أهي هبة أم انتفاضة أم تباشير ثورة؟ ( 2 )
لعل أكثر ما يثير الانتباه في الوضع الفلسطيني سرعة الالتحام بين كافة مكونات الشعب تحت كثافة نيران العدو، فيخيل للمرء أن كيّ الوعي الفلسطيني بنيران العدو قد اكتمل . ذلك أن لهيبه لم يقتصر هذه المرة على قطاع غزة وإن كان الأشد. بل شمل الكيّ لأول مرة وعي فلسطينيي 1948 الذين يشهدون حاليا أعنف هجمة إرهابية يشنها عليهم جيش الدولة اليهودية – وفقا لتعريفها في قانون القومية – وعصابات مستوطنيها تحت شعار “فرض القانون والنظام ” . وتتكثف في القدس وضواحيها حيث تتسارع وتائر التطهير العرقي في أحيائها تباعا ، وتشتد في حي الشيخ جراح وسلوان. وتغطي كافة مناطق الضفة الغربية بما في ذلك مركز سلطة الحكم الذاتي في رام الله، التي تشهد اغتيال الفتية الفلسطينيين على مرأى ومسمع القيادة وقوى الأمن الفلسطينية.
وكان يعتقد أن ما حدث في الجولة الأخيرة – التي ما تزال وقائعها تجري على امتداد الوطن الفلسطيني، وإن هدأت كثافة نيرانها بعد وقف اطلاق النار الهش وغير المشروط في محور غزة – قد أنضج الوعي الجمعي الفلسطيني . فباتوا على يقين تام – بعد أكثر من قرن من الصراع مع الغزاة الصهاينة – بأن الفلسطينيين جميعا في دائرة استهداف جيوش مستوطني المستعمرة الصهيونية، بغض النظر عن أصولهم الإثنية وانتماءاتهم الدينية والعقائدية والسياسية والتنظيمية والحزبية وفئاتهم العمرية. وأن العدو الصهيوني العنصري لا يستثني حتى المطبعين والمنسقين الأمنيين منهم والمستسلمين لقدرهم . بل ويستهدف حتى من يتشابه من اليهود مع الفلسطينيين في الشكل ، كما حدث مع الطبيبة اليهودية في القدس الغربية مؤخرا، عندما انقض عليها المستوطنون المتوحشون وجنود الجيش بالعصي والسكاكين فطعنوها وشوهوا وجهها. فالمجمع الاستعماري الصهيوني العنصري، يرى في الفلسطينيين جميعا نقيضا وخطرا وجوديا ينبغي التخلص منه .
لكن أكثر ما يثير الاستغراب في الوضع الفلسطيني سرعة تفكك لحمة الطبقة السياسية الفلسطينية حتى قبل أن يخبو اللهيب، فنرى مكوناتها كافة، من كان في أتون النار ومن توارى طيلة المواجهة وافتقدنا حضوره الصاخب المعتاد خصوصا عند إصدار المراسيم الانتخابية بالإجراء والإلغاء . فاستعجلوا العودة إلى المناكفات حتى قبل أن تجف دماء الشهداء والجرحى النازفة بغزارة في جنوب الوطن وعلى امتداده . وباتوا يتسابقون في اثبات أهليتهم لإدارة موارد العون التي اعتاد رعاة إسرائيل تقديمها لإعادة الإعمار بعد جولات القتل والتدمير المتتابعة ، لإزالة الأنقاض وتعمير ما يحتاجون لقصفه مجددا في الجولة التالية، بل إن أكثر ما يثير الدهشة والحنق في الوضع الفلسطيني امتهان جميع السياسيين وبعض المثقفين مهنة التحليل ببراعة العلماء والخبراء، التي تتجلى مظاهرها بالقفز السريع إلى استنتاجات قاطعة لنتائج المواجهة، والوصول الى استخلاصات توجهها أهداف سياسية ذات علاقة بالصراع الاستقطابي بين مراكز القوى الفلسطينية، في انتهاك فج لحرمة الشهداء والجرحى وعذابات المنكوبين والمشردين، ودون التبصر بالأخطار الجسيمة لتداعيات ما يفعلونه على الكل الفلسطيني: سواء بالتهويل في تقييم نتائج المواجهة العسكرية تحت وقع المفاجأة وتأثير العواطف والرغبات ، ما يقود إلى التضليل واستسهال الوقوع في فخ الاستدراج لخوض مغامرات سياسية أو عسكرية غير محسوبة، تجهض جل ما تم إنجازه من مكتسبات مهمة، يتوجب حمايتها ومنع تبديدها والعمل على تكريسها والمراكمة عليها، أو بالتشكيك بإنجازات عظيمة عبر مقارنات حسابية سطحية تبرز الاختلال الهائل بين الخسائر المادية الفلسطينية والاسرائيلية. وتجاهل حقيقة أن ما من ثورة منتصرة في التاريخ الإنساني المدون، تقاربت فيها الخسائر المادية بين المستعمر والشعب الواقع تحت الاستعمار في جولات الصراع المتتابعة . وتعمد إغفال الانعكاسات الإيجابية ذات الأبعاد الاستراتيجية للمواجهة العسكرية البطولية على مستقبل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، حتى مع انخفاض فاعلية الصواريخ البدائية الفلسطينية محلية الصنع، التي غطت سماء المستعمرة الصهيونية واخترقت حصون القبة الحديدية – التي تشكل أحدث ثمار التعاون بين الصناعات العسكرية والامريكية – ولو لم تحدث خسائربشرية ومادية كبيرة قياسا بما ألحقته الأسلحة الاسرائيلية الغربية المتطورة بالشعب الفلسطيني . فحصيلة المواجهة تحتاج إلى قراءة متبصرة وتتبع حثيث لجهة تأثيرها في تنمية الوعي المعرفي للشعبين الفلسطيني والاسرائيلي أساسا وفي إيقاظ وعي الشعوب العربية والإسلامية. وفي تنوير الوعي المعرفي لشعوب العالم أجمع بطبيعة الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي وجذوره العميقة التي تعود إلى بداية الغزوة الاستعمارية الغربية الصهيونية منذ أكثر من قرن . ويحتاج تناولها إلى جهود بحثية تتناول نتائج ما تتوصل إليه في مقالات أخرى.
