إسرائيل تُطوّر بانتهاكاتها خطاباً معادياً للإنسانية

ليس جديداً أن تنتهك إسرائيل حقوق الأسرى الفلسطينيين، فقد فعلت ذلك منذ نشأتها عام 1948، وإن كانت قد وقّعت اتفاقية جنيف في يوليو/ تمّوز 1951، بما فيها ما ينص على معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية في جميع الأوقات (المادة 13)، وحظر ممارسة أي نوع من التعذيب، وحظر تعريض أي أسير حرب لضرر بدني أو معنوي، أو أي إكراه، أثناء استجوابه (المادة 32). وبالمثل “يجب حماية أسرى الحرب في جميع الأوقات ضدّ جميع أنواع العنف أو التهديد… أو أن تقترف في حقهم ما قد ينتقص من احترام الشخصية أو الشرف أو ما من شأنه أن يَحطّ من الكرامة الإنسانية”، لكنّ إسرائيل منذ نشأتها لم تتوقّف عن اقتراف ما سبق كلّه، ونهت عنه الاتفاقية، وإن كانت الجهات القانونية والقضائية الإسرائيلية قد سمحت في بعض الأوقات للمحامين بتمثيل الأسرى الفلسطينيين أو تَدخَّل الصليب الأحمر الدولي لتحسين شروط الاعتقال، فإنّ ذلك كان انتقائياً ومُجرّد قناع يُروِّج أنّها دولة قانون، فيما الحقيقة أنّها دولة مارقة لا تعبأ بالقانون الإنساني. وها هي تتمادى اليوم بانتهاكاتها حقوق الأسرى الفلسطينيين، بما يفوق القدرة على تصوّر هذه الانتهاكات، التي تُخفَى عن أعين الكاميرات؛ انتهاكات وثّقت مرّات عديدة من الجنود أنفسهم.

هذا التمادي المُروّع له علاقة بكون مصلحة السجون من مسؤولية وزير الأمن في الحكومة الإسرائيلية، المجرم إيتمار بن غفير. لكن، لماذا تذكّرت الآن الأجهزة القانونية والقضائية الإسرائيلية ملاحقة ذلك، واعتقال تسعة من عشرة جنودٍ مشتبهٍ فيهم (أحدهم برتبة رائد) باقتراف انتهاكات جنسية في حقّ أسير فلسطيني؟ هل لهذا علاقة باستباق صدور مُذكّرات اعتقال جديدة عن المحكمة الجنائية الدولية في حقّ هؤلاء أو مرؤوسيهم السياسيين والعسكريين، بادعاء الأجهزة التابعة للمحكمة العليا الإسرائيلية القيام بما يلزم من تحقيقات وعقوبات لتجنّب تدخّل الجهات القضائية الدولية مباشرة في تجريم هذه الانتهاكات؟ إذ لم تتوانَ إسرائيل وجيشها عن خرق المعاهدات الدولية والقانون الإنساني منذ نشأتها، بل تمكّنت، بدعم من الولايات المتّحدة والغرب الأوروبي، من التملّص من المُحاسبة. وها هي اليوم، وللمرّة الأولى منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تُحاكَم دولياً في محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، وبشكل صريح وواضح، منذ بدء ارتكابها الإبادة الجماعية لأهل غزّة، وجَعْل الحياة فيها غير ممكنة، بعد تدمير معظم مساكن القطاع، وبناه التحتية، وتجويع الغزّيين وتعطيشهم، وتركهم فريسة لأوبئة قد تهدّد العالم، وليس دول الجوار فقط، بما يشبه الانتكاسة في القضاء على أمراض مُعدِية كشلل الأطفال.

تتمادى إسرائيل اليوم بانتهاكها حقوق الأسرى الفلسطينيين، بما يفوق القدرة على تصوّر هذه الانتهاكات

