إسرائيل في هذه اللحظة
عناوين الصحف الإسرائيلية باتت متشائمة مما حدث ويحدث من اضطراب تمر به الدولة والمجتمع، حيث تكتب «معاريف» عنواناً رئيسياً «دولة عالقة» أما «إسرائيل اليوم» القريبة من بنيامين نتنياهو فتكتب هي الأخرى عنواناً رئيسياً «دولة مشلولة». هذه العناوين لا تختصر فقط أزمة حكومة أحدثت قبل المئة يوم الأولى من ولايتها وخلال شهرين هذا الصدع الكبير وتلك المناخات الصدامية وتسير بالدولة نحو السقوط، بل هي أزمة مجتمع عميقة تتبدى في النقاش العام المتوتر الذي يدار على صفحات الجرائد كانعكاس للصدام في الميدان.
يعرف الفلسطينيون الذين يتابعون ما يحدث على الجانب الآخر من الحدود ما الذي يحدث عندما تحصل قوى دينية على تفويض انتخابي. تعتقد هذه القوى أن هذا التفويض يؤهلها للمس بتاريخ وقواعد المجتمع وبنيته وتراثه وتقاليده، بل وحتى وأنها تمتلك وحدها الحقيقة والمسار الصحيح بمرجعيتها الأيدلوجية وبالعودة لنصوص دينية، هذا يعني بداية شرخ في المجتمعات ولن تشفى منه سريعاً، وينتهي بتقسيم المجتمع إلى كتلتين منطلقة من ثوابت الأيدلوجيا لممارسة تجعل من مرونة السياسة شأناً معيباً خارجاً عن النصوص. هكذا يتحدث سموتريتش الذي يستعيد مقولات يهوشع بن نون ويستلهم منها مساراً سياسياً أول ما يؤثر على تماسك المجتمع ليحدث هذا الانقسام.
لا خيارات لحلول وسط بين الإسرائيليين. فمن يتحكم بالحكومة هو زعيم حزب الصهيونية الدينية والذي لم يسجل في تاريخه تراجعاً عن أي موقف أو تعهد لناخبيه، وهو أيدلوجي توراتي متغطرس لا تهمه كل تلك التظاهرات من قبل جمهور من يعتبرهم «العلمانيين والكفار» ولا كل الإدانات الدولية والتي تمت اثر رغبته بمسح بلدة حوارة بعد حرقها، تماماً كما فعل يهوشع في أريحا، لا يهمه أن يقول السفير الأميركي أن عبارته مقززة، الأهم أن يسير وفق خطته.
لم يبق أحد من أركان الدولة سابقين وحاليين لم يعبر من مأزق اللحظة التاريخي لدولة سارت لسبعة عقود ونصف وهندست نفسها وعلاقاتها الخارجية وقوانينها وفقاً لنظام حافظ على ممكنات قوتها داخلياً وخارجياً، وعلى تماسك مجتمعي تدير تناقضاته بكفاءة ليجيء الآن في منتصف العقد الثامن من يطيح بكل هذا لتصل التظاهرات حد الصدام والاعتقال، وفي إحداها تم الاعتداء على أبرز ساسة إسرائيل ورئيس كنيست سابق هو أبراهام بورغ. أما على مستوى الخارج فمنذ فوزه سافر نتنياهو باستثناء سفرة الأردن إلى ديمقراطيات أوروبا مرتين فقط، لفرنسا وأخرى لإيطاليا، فيما تسجل الولايات المتحدة سابقة عدم دعوة رئيس حكومة بعد تشكيلها، ويقول بعض الصحافيين في إسرائيل إن الزيارتين اليتيمتين لأوروبا كانتا من أجل نقاهة يحتاجها مع زوجته وسط فوضى الدولة والتظاهرات التي تجتاحها، والأهم أن هذه الحكومة أوقفت قطار التطبيع بعد أن أصبح الاقتراب منها مدعاةً للخجل.
رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين الذي ينضم للتظاهرات يقول في كلمة له قال «في غضون أسابيع قليلة قد نصل إلى شفا حرب أهلية»، وهو الرجل عارف بالشؤون الداخلية، فتلك كانت تجربته، بينما يقول رئيس الموساد السابق تامير بوردو: إن سلوك بعض وزراء الحكومة سيقربنا من نهاية الحلم. أما الكاتب جدعون ليفي فيكتب «لن يستطيع أحد وقف عملية التدمير الذاتي الداخلي الإسرائيلي، فمرض إسرائيل السرطاني قد بلغ مراحله الأخيرة ولا سبيل لعلاجه». وإذا كان جدعون ليفي يتخذ مواقف قاسية فإن المؤرخ بني موريس يبدو أكثر تشاؤماً حين يكتب «إن اسرائيل مكان ستغرُب شمسُه وسيشهد انحلالاً وغوصاً في الوحل».
لا مجال للتراجع لمكونات الحكومة ولا متسع لحوار كان قد دعا له الرئيس الإسرائيلي، وليس في وارد الائتلاف أي تفاهم. فنتنياهو ودرعي يحتاجان للقضاء على القضاء إما للتهرب من محاكمة الفساد أو تتويج الفساد في مقعد الحكومة، في حين أن ثنائي بن غفير وسموتريتش يحتاجان التغيير لاستكمال السيطرة وتحقيق مشروع الضم. ويبقى حزب يهدوت هتوراه الذي يدفع بشدة لخطة القضاء لتغيير ثقافة التعليم والسيطرة مع الصهيونية الدينية على أسس ترسيخ الهوية اليهودية وكذلك موازنات التعليم التي ستتيح هذا التغيير.
احتفل سموتريتش بإبقاء شركة «فيتش» للتصنيف الائتماني لاسرائيل عند نفس المستوى ولم تخفضه حتى الآن رغم التحذير الذي أطلقته، لكن إبقاء التصنيف سيضر اسرائيل أكثر حيث يعطي قوة لقادة عملية التدمير الذاتي كما يقول ليفي، وللثقة بخيارهم لاستكمال تخريب ما بدأ. وفي كل الظروف لا يبدو أن هناك حلولاً وسطاً، فقد أغلق أعضاء الائتلاف هذا الباب مبكراً ليس فقط في الداخل بل أيضا مع الخارج، حيث مواقفهم من لقاء العقبة الذي تم برعاية أميركية، فهم ليسوا مستعدين لأي نقاش.
هكذا يدمر الأيدلوجيون مجتمعاتهم، فالمجتمعات التي حكمتها قوى دينية تصادمت وانهارت. وتجربة التاريخ كانت شاهدة على عمليات التدمير والانهيار والعزلة تلك، والصدام الداخلي الذي يحول المجتمعات إلى ساحة حرب عندما يبدأ تصنيف البشر واستدعاء الماضي ونصوصه لحكم مجتمعات اليوم… تلك وصفة الصدام ويبدو أنه أصبح على الإسرائيليين ربط الأحزمة لأن الطائرة تهوي في هذه المرحلة.
عن الأيام