إسرائيل تصارع السلطة الفلسطينية على الأرض والشعب أيضاً!
مشكلة السلطة اليوم أن إسرائيل لم تعد تكتفي بالإطاحة بأوهامها أو آمالها بل وباتت أيضاً تحد من صلاحياتها، وتنافسها على شعبها، بتعاملها مع الفلسطينيين بشكل مباشر، عبر الإدارة المدنية الإسرائيلية للمناطق المحتلة.
انتهى اتفاق أوسلو، أو تبدّد، فإسرائيل دفنته مبكراً، وقد انكشف ذلك في مفاوضات كامب ديفيد2 (2000)، أي منذ أكثر من عقدين، من دون أن تستطيع السلطة الفلسطينية شيئاً، باستثناء محاولة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تغيير تلك المعادلة، والتمرد على قيود أوسلو، وفقاً لمعادلات الانتفاضة الثانية (2000ـ 2004) ما أدى إلى محاصرته وعزله وإنهاء حياته ومسيرته.
القصد أنه باستثناء تلك المحاولة الملحمية، التي ختم بها عرفات حياته المثيرة، فإن تاريخ القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، هو تاريخ الانضواء في مسار التسوية مع إسرائيل، برغم التذمر من القيود والشروط والتهربات الإسرائيلية، ومناشدة الأطراف الدولية والإقليمية الضغط على إسرائيل لإجبارها على تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في هذه العملية الملتبسة والمجحفة بالنسبة إلى حقوق الفلسطينيين.
منذ عشر سنوات تقريباً لم يعد ثمة أي مفاوضات تسوية، إذ استطاع بنيامين نتنياهو (عاد على رأس الحكومة ثانية في الفترة 2009ـ 2021) إزاحة عملية التسوية مع الفلسطينيين من جدول الأعمال الإسرائيلي، مع تركيزه على فكرة “السلام الاقتصادي”، أي إبقاء الكيان الفلسطيني عند حدود الحكم الذاتي، وتحسين أوضاع الفلسطينيين، مقابل التنسيق الأمني، والحفاظ على أمن إسرائيل والمستوطنين، ساعده في ذلك ضعف السلطة، وارتهانها لخيار التسوية، وضمن ذلك يأتي عجزها عن تنفيذ القرارات التي تتخذها الهيئات القيادية التشريعية في شأن العلاقة مع إسرائيل (كالمجلسين الوطني والمركزي اللذين أرادا إقرار وقف التنسيق الأمني منذ عام 2015)، وفي شأن إنهاء الانقسام، وعدم قيامها بتعزيز المجتمع المدني، ورفضها تجديد شرعيتها في الانتخابات (كما حصل مطلع العام الماضي).
بنتيجة ضعف السلطة، وارتهاناتها، والفجوة بينها وبين شعبها، فإن إسرائيل لم تعد تصارعها على الأرض، فقط في الضفة والقدس، إذ باتت تصارعها على الشعب، أيضاً، أي على الفلسطينيين في الضفة والقطاع والقدس (ومناطق 48)، ليس فقط بالهيمنة أو الإخضاع بوسائل القوة، وإنما بالتوازي مع التطويع بالوسائل الاقتصادية الناعمة، وعبر تقديم المنافع.
أيضاً، ليست القصة “عصا وجزرة” فقط، وهي السياسة الكلاسيكية التي تنتهجها الأنظمة الاستعمارية، والاستبدادية، التي تحرص على إضفاء نزعة عقلانية على سياسات السيطرة لديها، وإنما يتضمن ذلك المنافسة بين نموذجين، او نظامين، والمعني هنا السلطة الإسرائيلية تقف في مقابل السلطة الفلسطينية في منافسة معها على شعبها في الأراضي المحتلة.
مفهوم هنا أن إسرائيل تعمدت انتهاج سياسة قوامها الحط من مكانة السلطة الفلسطينية، وتقييد حدود سيادتها، وتشويه صورتها، إزاء شعبها، فهذه كلها من مهمات إسرائيل، لكن تلك السلطة سهلت لها ذلك، بعدم إدراكها طبيعة السياسات الإسرائيلية، وبتقاربها معها (سياسة التنسيق الأمني المرذولة)، كما بعدم قدرتها على تقديم نموذج أفضل، ليس حصراً في إدارة صراعها مع إسرائيل، وتمكين الفلسطينيين من الصمود في وجه سياساتها، وإنما في علاقاتها بشعبها، وفي سعيها لبناء مؤسسات وإطارات وطنية جامعة، إذ هي عملت كل شيء عكس ذلك.
على ذلك، فقد بات الصراع بين الطرفين ينحصر في اتجاهين، فإسرائيل، من جهتها، تريد السلطة كحكم ذاتي على شعبها، أي كوكيل لها، يجنبها تبعات، أو أكلاف، الاحتكاك المباشر مع الفلسطينيين، السياسية والأخلاقية والأمنية والاقتصادية. في المقابل، فإن السلطة تريد من إسرائيل أن تنفذ الاستحقاقات المطلوبة منها وفقاً لاتفاقات أوسلو (التي دفنتها منذ زمن)، وصولاً إلى إتاحة المجال لقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع (علماً أن ذلك بات متعذراً، أو معقداً، لأسباب عدة منها وجود سلطة أخرى في غزة)، وذلك مقابل حفاظ السلطة على التنسيق الأمني، والاعتراف بإسرائيل، وفقاً لمعادلة دولتين لشعبين، وهو الموقف التقليدي الذي أطاحت به إسرائيل منذ بداية عملية التسوية، وبينت أنه مجرد وهم.
مشكلة السلطة اليوم أن إسرائيل لم تعد تكتفي بالإطاحة بأوهامها أو آمالها بل وباتت أيضاً تحد من صلاحياتها، وتنافسها على شعبها، بتعاملها مع الفلسطينيين بشكل مباشر، عبر الإدارة المدنية الإسرائيلية للمناطق المحتلة (يفترض أنها حلت بعد إقامة السلطة)، وهو ما شهدناه في عقود العمل التي باتت تجري بشكل إفرادي، أي من دون وكالة هيئات السلطة، أو المقاولين، ويشمل ذلك منح بطاقات الـVIP للتجار، ورجال الأعمال، والشخصيات المهمة، لتوسيع قاعدة المستفيدين من وجود الاحتلال.
هكذا، شهدنا، في الفترة الماضية، بعضاً من تجليات تلك السياسة، وذلك التنافس، في رفض عمال الأراضي المحتلة في إسرائيل استلام مستحقاتهم عبر البنوك الفلسطينية، وإصرارهم على استلامها مباشرة، كما شهدنا استعداداً للتجاوب مع خطوة إسرائيل في إتاحة السفر للفلسطينيين عبر مطار رامون في النقب، لأنه يقلل الأكلاف والصعوبات والوقت. أما من جهة السلطة، التي لا تستطيع شيئاً لحماية شعبها من اقتحامات إسرائيل للمدن الفلسطينية (لقتل أو اعتقال نشطاء او هدم منزل أو إغلاق منظمة مجتمع مدني)، فقد شهدنا إنها مستعدة للدخول في اشتباكات مع نشطاء فلسطينيين في جنين ونابلس لاعتقال أفراد منهم، كما حصل مراراً في جنين ونابلس، كما شهدنا تخوفها من افتتاح مطار رامون، برغم أنها كانت ساكتة عن كل ما يعانيه الفلسطينيون للسفر في المعابر مع الأردن ومصر، منذ عقود.
المفارقة في مشهد السلطتين (الإسرائيلية والفلسطينية) أن شرعية الأولى تتآكل في الرأي العام العالمي (وهو ما بدا واضحاً في كلمة رئيس حكومة إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الفترة الأخيرة)، في حين تتآكل شرعية القيادة الفلسطينية أمام شعبها.
الفلسطينيون في أزمة مستعصية في ظل هذه الظروف الدولية والإقليمية والإسرائيلية، وأيضاً في ظل القيادة الفلسطينية التي لا تفعل شيئاً، أو لم تعد تملك شيئا، لتغيير هذه المعادلات.
عن موقع درج ميديا