إسرائيل في جباليا… تغيير ديموغرافي وسياسي في غزة

كأن إسرائيل بدأت- في الشهر الثالث عشر لحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها ضد فلسطينيي قطاع غزة- حربا جديدة في شماله، الذي يضم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون وضمن ذلك مخيم جباليا (أكبر مخيمات اللاجئين في قطاع غزة)، وهي منطقة كان يعيش فيها نحو 400 ألف فلسطيني، من أصل 2.3 مليون فلسطيني يقيمون في كامل مدن القطاع ومخيماته.

ثمة جانب ثأري تبتغيه إسرائيل من تحويل منطقة الشمال إلى جحيم للفلسطينيين، إذ تعتبرها بمثابة البؤرة الأساسية التي أطلقت هجوم “طوفان الأقصى”، لذا فهي تستهدف عزلها واقتلاع الفلسطينيين منها، بالقوة والقسر، مع وجود أطراف تدعو لإعادة الاستيطان فيها، وضمن ذلك شخصيات في الحكومة اليمنية المتطرفة، مثل سموتريتش وبن غفير وأيضا نتنياهو ذاته.

منذ ثلاثة أسابيع باتت تلك المنطقة تتعرض لحرب وحشية مهولة مركزة، تتضمن القتل والتدمير والتجويع والاقتلاع والتشريد والإذلال والاعتقال، مع مجازر يومية جماعية، نتيجة توغل الجيش الإسرائيلي في تلك المنطقة، وقصفها من الجو والبر، بهدف إجبار الفلسطينيين على الرحيل إلى الجنوب، أي جنوب محور “نتساريم”، الذي يقسم قطاع غزة من منتصفه إلى قسمين، شمالي وجنوبي، وهو الوضع الذي يعيشه أكثر من مليونين من فلسطينيي غزة منذ 385 يوما، أي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023)، مع دفعهم تحت أطواق الرصاص والقصف للرحيل من منطقة إلى أخرى.

وتبعا لما تفعله إسرائيل على الأرض في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، بغض النظر عما تقوله، يتضح أنها تشتغل على فرض خطتها المتعلقة، بإعادة الهندسة البشرية والجغرافية والأمنية والسياسية لمجمل قطاع غزة، وهي كناية عن عملية محو، للبشر والشجر والحجر، بما يتجاوز ادعاءها بالرد على عملية “طوفان الأقصى”، أو القضاء على القدرات العسكرية لحركة “حماس”، لأن حرب الإبادة، أو عملية المحو تلك باتت تتعلق بإخضاع الفلسطينيين من النهر إلى البحر لهيمنة إسرائيل، وتعزيز مكانتها كقوة إقليمية لا منازع لها في الشرق الأوسط، ما يتطلب تحجيم إيران بهذا القدر أو ذاك.

نقل وضع الضفة إلى غزة

على ذلك، فإن ما تحاوله إسرائيل شمالي قطاع غزة يشبه تماما ما فعلته في جنوبه، إذ الهدف تجزئة القطاع، وتحويله إلى كانتونات لا صلة بينها، مع قواعد عسكرية إسرائيلية تشكل حاجز فصل، مع ممرات وخنادق وربما جدران، بحسب الوضع، تخضع لإشراف أجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو الوضع ذاته الذي فعلته، أو كرّسته، في الضفة، بعد الانتفاضة الثانية، مع الجدار الفاصل والأنفاق والجسور والطرق الالتفافية، التي قطّعت التواصل بين الفلسطينيين، في مدنهم وقراهم ومخيماتهم.

ما تحاوله إسرائيل شمالي قطاع غزة يشبه تماما ما فعلته في جنوبه، إذ الهدف تجزئة القطاع، وتحويله إلى كانتونات لا صلة بينها، مع قواعد عسكرية إسرائيلية تشكل حاجز فصل

معلوم أن قطاع غزة يتشكل من ثلاثة مناطق رئيسية، شمال ووسط وجنوب، حيث يضم الشمال منطقتين: الأولى، جباليا، مع بيت لاهيا، وبيت حانون. والثانية، مدينة غزة. أما المنطقة الوسطى فأهم مدنها دير البلح، في حين يضم الجنوب منطقتي خان يونس ورفح.
وثمة تقسيمات طبيعية، أيضا، في القطاع إذ إن شارع صلاح الدين يقسمه، أو يقطعه، في المنتصف إلى قسمين شرقي وغربي، ويمتد الشارع من الشمال حيث معبر إيريس، ومدينة جباليا، وصولا إلى الجنوب، حيث رفح على الحدود المصرية، بطول 45 كيلومترا. 
بيد أن إسرائيل عملت على تقسيم قطاع غزة من الوسط، بمعبر “نتساريم” (على اسم مستوطنة سابقة)، إلى قسمين أساسيين: شمالي يفصل جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون ومدينة غزة عن الجنوب الذي يضم باقي القطاع من دير البلح إلى رفح مرورا بخان يونس، وطوله من الشرق حيث حدود القطاع إلى الغرب حيث البحر الأبيض المتوسط حوالي 7 كيلومترات وعرضه كيلومتر واحد، لكن الجيش الإسرائيلي حوله إلى منطقة قواعد عسكرية له، بحيث بات عرض الشارع عند المحور العسكري “مفساليم” نحو ثلاثة كيلومترات كمنطقة عسكرية خالصة.

