لحلف الناتو وواشنطن. إسرائيل بين خيارين، لا تستطيع الضرب وحدها ولا تستطيع الانتظار فماذا تفعل ؟.
هنا يتمثل المأزق الشديد الذي وجد تعبيره في التصريحات شديدة العصبية هذه المرة التي تتكامل فيها للمرة الأولى الرؤية العسكرية مع الرؤية السياسية التي كانت تغرد وحدها سابقاً