
مرت الذكرى الثلاثون لتوقيع اتفاقية أوسلو في حديقة البيت الأبيض يوم 13 أيلول/سبتمبر 2013. ثلاثون سنة أفرزت واقعا جديدا مغايرا لما كان على الأرض في تلك الأيام. القيادة الفلسطينية تعاملت مع الاتفاق بشكل جدي وحاولت أن تضبط الأمن لتقنع إسرائيل بأهليتها لبناء الكيان الفلسطيني المقبل «الدولة حسب السردية الرسمية». الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان قامت بتمويل السلطة لبناء المؤسسات ودفع رواتب الموظفين وتعزيز قوات الأمن ومساندة منظمات المجتمع المدني ودعم الانتخابات، أما إسرائيل فكانت أجندتها مختلفة تماما. لقد عملت بكل امكاناتها لمنع قيام دولة فلسطينية أو كيان فلسطيني مستقل عن طريق توسيع الاستيطان وتمكين المستوطنين وتوسيع الاعتقالات وشن الحروب والإفراط في العنف. وقد سهل ذلك وصول اليمين المتطرف لسدة الحكم بعد اغتيال اسحق رابين أحد الموقعين على الاتفاق.
خمس اتفاقيات
يجب أن ننوه أولا أن هناك خمس اتفاقيات وليس واحدة. فبالإضافة إلى «اتفاق إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي» عام 1993 تبعته اتفاقية غزة وأريحا (1994) فاتفاقية باريس الاقتصادية (1994) وأوسلو الثانية (1995) وآخرها اتفاقية واي ريفر (1998). اتفاق باريس الاقتصادي كان خطيرا جدا حيث صاغه الإسرائيليون لتأمين ربط دائم للاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وفي نفس الوقت التخلص من مسؤولية الاحتلال والشعب الواقع تحت الاحتلال. هذه الاتفاقيات لم تنفذ لأنها مدعومة من قوة كبرى تختبئ في أبراجها العاجية وتعمل على صياغىة الملف الفلسطيني-الإسرائيلي.
وأود أن أشير إلى تقرير مهم نشرته «لجنة الارتباط الخاصة» التي تتلقى تقارير الأمم المتحدة وتتابع الأمور على الأرض وتراقب مدى التزام الأطراف بما جاء في اتفاقيات أوسلو جميعها. وأستند إلى هذا التقرير الذي صدر بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر الحالي لأقدم قراءة موضوعية حول حصاد أوسلو بعد ثلاثة عقود.
عام 2011 بعد ما يقرب من عشرين عامًا من أوسلو، أعلن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة أن السلطة الفلسطينية جاهزة لإقامة الدولة، وأشادت لجنة الارتباط الخاصة بجهود بناء الدولة الفلسطينية باعتبارها «قصة نجاح دولية رائعة». وبعد 12 سنة من ذلك التقييم أصبحت تلك الإنجازات في مهب الريح وتتعرض لخطر كبير.
وتحلل لجنة الارتباط الدولية الإخفاقات التي أدت إلى شبه انهيار العملية السياسية للعديد من الأسباب. فلا تزال قضايا «الوضع الدائم» الرئيسية في اتفاقيات أوسلو من دون حل، ولا تزال احتمالات التوصل إلى حل عن طريق التفاوض بعيدة المنال. إن مشروع بناء الدولة الفلسطينية، الذي حشد أعضاء لجنة الارتباط الخاصة حول هدف مشترك والذي استثمر من أجله رأس مال سياسي ونقدي كبيرين على مدى ثلاثة عقود، يواجه تحديات كبيرة. تصاعد العنف والهجمات في الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا سيما في الضفة الغربية، وفي أراضي 48 المحتلة، والتصعيد المتكرر في قطاع غزة، والخطوات الأحادية المستمرة، بما في ذلك التقدم الاستيطاني على نطاق غير مسبوق، والتفتت المادي العميق للأرض الفلسطينية المحتلة الناتج عن التوسع الاستيطاني، والانقسام الفلسطيني، والقيود المفروضة على الوصول والتنقل، والقيود المفروضة على استخدام الفلسطينيين للأراضي، لا سيما في المنطقة «ج» والتقلص المستمر في الحيز المالي المتاح للسلطة الفلسطينية لتلبية احتياجات الفلسطينيين، كلها ساهمت في دوامة الهبوط على الأرض، ما قوض الجهود المبذولة لاستعادة الأفق السياسي.
توثيق التحولات
– على مدى العام ونصف العام الماضيين، سعى مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص في تقاريره المتعاقبة إلى لجنة الارتباط الخاصة إلى توثيق هذه التحولات واقتراح طريقة للمضي قدمًا. ففي أيار/مايو 2022 تطرق مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة في الشرق الأوسط إلى الترابط المتزايد بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي وحاجة الطرفين إلى تحديث بروتوكول باريس وإشراك بعضهما البعض في إنشاء إطار تنظيمي على كلا الجانبين قادر على إدارة هذه العلاقة الاقتصادية. واتخذ التقرير الصادر في أيلول/سبتمبر 2022 نقطة انطلاق من إعلان «الاستعداد للدولة» في عام 2011 ووصف الفجوة الآخذة في الاتساع بين المسار السياسي المتوقف والمسار السلبي على الأرض، من ناحية أخرى، والتقدم المحرز في بناء الدولة الفلسطينية منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 من ناحية ثانية.