أ.ف.بفلسطينيون يسيرون وسط الدمار في بيت لاهيا في شمال قطاع غزة في 3 نوفمبر

لم تكتف إسرائيل بتلك التقسيمات إذ عملت على فصل كل مناطق القطاع عن بعضها بممرات ذات طابع عسكري، بحيث قسمت الشمال إلى منطقتين، جباليا وغزة، وقسمت الجنوب إلى ثلاث مناطق، دير البلح التي يفصلها ممر “كيسوفيم” عن خان يونس، التي تفصل بدورها بممر “صوفا” عن رفح، التي بات يحدها من جهة الحدود مع مصر محور فيلادلفي، أو محور صلاح الدين، وطوله 14 كيلومترا، من معبر كرم أبو سالم في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب. 

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى اشتغلت إسرائيل على خلق مناطق عازلة على طول حدود قطاع غزة، بعمق كيلومتر واحد، بحيث تبقي القطاع في حالة حصار مطبق، إضافة إلى سيطرتها على محور فيلادلفي على الحدود مع مصر.
وما يفترض ملاحظته أن تلك التقسيمات الجغرافية، هي، أولا، ذات طابع أمني وعسكري وسياسي، تحت الهيمنة الإسرائيلية. ثانيا، أن تلك التقسيمات تنطوي على إزاحة السكان، أو تجميعهم في مناطق معينة، ما يعني تقليص مساحة قطاع غزة، من كل الجهات، وتجميع الفلسطينيين في مربعات أو بلوكات تسهل السيطرة عليها، مع محو العمران المديني التاريخي لكل مدن غزة، وهذه البلوكات تتركز في الجنوب ولجهة الغرب أي من جهة البحر؛ ما يفسر سعي إسرائيل لدفع فلسطينيي جباليا نحو الجنوب.
وتبعا لما تقدم فإن السيطرة الأمنية والسياسية لإسرائيل، مع عملية الإزاحة إلى الجنوب، وإلى الغرب، تحمل في طياتها مخاطر عودة الاستيطان والمستوطنين إلى شمال وشرق غزة، وهو أمر لا ينفيه كثير من أركان الحكومة الإسرائيلية، كما قدمنا.
وتبعا لكل تلك التغييرات في هندسة القطاع فربما تصل مساحة الممرات والمناطق العازلة إلى 150 كيلومتراً مربعاً، تتوخى إسرائيل حسمها من المساحة الإجمالية للفلسطينيين في قطاع غزة، والتي تقارب 365 كيلومتراً، أي إن الفلسطينيين في غزة قد يجدون أنفسهم في مساحة تناهز نصف مساحة غزة السابقة، مع حصار مشدد، وممرات أمنية.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” تحدثت بشكل مبكر عن ذلك في تقرير عنوانه: “التطويق والتقسيم في غزة”، بقولها: “التطويق وربما التقسيم هما المصطلحان اللذان يلخّصان هذه المرحلة من القتال، ويبدو أن التطويق يتحول إلى خط فاصل: على طول مدينة غزة، هناك خط يفصل شمال القطاع عن وسطه، ولا خروج ولا قدوم. كما طُرحت خطط لتشريح غزة أفقيا في جولات القتال السابقة، ولم تنفَّذ لأسباب عديدة. لقد تم ذلك الأمر هذه المرة”. (“يديعوت أحرونوت”- 27/ 10/ 2023).

خطط الإبادة والمحو

تم تسريب عدد من الخطط لعزل شمال غزة وأخذه، لعل أشهرها “خطة الجنرالات”، والتي يعتقد كثر بأن إسرائيل تنفذها عمليا، انطلاقا من جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وإن كانت تنفي ذلك. وتنص تلك الخطة المنسوبة أساسا إلى اللواء احتياط غيورا آيلند، وتم وضعها في سبتمبر/أيلول الماضي، على إخلاء منطقة شمال غزة، شمال خط نتساريم، نهائيا من الفلسطينيين، بإجبارهم على الرحيل من ممرات معروفة، إلى جنوب خط نتساريم، وذلك بوسائل القوة والتجويع والحصار المشدد، وضمنه الحؤول دون وصول المساعدات الدولية إليهم، واعتبار شمالي غزة منطقة خالية من الفلسطينيين وتحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، باعتبار أن هذا الوضع هو الذي يمكن إسرائيل من إنهاء وجود “حماس” تماما في الشمال، بجعل المقاتلين أمام خيارين: إما الاستسلام وإما الموت، تماما في الشمال، ومنع عودة أي تهديد من شمال غزة لسكان مستوطنات الغلاف، ما يمكّن من عودتهم إلى بيوتهم في أقرب وقت. 


