أيلول الحزن والشجن


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

أيلول حزن فلسطيني على ظهر غيمة

لأيلول رائحة الخريف وهسيس الأوراق فوق الرصيف، لأيلول قشعريرة الغروب وانحناءة الغريب على عكازة الذاكرة، لأيلول رائحة مطر لم يأت ووداع السراب على حافة الريح، لأيلول ذاكرة العشاق عن همس الأوراق بأسرار الحب على قارعة الهواء، لأيلول كل المعاني التي تستجدي دمعاً وذكرى وخيطاً دفيناً يرتق محطات من الألم ليعيد تشكيل الحزن في أرواحنا.

أيلول في اللغة السريانية يعني النواح أو العويل، ويقال إنه في هذا الشهر كانت تقام طقوس النواح والبكاء على موت الإله تموز، ربما الأنين الذي يختبئ بريح أيلول هو من أوحى بهذا الحزن وهذا الاسم وتلك الطقوس، ربما الريح المبللة بالرحيل، أو الشمس المجللة بوعد المطر، ربما حزن الإنسانية الدفين من حمّل أيلول كل هذا الأسى. أيلول يرمي بوجهي كل الأوجاع، أراه يولول ويبكي على من راحوا ومن رحلوا، أيلول حزن فلسطيني على ظهر غيمة، أيلول يعود مبللاً كل عام بدماء ساعة المجزرة، أيلول يوقظ فيّ أسطورة شعب يُقتل ولا يموت، يوقظ خجل الولادة في زمن الحزن الطويل، أيلول يرمي رومانسية تساقط ورق الخريف عن ظهره ويشعل قناديل الألم في الذاكرة الفلسطينية، يمر على فتيل الذكريات ويذكي وجع الخريف بعيداً عن رومانسية المعنى، ويمد يديه قريباً من عذابات الأمس ليلمس الوجع الممتد حتى الساعة.

ففي هذا الشهر، شهر أيلول/سبتمبر عام 1920 تم إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين من قبل عصبة الأمم المتحدة بشكل رسمي بناء على وعد بلفور، ومنذ تلك اللحظة بدأ الألم ينسج حكاية الفلسطيني يوماً بيوم وساعة بساعة، فصارت أقدار الفلسطيني مشرعة لأبواب الريح، وغيّر ذاك الأيلول حاضر الفلسطيني ومستقبله، فصار ثائراً ولاجئاً وفدائياً وشهيداً وسجيناً ومعتقلاً ومطارداً ومهاجراً ومحاصراً، وصار كل ما هو الآن. رغم تلون ورق الخريف في أيلول وبعثه في الروح شفافية صرخة الولادة أو رهبة شهقة النهاية، إلا أنه ارتبط في الذاكرة الفلسطينية باللون الأسود، ارتبط بفاجعة الموت، عندما تدحرج القلب على منعرجات الحزن في عمان وبكت الروح على أطراف أحراش جرش، حين سالت الشعارات ليضيع المعنى على قارعة الدم والعبث، ومنذ ذاك الوقت صار أيلول أسود. حمل أيلول حزنه وسواد لونه ورحل من عمان إلى بيروت، فاستفاق على ذلك النواح القادم من تل الزعتر مع نهايات شهر آب/اغسطس وأُثقل من حمل البدايات وهي تنتشل آخر الآهات المحمولة على جناح حمامة فقدت صغارها على سطح بيت في تل الزعتر، وببدايات مذيلة بعويل أمهات لم يشفع لهن نزيف العمر على عتبـــات الفـقـر في مخيم «ينجب زعتراً ومقاتلين»، لقد استقبل أيلول كل ذلك الألم من نهايات آب عام 1976، فطبع الذاكرة بما يؤكد وضوح الموت أمام سماكة لثام القاتل.

في السابع عشر من أيلول عام 1978 ارتسمت اتفاقية كامب ديفيد خذلاناً على وجه خريف شاحب، عندما وقف يوسف وحيداً في عتمة البئر ونظرات عينيه على إخوة تنصلوا من رابطة الدم وغيروا الأسماء والكناية، ليصيغوا ما يجعل العدو صديقاً والتاريخ نشازاً والجغرافيا مجرد خطوط على أوراق ملت اللعب بالكلمات.

لم ينع أيلولُ آبَ تل الزعتر، ولم يسر في جنازته فقط، لم يبك خذلان الإخوة بعد اتفاقية كامب ديفيد، بل انفجر ألماً ودمعاً وصراخاً وعويلاً، عندما ارتبط اسمه بما جرح الروح على حافة الصفيح في صبرا، وأدمع القلب على عتبات الانتظار في شاتيلا، ارتبط اسمه بأكوام الموت المعلق على حافة الفقر فوق جدران بيروت والمجزرة، ارتبط اسمه بما لا يعطي الروح معنى غير الألم عندما حل السادس عشر من أيامه من عام 1982 مثقلاً بالدماء والذكريات تسيل في شوارع الفقر وأبجديات الحنين إلى وطن رسمه الفلسطينيون فوق رمش العين. ولكي لا تأخذ نعمة النسيان مجراها ويستعيد أيلول ورقه الأصفر وأغاني الحب وهمس العشاق، جاء الثالث عشر منه ليهدم التاريخ ويشوه الجغرافيا بمجزرة سياسية اغتالت نضالات وتعب وشقاء شعب مل الموت وانهكه ضياع النهايات لترميها بين سطور أوراق اتفاقية أوسلو عام 1993. ولأن الشعب الفلسطيني هو شعب احترف نبش الأمل من بين براثن الموت وتعود أن لا يستسلم لنواح الحزن فوق مساءات أيلول، كان لا بد له أن يعثر على ما يمد الروح بخيط أمل رسمته انتفاضة عام 2000، عندما هب الفلسطينيون كي يكتبوا شهر أيلول استثناء يعينهم على الوقوف والمضي إلى المستقبل.

يأتي أيلول من الذاكرة الجمعية للفلسطينيين محملاً بعبء السنين وقلق اللحظة وحكايات اللجوء المغلفة بقشعريرة آخر المساءات وكآبة الفقر في زوايا الملصقات، أيلول هو شفافية الحزن لحبيبة لوحت على أمل لقاء لم يتم، لأخت مازالت ترسم لون البحر لكي لا تقطع الأمل بالميناء، أيلول لوحة السنين رسمت أخاديد الدمع على وجه أم وخشونة الصبر على جبين أب. أيلول يا أيها المحمل بكل ذاك الحزن أعد ترتيب أيامنا بذاكرة تمحي هذا الأسى وتحيي رائحة التراب ساعة المطر فينا، أيلول أسقط أوراقك كي نكنس الذاكرة من الحزن المقيم، انفخ ريحك وبعثر همنا، دعنا نطارد الأحلام على صهوة الغيوم، كن وعداً للقاء والمطر فقد أثقلت علينا كثيراً بحزنك.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *