إدوارد سعيد:نموذج للمثقف العضوي
في ذكرى رحيل المفكر الكبير ادوارد سعيد نقف لنتساءل هل ما زالت كتبه ممنوعة في الاراضي الفلسطينية وخاصة كتابه المعنون “سلام بلا أرض”الذي صودر في حينه…لمفكرنا الراحل الف وردة حب …وتذكر لحملة واسعة من الهجوم على فكره وابداعه.
حاربه اللوبي اليهودي الأمريكي، لكنه لم يستطع إقصاءه، فصار هاجسًا يقض مضاجع الطارحين لوجهة النظر الصهيونية هناك؛ الأمر الذي دفعهم ا إلى حرق مكتبه في جامعة كولومبيا ليبقى من يومها وحتى وفاته يعيش تحت الحراسة المشددة، لكن هذه الحراسة لم تمنع عنه آلاف الرسائل البريدية والإلكترونية المحشوة بالكراهية والتهديد.
وبحديث إدوارد سعيد عن عامي 1947 و1948 في كتابه “خارج المكان” أصبح هدفا مقصودا لهجوم فاسد شنه محام أمريكي إسرائيلي اسمه جيستوس ريد وينر الذي كتب على صفحات الـ”كومنتاري” في سبتمبر 1999 أن المنزل الموجود في الطالبية (والذي كتب إدوارد سعيد أنه كان يسكنه) لم يكن مسجلا باسم “وديع إبراهيم” بل باسم ابن عمه وشريكه في العمل المدعو “بولس سعيد”، ومن ذلك زعم وينر أن سعيد زيف تاريخه ليؤكد مزاعم اللاجئين الفلسطينيين ضد إسرائيل.
ولما ذهب إدوارد سعيد في يونيو 2000 إلى لبنان زار الجنوب؛ وهناك ألقى بحجر؛ فهاجت الدنيا، ونشرت إسرائيل صورة له وهو يرمي الحجارة باعتباره إرهابيا، يشجع على إلقاء الحجارة على الإسرائيليين ويدعو للعنف ومعاداة السامية؛ وهو ما دفع بجمعية فرويد بفيينا إلى إلغاء محاضرة له كان سيلقيها بمقرها.
كما تعرض لهجوم عنيف بعد صدور كتابه “تأملات حول المنفى”، ومن بين الذين هاجموه كاتبة يهودية اسمها مارتا نسباوم، زعمت في مقال لها أن أحاديثه عن النفي والمنفى حالة ذهنية لا صلة لها بالواقع؛ فهو يعيش في الولايات المتحدة، ويدّرس في جامعة كولومبيا منذ 38 عاما، وأنه في الواقع -على حد زعمها- يعاني من أزمة خاصة؛ لأن “المنفى” عنده هو ابتعاده عن الانتماء إلى أي هوية ثقافية.
و بسبب مقال انتقد فيه وبشدة السياسة الأمريكية تجاه العراق، وفضح فيه إحدى أهم الأذرع الأمريكية المبررة لتلك السياسة “عدنان مكية”؛ فكان أن خرج عليه العشرات يحرفون آراءه، ويرمونه زورا بالعمالة للنظام العراقي السابق.. نظام صدام حسين!!
وغير هذا المثال هناك أمثلة كثيرة، لعل أكثرها استفزازا تلك الآراء التي تناولت بشيء من الاستخفاف والزيف رأيه في روجيه جارودي.
ما قاله إدوارد سعيد بالتحديد عن جارودي أنه ترك مبدأه الفكري؛ فقد كان ماركسيا ثم ديمقراطيا ثم تحول لمفكر ديني بعد اعتناقه للإسلام، لم يكن في هذا الرأي أي تجاوز؛ فكل المنتج الإنساني قابل للنقد، لكن ما حدث هو أن البعض أساءوا فهم كلمة “مبدأه”، أو فسروها بسوء نية على أنه يقصد “دينه”؛ لتنطلق حملة الهجوم عليه.
رموه بتهمة معارضة عملية السلام، وجعلوه متناقضا مع نفسه حين وضعوا خطوطا عريضة تحت مشاركته في بدايات الحوار بين الفلسطينيين وإسرائيل عام 1979، ناسين أو متناسين رأيه الواضح والصريح عن أن الفلسطينيين كان يمكنهم الحصول على ما هو أفضل من اتفاقيات أوسلو وما تلتها من اتفاقيات.