خطة آيلند تلك تتقاطع مع خطة وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال يوآف غالانت، والتي تتضمن تقسيم القطاع إلى 24 منطقة إدارية وتشكيل قوة محلية في شمال غزة لتوزيع المساعدات، مع اقتراح تشكيل إدارة مؤقتة تشرف عليها قوة مشتركة من الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة، في حين تتولى قوة فلسطينية محلية الحكم المدني، حتى إن تلك الخطة وصلت إلى حد تقسم قطاع غزة إلى أكثر من 2300 بلوك صغير، بحيث يتم استيعاب غزة على شكل 1000 شخص في كل بلوك.
أيضا، خطتا آيلند وغالانت تنسجمان مع رؤية نتنياهو بشأن جعل قطاع غزة كياناً إقليمياً منفصلاً عن الضفة الغربية، أي ليس تحت سيطرة السلطة الفلسطينية… “ليس (حماسستان) ولا (فتحستان)… وتعزيز ظهور قيادة محلية في غزة، مستقلة عن الاتفاقيات القائمة”. (“معهد بحوث الأمن القومي”- 21/ 3/ 2024) وبحسب نوال نداو (نائب رئيس تحرير “هآرتس”) فإن نتنياهو، الذي يبعث برسائل مختلفة، متعمدا “الضبابية”، والذي “ضم أجزاء واسعة في الضفة الغربية شيئا فشيئا، دون تشريع احتفالي، بشكل فعلي” يفعل ذلك، “بالضبط في قطاع غزة.. أولا، عن طريق احتلال مناطق واسعة في القطاع وطرد السكان وتدمير البيوت وشق طرق جديدة وبناء مواقع وبنى تحتية أخرى للمدى البعيد. وفي الوقت الحالي أيضا عن طريق الدفع قدما بخطة لنقل السيطرة المدنية في القطاع إلى جهات خاصة مأجورة… يدور الحديث عن خصخصة الحكم العسكري في غزة ونقله إلى جهات خاصة لها مصالح اقتصادية خاصة (“هآرتس”-23/ 10/ 2024). 

الفلسطينيون في غزة قد يجدون أنفسهم في مساحة تناهز نصف مساحة غزة السابقة، مع حصار مشدد، وممرات أمنية

وتلخص مايا روزنفيلد ما يجري في غزة بالآتي: “استراتيجية الحرب التي تم تطبيقها بالفعل كانت استراتيجية إبادة جماعية وتدمير شامل… الإبادة الجماعية وتدمير أركان الوجود التي يتسبب بها الهجوم في القطاع، ليست نتيجة غير مقصودة للرد على هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل هي هدف بحد ذاته. وهي جزء من استراتيجية إسرائيل الشاملة، وهدفها النهائي هو منع الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير في وطنهم في المستقبل المنظور، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الهدف النهائي هو إفشال الإمكانية المادية، ليس السياسية فقط، للحل السياسي عن طريق تحويل الفلسطينيين إلى غبار بشري وتدمير فلسطين”. (“هآرتس”- 25/ 10/ 2024).

أ.ف.بتدافع للحصول على أكياس الدقيق في مركز لتوزيع المساعدات تابع لـ “الأونروا” في دير البلح وسط قطاع غزة في 3 نوفمبر

ثمة ملاحظتان هنا، الأولى أن إسرائيل لا زالت تواجه مقاومة وتتكبد خسائر، رغم كل جبروتها، ورغم أن تلك المقاومة لا تعادل ولا تغطي ولا تخفف- ولو نسبيا- توحش إسرائيل في غزة. والثانية، أن الفلسطينيين الذين ليس لديهم أي مكان يذهبون إليه، يصرون على البقاء في الشمال. وهم “عندما يضطرون تحت الإكراه مغادرة جباليا فإنهم يذهبون إلى منطقة أخرى في غزة، إلى غرب مدينة غزة مثلا، رافضين في ذلك اجتياز محور نتساريم خوفا من أن لا يسمح لهم الجيش بالعودة مرة أخرى”. (“هآرتس”- 23/ 10/ 2024).

عن المجلة

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *