إسرائيل… عودة الذئب..!!!
باكتمال القراءات الثلاث لحل الكنيست حسمت إسرائيل أمرها بالذهاب للانتخابات الخامسة خلال أقل من أربع سنوات منذ أن بدأت الفوضى تدب في عروق نظامها السياسي في تشرين الأول 2018، ولم تدفع أي من تلك الجولات نحو إعادة استقرار لهذا النظام الذي سار من أزمة الى أزمة أبعد، لترحل بسرعة آخر حكومة كانت هي الأقصر عمراً في تاريخ إسرائيل، إذ لم تعمر لأكثر من عام.
ستجري الانتخابات في الأول من تشرين الثاني القادم، وهو الموعد الذي فضله الائتلاف، لأن المعارضة اليمينية كانت تصر على الخامس والعشرين من تشرين الأول لتستغل إجازة المتدينين لرفع نسبة التصويت لديهم، وهو ما دفع القائمة العربية المشتركة لدعم الائتلاف في تحديد موعد الأول من تشرين الثاني.
وبذلك تنطوي صفحة نفتالي بينيت الذي لمع بسرعة واختفى أسرع وهو يعلن اعتزاله الحياة السياسية بعد أن كان عنيداً في ابتزاز شركائه، وأرغمهم على قبوله رئيساً للحكومة بمقاعده الفقيرة، وهكذا حرق كل مراحل تطوره… واحترق بسرعة.
واذا كانت تلك هي الحكومة الأقصر عمراً فقد أنجزت الكثير لاسرائيل، سواء بسبب تركيبتها غير المتجانسة والتي جعلتها حكومة اللاقرار، أو حكومة المراوحة التي مكنتها من ممارسة أعلى درجات المراوغة، أو بسبب الرعاية العليا الأميركية التي حظيت بها كما لم تحظ أي حكومة سابقة باستثناء حكومة ايهود باراك. وللمصادفة لنفس السبب حينها أن الرئاسة الأميركية كانت في الحالتين تريد التخلص من بنيامين نتنياهو. وهذه الأسباب جعلت حكومة بينيت قادرة على التملص بسهولة من أي استحقاقات تجاه الفلسطينيين، بل والإمعان في التعدي على حقوقهم أو لجهة الدعم الذي تلقته كي لا تسقط.
صحيح أن اسرائيل دولة مؤسسات وأن القرار والخطط لا يجري رسمها في دوائر الحكومة، بل إن تلك جهة تنفيذية لخطط متواصلة وطويلة الأمد تُرسم في مراكز الدراسات وأجهزة الأمن وجنرالاتها المتقاعدين والحاليين وأساتذة الجامعات. وان جاءت حكومة بينيت الهجينة لتُكمل مشاريع سبقتها لكنها لظروفها الخاصة التي ذكرناها نجحت في تسريع تنفيذ تلك الخطط على الجلد الفلسطيني.
لم يتمكن أي من رؤساء الحكومات في اسرائيل بمن فيهم الأشد تطرفاً وكراهية للتسوية مع الفلسطينيين من أن يعلن صراحة أن لا عملية سياسية ولا مفاوضات معهم بمن فيهم شارون ونتنياهو، ولكن بينيت قالها علناً ولم توجه له أي ملاحظة، سواء من العرب أو من الأوروبيين الذين رعوا وأنفقوا على عملية التسوية المزمنة التي سارت نحو حتفها الطبيعي، كأن العالم الذي كان قد اندفع نحو السلام قد أصابه الملل واليأس من إمكانية تحقيقه، نظراً لتهرب إسرائيل المتعاقب أو لعدم نضوج فلسطيني منقسم ومتشرذم لم يبنِ مؤسساتٍ ويتهرب من الانتخابات، ولم يقدم للعالم ما يدعوه لاستمرار دعمهم السياسي ليقتصر على الدعم المالي تجنباً لأزمة إنسانية فقط.
تمكنت حكومة بينيت من أن تنسب لنفسها أنها الحكومة الاستيطانية بامتياز، فقد ارتفعت وتيرة الاستيطان في عهدها حسب إحصائيات «السلام الآن» بـ 62%. لقد ظن الفلسطينيون وهم يحتفلون بإزاحة بنيامين نتنياهو أن حكومة جديدة مدعومة من حزب ميرتس اليساري والقائمة الموحدة العربية الإسلامية ستكون كابحاً للأنشطة المعادية لهم ، لكن تلك الحكومة تمكنت وبنجاح من جر هذين الحزبين نحو برنامج اليمين الاستيطاني بل وقاما بالتصويت على قانون الأبرتهايد للمستوطنين في الضفة الغربية، وبهذا يمكن أن تسجل تلك الحكومة أنها تمكنت من جر اليسار وجزء من العرب نحو برنامج اليمين الاستيطاني.
لقد كان واضحاً أن إسدال الستار على عملية التسوية والإعلان عن رفض المفاوضات كان بفتح المجال لبرنامج موازٍ لم يكن بعيداً عما جاء في روح صفقة القرن، وابتداع معادلة أخرى هي آخر ما كان يتمناه الفلسطينيون من مقايضات ابتزازية، وذلك بتحقيق معادلة الأمن لإسرائيل مقابل الغذاء للفلسطينيين دون أي أفق للمستقبل، بل القبول بواقع الاحتلال وأن يفعل ما يشاء مستكملاً خططه الاستيطانية والتهويدية للقدس مقابل تسهيلات اقتصادية تتم السيطرة عليها وتتحول الى سيف مسلط على رقاب الفلسطينيين. ولا شك أن عامل الزمن يلعب دوره في خلق مناخات تجعل ما لم يكن مقبولاً سابقاً، واقعاً يتم التعايش معه.
وتحت الضغوط الأميركية والخوف من عودة الذئب كان يتم حقن الفلسطينيين بمخدر هادي عمرو ومكالمات بلينكن، أما غزة وحركة حماس فوضعها كان أسوأ من وضع الضفة الغربية التي تم تطويعها مسبقاً، فقد أعلن بينيت أن العام المنصرم كان الأكثر هدوءاً مع القطاع، فلا بلالين حارقة هذا العام ولا صواريخ تطلق على إسرائيل. وقد تمكن من إنجاح مسيرة إعلام القدس التي نشبت بسببها حرب العام الماضي، وهذا العام كانت الحركة تكتفي بالتصريحات وتتلقى تسهيلات اقتصادية وتصاريح عمال مقابل هذا الهدوء للمنطقة التي شاكست إسرائيل كثيراً في الأعوام الأخيرة وحافظت على جذوة الاشتباك.
اعتزال نفتالي بينيت يفسح الطريق لشريكته التاريخية إيليت شاكيد لتسلُّم قيادة حزبه الذي تفتت في عهده، وهنا الأمر ليس فقط تغيير رئيس حزب سياسي، بل ربما سيعتبر هذا التغيير هو الأهم في السياسة الإسرائيلية، وقد يمهد لعودة نتنياهو لرئاسة الحكومة الإسرائيلية بسهولة شديدة. فشاكيد دعت لتشكيل حكومة يمين خالصة، وهي ليس لديها مشكلة مع نتنياهو كما شريكها، وبالتالي ستُمكّن نتنياهو من الحصول بسهولة على أغلبية في الكنيست كما يُفهم من تلميحها.
أما منصور عباس الذي هاجم القائمة المشتركة متهماً إياها بالسعي لعودة نتنياهو، وهو نفسه الذي أعلن حتى قبل حل الكنيست رغبة بالانضمام لنتنياهو قبل أن يرد عليه الأخير مستنكراً، فقد خسر الرجل في مغامرته التي اندفع لها وهو يستعيد تجربة التعايش التي فشلت في خمسينات القرن الماضي لأسباب لا يتسع لها المقال، ولكن في تجربة عباس ما هو أبعد من العودة لتلك المحاولة لعل الزمن فعل فعله في جعل الحالة اليهودية أكثر مؤهلة لهذا التعايش، متناسياً أن الفشل الأول كان في ظل يسار علماني أكثر قدرة على انجاحها، ومع ذلك سقطت التجربة وتناسى أن المزاج العام السياسي في إسرائيل أقلع نهائياً نحو اليمين الذين يعلن أنه لا يتعايش حتى مع يسار إسرائيل من اليهود فما بالنا بالعرب. وفي كل الظروف قد يدفع الرجل ثمن هذه المغامرة في الأول من تشرين الثاني.
خمسة انتخابات في أقل من أربع سنوات هي مدة الدورة الواحدة، ولكن الأكثر إثارة أن إسرائيل أجرت تسع دورات انتخابية منذ عام 2006 أي منذ آخر انتخابات أجراها الفلسطينيون، وهنا يبدو الحديث عن الندية والتوازن والصورة النمطية أمام العالم يحمل قدراً من مرارة السخرية …!!!!
عن الأيام الفلسطينية