أما اختلاف إدوارد سعيد مع عملية السلام وفق اتفاقات أوسلو ؛ فكان ناتجا من قناعته بأن المفاوض الفلسطيني يتنازل بلا مبرر، وبأن الصراع مع إسرائيل اليوم يدور حول مصادرة الأراضي، دون أن يكون هناك حديث عن استرجاع الأراضي المسلوبة، ولا نعتقد أن أحدا يستطيع أن يغمض عينيه عن نجاح إسرائيل في جعل السلطة تنوب عنها في دور الشرطي بسياسة “فرّق تسد”.
لقد قالها إدوارد سعيد بشكل واضح: “أنا لست ضد عملية السلام أو المفاوضات، ولكنني ضد موائد التنازلات على حساب حقوق الشعوب ومصائرهم”، لكن المتربصين به أغلقوا آذانهم، ورددوا مقولاتهم التي لا نعرف في أي مصب تنتهي؟!
ولم يقف المتربصون عند هذا الحد، بل زادوا وزايدوا زاعمين ومدعين أن إدوارد سعيد يعارض الانتفاضة ويهاجمها؛ لمجرد أنه نادى بضرورة تعديلها، حتى تتمكن من الصمود أمام قوة تدفع لها الولايات المتحدة 5 مليارات دولار سنويا.
كان يرى أن الانتفاضة غير محمية، وطالب الجميع بالتحرك لإكساب الانتفاضة صفة الشرعية في أوروبا تماما مثل الحركة المناهضة لنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وكان ينادي بأن تصبح الانتفاضة حركة سياسية مسلحة منظمة لتؤتي ثمارها، مؤكدا أن الوقت قد حان لتتحول الانتفاضة إلى حرب مستقلة بمعزل عن السلطة لكيلا يصبح وقفها شرطا للمحادثات كما يريد الإسرائيليون، ومطالبا بوقف التنافس على تبني الانتفاضة بين الفصائل المختلفة لكيلا تصبح في نظر العالم وسيلة للتيار الرافض وليست حقا مشروعا.
ومن الامثلة الاخرى المحاورات شديدة الأهمية التي عرى فيها أطروحات برنارد لويس حول الإسلام والتي نشرت في كتاب سياسة التجريد، والإسلام الأصولي.
مهم هنا أن نشير إلى ذلك المقال الذي كتبه عام 1998، بعد صدور كتاب إف. إس. نايبول “ما بعد الإيمان.. رحلات إسلامية بين الشعوب المعتنقة” الذي حمل إجابات على كل الأسئلة التي طرحت نفسها بعد منح الأكاديمية السويدية (جائزة نوبل) في الآداب لنايبول.
إدوارد سعيد أشار في مقاله إلى أن شهرة نايبول ترجع إلى ذلك الاحتفاء الكبير من كبريات الصحف البريطانية والأمريكية التي “اكتشفته” بعد أن نشر آراءه المسمومة عن الإسلام والمسلمين، والتي وصفته بالخبير والأستاذ العظيم في فن الملاحظة الدقيقة والتفصيل المعبر، الذي يلبي بشكل خاص ذلك النهم العميق لدى القارئ الغربي لتعرية “الإسلام وفضحه”.
لقد أراد نايبول في كتابه أن يقول بأن الإسلام دين العرب، وكل مسلم غير عربي ليس سوى “معتنق” لهذا الدين، زاعما أن الذين دخلوا الإسلام من غير العرب فقدوا هويتهم وخسروا ماضيهم ولم يقدم لهم الإسلام سوى الضياع والتعاسة، وهو الرأي الذي فنده إدوارد سعيد، ورد عليه بأنه لو كان صحيحا لأمكن اعتبار الكاثوليكية لا تصلح إلا لسكان روما أيضًا، وما عداهم من الكاثوليك؛ أي الإيطاليين خارج روما والإسبانيين والأمريكيين اللاتينيين… إلخ مقطوع عن تاريخه وتقاليده؟!
الأمثلة على معارك إدوارد سعيد كثيرة.