يزيد من المخاطر أعلاه غياب المرجعيات والمعايير المشتركة التي يمكن أن يحتكم إليها الكل الفلسطيني في تحديد وقياس الإنجازات والإخفاقات، بما يسهم في بلورة توافق فلسطيني حول المعايير الموضوعية التي يمكن الاحتكام إليها للتمييز بوضوح بين النصر والهزيمة .
وقبل المضي قدما في الإجابة على السؤال المطروح في عنوان المقالات التي ستتابع للإسهام في بلورة توافق عام حول طبيعة الهبة الشعبية الفلسطينية وإمكانية ومستلزمات تحولها إلى انتفاضة شاملة تؤسس لثورة تحررية فقد وجدت لزاما البدء بتعريف المصطلحات لتحديد إطار مرجعي ننطلق منه جميعا في الحوار الفلسطيني، بغية إثرائه باختلاف الرؤى والاراء وتفعيل أدواته وتوظيف مستخلصاته في خدمة النضال التّحرُّري الفلسطيني .
فالهبة والانتفاضة والثورة أساليب نضالية تلجأ إليها الشعوب لتحقيق أهداف مرغوبة عند انسداد آفاق بلوغها . و تميز العلوم الاجتماعية بين: الهبة الجماهيرية وهي ثورة قصيرة الأمد، تندلع عندما تصل الضغوط إلى مستوى يصعب معها استمرار تحملها فتتمرد على الواقع سعيًا للتغيير. غير أن الهبة تبقى محكومة باعتبارات وحدود يتعذر تخطيها، وسرعان ما تخبو إذا ما نجحت القوى المهيمنة في استيعابها بنزع الفتيل وتخفيف وطأة الضغوط التي تسببت بإخراج الجماهير إلى الميادين.
الانتفاضة الشعبية تفوق الهبة قوة وعمقا وشمولية ، وتلجأ إليها الشعوب من أجل تغيير واقعها السيء عبر المواجهة المستدامة لتقويض مرتكزاته وخلق وقائع جديدة تتراكم مفاعيلها للتأسيس لمستقبل مغاير مرغوب . فلا تتقيد بحدود مكانية أو زمانية ، وتتوقف بتسوية سياسية مع القوى المهيمنة تحفز الأمل بحدوث التغيير المأمول.
الثورة مفهوم لتغيير شامل يسعى إلى تفكيك النظام القديم وفرز منظومة جديدة للحلول مكانه عبر إحداث تغيرات جذرية وعميقة تطال الرؤى ومنظومة القيم والمبادىء والمناهج والسياسات والقوانين والبنى التنظيمية والمؤسسية. ما يجعلها حدا فاصلا بين النظام القديم والنظام الجديد.
ومنذ بدء الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية لفلسطين في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين شهد الشعب الفلسطيني على مدى أجياله المتعاقبة من الهبات والانتفاضات والحروب والثورات ما لم يشهده شعب آخر في التاريخ الحديث.
ورغم أنها أخفقت حتى الآن في تحقيق الانتصار على الغزاة وتحرير فلسطين، إلا أنها لعبت دورا مهما في إبقاء جذوة النضال التّحرُّري الفلسطيني مشتعلة، وأسهمت في إبطاء سرعة تنفيذ مراحل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، ومنعت استكماله بإفشال مخططاته الهادفة لاقتلاع كامل الشعب الفلسطيني من أرض فلسطين الانتدابية كي يكتمل انتصاره الذي يراه ممكنا فقط، باستنساخ النماذج المماثلة الناجحة في امريكا الشمالية واستراليا ونيوزيلندا. عندما نجح الغزاة المستوطنون بإبادة الشعوب الأصيلة وتدمير حضارتهم واستئصالهم من التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا. ما مكنهم من الاستقرار الآمن فوق أنقاضهم.
غير أنه بالرغم من نجاح المشروع الاستعماري الصهيوني بإقامة إسرائيل فوق أنقاض الشعب الفلسطيني داخل الجزء المحتل عام 1948، وتوسعها لاحقا في عام 1967 وإحكام سيطرتها على كامل فلسطين.
ما يزال يسكن قادة المشروع الاستعماري الصهيوني ورعاته الدوليين هاجس تكرار ذات المصير الذي آل إليه المشروع الاستعماري الاستيطاني الإفرنجي/ الصليبي / في فلسطين قبل نحو عشرة قرون. والاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر في مطلع ستينيات القرن الماضي.
وما يزال هذا الهاجس المحرك الرئيس لسياساتهم وخططهم وسلوكياتهم اتجاه الشعب الفلسطيني، فيواصلون استهداف كافة مكوناته داخل الوطن وفي مناطق اللجوء بالإبادة والاقتلاع والتغييب والتهميش. لأنهم يدركون أن الصراعات ذات الطابع الوجودي التي يستغرق حسمها زمنا طويلا يمتد لأجيال. وتتعذر فيها الحلول العسكرية كالصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. تتقلص فيها أهمية الفوارق في موازين القوى. ويمكن للطرف الضعيف الذي يمثله الشعب الأصيل الانتصار عند تمكنه من الاحتفاظ بوجود ديموغرافي وازن في مركز الصراع، وعندما ينجح بتعزيز هذا الوجود بتوفيرمقومات الصمود المقاوم الذي يمكنه من إدامة الاشتباك مع العدو المتفوق بالقوة والقدرة ، وعند تمكنه من تفعيل قدراته وخفض أعباء مقاومته فيواصلها ويمنع استقرار عدوه. ويرفع كلفة بقائه، ويقلص جدوى استمرار داعميه ماديا وسياسيا ودبلوماسيا وأخلاقيا فينفضوا عنه تباعا، ما يؤسس لهزيمته .
فقدرة إسرائيل الذاتية وتفوقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، وتفردها بامتلاك السلاح النووي على أهميته الفائقة، غير كفيل لوحده بحماية بقائها المشروط باحتضان القوى الدولية المتنفذة لإسرائيل. لأهمية دورها الوظيفي في الحفاظ على مصالحها في المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة وإخضاع شعوبها. والذي شكل العامل الحاسم في إنشاء إسرائيل وإدامة بقائها طوال العقود السابقة. وما يزال هذا الاحتضان العامل المرجح لبقائها يعكسه الدعم اللامحدود الذي ما تزال تقدمة القوى الدولية المتنفذة لإسرائيل المادي والسياسي والديبلوماسي، واستثنائها من نفاذ الاتفاقات والقوانين والقرارات الدولية، بما في ذلك القانون الانساني، وتوفير الحصانة لها بإعفائها من المساءلة القانونية والمحاسبة الجزائية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تواصل ارتكابها بحق الشعب الفلسطيني للعقد الثامن على التوالي. وقد سبق للرئيس الامريكي بايدن وصف حاجة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الغربيين لإسرائيل بقوله: ” لو لم تكن إسرائيل موجودة ، لكان على الولايات المتحدة الامريكية أن تخلق إسرائيل كي تحمي مصالحها “.
وعليه ، فإن الحكم على مدى نجاح المسيرة الكفاحية الفلسطينية المتواصلة للقرن الثاني على التوالي، لا يقاس فقط كما قد يعتقد البعض بمعيار تحرير فلسطين من الغزاة المستعمرين الصهاينة وعودة لاجئيها إلى وطنهم وتقريرمصيرهم فيه ، والذي سيبقى الهدف الاستراتيجي بعيد المدى، وإنما أساسا في مدى النجاح الذي تحدثه الجولات الكفاحية الفلسطينية المتتابعة في التأثير على جدوى وجود دولة إسرائيل بخصائصها الراهنة، بالنسبة ليهودها أولا، وليهود العالم ثانيا، ولرعاتها الدوليين ثالثا، ومدى التقدم باتجاه إفشال الدور الوظيفي لإسرائيل، اليهودي الخاص، والإمبريالي العام، وهو ما سيكون محور المقال القادم.
(الصورة الرئيسية للمقال من موقع رام الله الاخباري)
تماماً، أوافقك الرأي في هذه الخلاصة الموصلة بالغة الأهمية: “الحكم على مدى نجاح المسيرة الكفاحية الفلسطينية المتواصلة للقرن الثاني على التوالي، لا يقاس فقط كما قد يعتقد البعض بمعيار تحرير فلسطين من الغزاة المستعمرين الصهاينة وعودة لاجئيها إلى وطنهم وتقريرمصيرهم فيه ، والذي سيبقى الهدف الاستراتيجي بعيد المدى، وإنما أساسا في مدى النجاح الذي تحدثه الجولات الكفاحية الفلسطينية المتتابعة في التأثير على جدوى وجود دولة إسرائيل بخصائصها الراهنة، بالنسبة ليهودها أولا، وليهود العالم ثانيا، ولرعاتها الدوليين ثالثا، ومدى التقدم باتجاه إفشال الدور الوظيفي لإسرائيل، اليهودي الخاص، والإمبريالي العام”