– ترتفع معدلات البطالة بشكل خاص في قطاع غزة حيث بلغت 47 في المئة في الربع الثاني من عام 2023 و13 في المئة في الضفة الغربية. ولا تزال معدلات البطالة بين النساء والشباب في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة مرتفعة بشكل مستمر لتصل إلى 40 و42 في المئة على التوالي في عام 2022. ووصلت البطالة بين الشباب في غزة إلى 69 في المئة في عام 2022 و28 في المئة في الضفة الغربية. وهذه الاتجاهات مثيرة للقلق بشكل خاص عند النظر في النمو السكاني. وتقدر السلطة الفلسطينية أنه بحلول عام 2030 سيحتاج الاقتصاد الفلسطيني إلى خلق 630 ألف فرصة عمل فقط للحفاظ على مستويات التوظيف الحالية.
– وصل عدد المستوطنين الإسرائيليين المقيمين في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، إلى أكثر من 700000 من حوالي 300000 بعد وقت قصير من توقيع اتفاق أوسلو، وتوسيع المستوطنات في عمق الضفة الغربية المحتلة يهدد التواصل الإقليمي لدولة فلسطين المستقبل ويزيد من نقاط الاحتكاك العنيف بين المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين. كما أدى تنظيم البؤر الاستيطانية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، والتي كانت غير قانونية أيضًا بموجب القانون الإسرائيلي، والنشر الجغرافي البعيد المدى للمستوطنات، إلى زيادة تواجد قوات الأمن الإسرائيلية وتشكيلها في الضفة الغربية، ما أدى مرة أخرى إلى زيادة المواجهات مع الفلسطينيين وإنشاء الحواجز. إن الأثر الاقتصادي لهذا التطور مذهل، ما يعيق التنمية الاقتصادية الفلسطينية وإمكانية الوصول إلى الأراضي والموارد لا سيما في المنطقة «ج». وهذا يهدد جدوى المبادئ المعتمدة دوليا المتعلقة بالاقتصاد والأرض والأمن. وكانت خطة «السلام من أجل الازدهار» التي طرحتها الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب في عام 2020 انحرافًا ملحوظًا ولم تكن هناك محادثات مباشرة بين الطرفين نتيجة لذلك. وحدد مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي وجود 331000 مستوطن إسرائيلي يعيشون داخل الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة في عام 1997. وبحلول عام 2022 كان هناك ما يقدر بـ 741080 مستوطنًا إسرائيليا داخل الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
– إن سيطرة حماس على قطاع غزة والإغلاق الإسرائيلي للقطاع، أديا إلى تعزيز الانقسام الفلسطيني عام 2007؛ والاتجاهات السلبية على الأرض، بما في ذلك التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وزيادة النشاط العسكري الفلسطيني. كما ساهمت هذه الظاهرة في انخفاض دعم المانحين الدوليين وتزايد الاحتياجات الإنسانية، ما أدى إلى تحول في ميزان تخصيص الموارد من مساعدات التنمية إلى المساعدات الإنسانية.
– وصل العنف بين الطرفين إلى مستوى مرتفع آخر، بما في ذلك زيادة النشاط المسلح الفلسطيني، في العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، وفي أعمال العنف المرتبطة بالمستوطنين، مع تسجيل أكبر عدد من الضحايا بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. والتأثير المشترك هو الضغط الهائل على السلطة الفلسطينية والمؤسسات الفلسطينية لتقديم الخدمات في بيئة متزايدة الصعوبة بموارد أقل، وتقلص المساحة – سياسياً وجغرافياً – والمزيد من الناس الذين يتعين عليهم خدمتهم. في حين تم توضيح هذه الديناميكية بشكل كامل في التقريرين الأخيرين لمكتب منسق الأمم المتحدة الخاص، فإن هذا القسم يوفر سياقًا إضافيًا وتحديثات في مجالات التعليم والصحة والمساعدة الاجتماعية والمياه.
تهويد منظم متصاعد للقدس
في المحصلة تمسكت القيادة بهذا الاتفاق والاتفاقات التي تلته. وكانت تشاهد استمرار الاستيطان، وبناء الجدار العازل، وفتح الطرق الالتفافية وحصار غزة وزيادة هائلة في عدد الضحايا، وانتشار الحواجز في كل مكان، وتهويد منظم متصاعد للقدس، وشن خمس حروب واحدة في الضفة (2002) وأربعة في غزة (2008 و2012 و 2014 و2021). ومع هذا ظلت القيادة متمسكة بهذا الاتفاق رغم اتضاح الخسائر التي ألحقها بالشعب الفلسطيني. وكل التهديدات التي أطلقتها بإلغاء الاتفاق والانسحاب من الاعتراف بإسرائيل وحل السلطة، ثبت بالملموس أنها مناورات لامتصاص نقمة الناس.
لقد آثرت القيادة مصالحها الذاتية على مصالح الشعب الفلسطيني، والنتيجة هو ما نراه الآن من انقسام فلسطيني وتطبيع عربي وانكفاء دولي. لقد آن الآوان لإعلان وفاة الاتفاق رسميا دون رجعة والانطلاق نحو استراتيجية جديدة تقوم على أساس ما يتفق عليه الشعب الفلسطيني من خلال انتخاب مجلس وطني جديد على أساس ميثاق 1968.
عن القدس العربي