إنّ الصور والفيديوهات المتداولة حول العالم، ومنها ما يُصوّره جنود إسرائيليون أثناء اقترافهم هذه الانتهاكات، تُعتبَر أدلّة قانونية صريحة على هذه الانتهاكات، التي تُمارَس في حقّ الغزّيين والغزّيات، وفي حقّ الفلسطينيين في الضفّة الغربية، وأيضاً في حقّ فلسطينيي وفلسطينيات الأراضي المُحتلّة عام 1948، لهي وثائق ملموسة وجدّية تثبت هذه الانتهاكات، ولا يمكن إخفاؤها كما فعلت إسرائيل مثلاً في عين حوض قضاء حيفا عام 1948، حين طمرت أجزاءً من القرية لإخفاء المجزرة التي ارتكبتها في حقّ أهاليها، وشيّدت فوقها حديقة عامّة. لم يعد ممكناً في زمن وسائل التواصل الاجتماعي طمر أي شيء، أو تغيير معالم مسرح الجريمة. أساساً، لا يسعى الإسرائيليون لإخفائها، بل يزعمون بوقاحة أنّ هذه الجرائم لا تحدث، أو أنّها أضرار جانبية في زمن الحروب، ولا يتورّعون عن لعب دور الضحيّة، كما فعل نتنياهو في الخطاب الذي ألقاه في الكونغرس الأميركي على أنقاض إبادة جماعية مُعلَنة تُرتَكب أمام أعين العالم أجمع، وبالبث الحي المباشر. لقد بلغ الصلف الإسرائيلي أن يُكذّب ما تراه الأعين في العالم كلّه. وإذ هاجمت الحكومة الإسرائيلية آخر القرارات الصادرة عن “الجنائية الدولية”، التي دعا مُدّعيها العام كريم خان قضاة تلك المحكمة إلى إصدار مُذكّرات اعتقال في حقّ نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت، لوجود شبهات معقولة لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، بل والتهديد بمعاقبته تحت شعار أنّه مُعادٍ للساميّة.. نقول إن فعلت الحكومة الإسرائيلية ذلك، فكيف يمكن تفسير اقتحام مئات المُتطرّفين الإسرائيليين المحكمة العسكرية أيضاً، احتجاجاً على محاكمة الجنود التسعة المُتّهمين بانتهاكات جنسية في حقّ أسير فلسطيني، بل الانتقاص في الكنيست من مكانة المُدّعي العام الإسرائيلي نفسه، أثناء جدال حادّ، واستنكار تحويل هؤلاء الجنود إلى المحاكمة، وهو على ما يبدو استمرار للانقلاب القضائي على المحكمة العليا، الذي لم يكتمل، ويشي بتصدّعٍ قادمٍ يُفكّك مؤسّسات الدولة وفي رأسها الجيش؟

لم يرتكب الجنود والمستوطنون الإسرائيليون جرائمهم في حقّ الفلسطينيين فجأة، بل تجذَّرت فيهم الكراهية والعنصرية على مرّ عقود

ثمّة شيء يتغيّر في إسرائيل، ليس في جوهرها الصهيوني العنصري، فهذا كان موجوداً على الدوام، بل في التمادي في الانتهاكات حدّ بلوغ الفاشيّة والنازيّة في محاكاة فاقعة للجلاد الألماني في زمن الهولوكوست، وهو ما أدّى إلى تزعّم الشباب اليهودي (من “الصوت اليهودي من أجل السلام في فلسطين”) التحرّكَ ضدّ إسرائيل، وتنظيم الأنشطة الاحتجاجية في عموم الولايات المتّحدة، واعتبارها مُضرَّة باليهود في العالم، وأنّ وجودها يُشكّل خطراً عليهم. وعليه، هم أول من رفع في التظاهرات شعار “تحرير فلسطين من النهر إلى البحر”، جنباً إلى جنب مع “حركة الشباب الفلسطيني من أجل العدالة لفلسطين”. ثمّة دولة تتفكّك في إسرائيل. ورغم الخسارات كلّها، التي تعرض ويتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، فإنّ ثمّة ما يشي ببداية النهاية لهذا الكيان الصهيوني المقيت. فهؤلاء المُتطرّفون الذين يحكمون ويتغلغلون عميقاً في مفاصل الدولة الإسرائيلية وسياساتها، ويقودونها إلى الهلاك حتماً، لا يفعلون ذلك بناءً على أوامر بيروقراطية، كتلك التي أسمتها الفيلسوفة الألمانية الأميركية اليهودية، حنة آرندت، لتوصيف أفعال النازي أدولف إيخمان أثناء محاكمته في القدس، بوصفه أحد المُنظّمين الرئيسيين الألمان للمحرقة اليهودية. فالشرّ الذي يرتكبونه لا يُعبّر عن “تفاهة الشرّ”. إنّهم يقومون بذلك باستمتاع وقح، ولا يتورّعون عن التفاخر بما يرتكبونه. فأولئك الجنود الذين يرتكبون المجازر أو الانتهاكات في حقّ الأسرى، أو المستوطنون الذين لا يتورّعون عن قتل الفلسطينيين ونهب ممتلكاتهم أو حرقها، لم يصلوا لهذا المستوى من ارتكاب الجرائم فجأة، بل تجذَّرت فيهم الكراهية والعنصرية لنزع الإنسانية عن الفلسطيني على مرّ العقود. هذا فضلاً عن معتقدات دينية تُغرَس في أوساطهم، التي تُسمِّي فلسطين “أرض إسرائيل” التي وعدهم بها الربّ، التي تشكل الخلفية الثقافية لمجتمع بأكمله بناه العلمانيون والملحدون الصهاينة أنفسهم على خرافات “شعب الله المختار” و”أرض الميعاد”، ستاراً لكيانٍ استعماري استيطاني إحلالي يمكن له أن يستقطب اليهود للهجرة، ويقوم بوظيفة حماية الرُعاة الإمبرياليين في العالم، بداية من بريطانيا العظمى، ثمّ انتقالاً إلى الولايات المتّحدة، والغرب عموماً.

عمليات الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل، ولا يعترض عليها المجتمع الإسرائيلي عموماً، إلّا قلّة صامتة، وبعض الكُتّاب والصحافيين، مُرشّحة للاستمرار، بل وللتغوّل أكثر في ارتكابها، ليس على مستوى الانتهاكات التي يقترفها الجنود فقط، بل على المستويَين الرسمي والشعبي، المُؤيّدين ضمناً، حتّى أولئك العلمانيون، الذين يتهدّدهم تفشّي الفاشيّة في مؤسّسات الدولة والمجتمع على السواء. وبحسب مستشار الأمم المتّحدة الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، والمسجل السابق للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا آداما دينغ، فإنّ “الإبادة الجماعية ليست حادثاً عرضياً، ولا هي حتمية. الإبادة الجماعية هي عملية تتطوّر بمرور الوقت، وبغية التمكّن من الانخراط في ممارسة العنف المُرتبِط بالإبادة الجماعية، إذ يحتاج الجناة إلى وقت لتطوير القدرة على القيام بذلك، وتعبئة الموارد، واتخاذ خطوات ملموسة تساعدهم على تحقيق هدفهم. فالإبادة هي استراتيجية لتجذير التطرّف والعنصرية. إذ لا يمكن لفرد، مهما بلغت الأفكار التي يحملها من بؤس وتطرّف، أن يصير وحده قادراً على القتل. فارتكاب القتل الفردي ليس بالأمر السهل، فكيف إذا كان قتلاً جماعياً؟ فعملية تحوّل الأفكار المُتطرّفة، مهما كانت الأيديولوجيا، إلى ممارساتٍ عملية تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية لا تحصل بشكل تلقائي، بل تتطلّب جهازاً ضخماً لنشر الدعاية والتجنيد والاستقطاب والتمويل والتخطيط والتنفيذ، وإلّا فإنّها تبقى محصورة في إطار محدود، مهما بلغت الجرائم المُرتكَبة من بشاعة”.

نَعْتَ غالانت في بداية الحرب أهل غزّة بـ”حيوانات بشرية” لم يكن مصادفة، فهو أصدر فعلياً أمراً بإعدامهم جماعياً

جزءٌ من هذه العملية التي تمهّد لتحويل الأفكار المُتطرّفة سلاحاً للقتل الجماعي العشوائي، هو وضع استراتيجية نفسية واجتماعية تزيل الشعور بالذنب والمسؤولية لدى الفرد المشارك في الإبادة. فالإبادة الجماعية ليست هدفاً في حدّ ذاتها، بل وسيلة من ضمن وسائل أخرى مُتعدّدة لتحقيق الغاية الكبرى. وفي حالة إسرائيل الغاية هي احتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية، وإقامة دولة إسرائيل التوراتية. ولذلك، نجحت السلطات الإسرائيلية، بالتعاون مع الإعلام، في تجريد أهالي غزّة من إنسانيتهم بسرعة، بعد عملية طوفان الأقصى. لذلك، فإنّ نَعْتَ وزير الدفاع يوآف غالانت في بداية الحرب أهل غزّة بـ”حيوانات بشرية” لم يكن صدفة، فهو أصدر فعلياً أمراً بإعدامهم جماعياً. وإنّ ما حدث للأسير الفلسطيني من انتهاكات جنسية في حقّه هي ممارسات مُهينة حطّت من كرامته الشخصية وشرفه واحترامه إنساناً، وخروج على اتفاقية جنيف المُتعلّقة بحماية أسرى الحرب، التي وقعتها إسرائيل، وهي انتهاكات في صميم اختصاص المحكمتين؛ العدل الدولية والجنائية الدولية، كلتيهما، علماً أنّ هذه الحالة ليست الوحيدة، بل هنالك حالات أفضت إلى موت الأسرى تحت التعذيب أو فقدان صوابهم، كما حدث مع الشاب بدر دحلان، إذ نراها في نظرات الفزع في عينيه بعد حوالي شهر من اعتقاله في غزّة.

ما يحدث من فظائع في غزّة، وفي سجون الاحتلال، ليس تافهاً، بل يُجذَّر بأيدي من يطلقون على أنفسهم “العلمانيين” أو “المؤسّسين الأوائل”، لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك من أمثال نتنياهو وسموتريتش وبن غفير أنّ الأوائل حاولوا إخفاء جرائمهم، التي ارتكبوها ضدّ الفلسطينيين على مدار عقود، بينما هؤلاء يتمادون بارتكابها ويتفاخرون، وتتعاظم جرائمهم لتُطوَّر خطاباً فجَّاً معادياً للإنسانية، أين منه خطاب معاداة الساميّة؟

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *