أميركا الكبرى إذ تدافع عن أميركا الصغرى “إسرائيل”
منذ بداية حرب إسرائيل الوحشية ضدّ فلسطينيي غزة أبدت إدارة بايدن دعماً غير محدود لها، فهي اشترت بسرعة روايتها عن تلك الحرب، من دون أي تفحّص، علماً أنّها سرعان ما تكشّفت عن أكاذيب كثيرة وكبيرة، وعن تلاعب مقصود بالرأي العام، وفقاً لتقارير إسرائيلية.
وكانت تلك التقارير كشفت أنّ طائرة عسكرية إسرائيلية استهدفت الحفل الفني الحاشد لمراهقين، في ظلّ الاضطراب الناجم عن هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وأنّ بعض وحدات من الجيش الإسرائيلي قصفت منازل مستوطنين في غلاف غزة، للظن أنّ مقاتلين من “حماس” بداخلها، وهو تكرّر مؤخّراً في التسرّع بقتل ثلاثة إسرائيليين في حي الشجاعية، كانوا معتقلين لدى “حماس”.
أيضاً فقد شمل ذلك انفضاح كذب إسرائيل في شأن وجود أنفاق تحت مستشفى الشفاء، أو غيرها، والذي كشف تعمّدها تقويض المنظومة الصحية في غزة، في سياق سعيها لتدمير كل البنى التحتية في القطاع، مع الطرق ومحطات الكهرباء والمياه ومع المدارس والجوامع وأماكن الإيواء، وحتى المقابر، لتحويله إلى منطقة غير صالحة للعيش.
بدا أيضاً، تهافت الإدارة الأميركية واضحاً في منحها إسرائيل “حق الدفاع عن النفس”، بل والحق الحصري، باعتبارها ضحيةً لهجوم حركة إرهابية، في تجاهل لطبيعة إسرائيل كدولة محتلة لأراضٍ فلسطينية، وفقاً للمعايير الدولية التي تعترف بها (إذا صرفنا النظر عن إقامتها عام 1948 على حساب الشعب الفلسطيني)، كأنّها تتعاطى مع الفلسطينيين كأشخاص مجهولي الهوية والتاريخ، أو كطارئين على المكان والزمان، أو كشعب فائض عن الحاجة ليس له حقوق، وهذا هو مغزى الوصم بالإرهاب، الذي يوسم الشعب الفلسطيني كله، أو فلسطينيي غزة، وفقاً للمعايير الإسرائيلية، علماً أنّ الولايات المتحدة لا تعرّف “حماس” فقط كمنظمة إرهابية، إذ منظمة التحرير الفلسطينية هي كذلك، أيضاً، بحسب قانون الكونغرس الأميركي (1987)؛ والمشكلة أنّ قيادة المنظمة كان سها عن بالها، أو تغاضت عن، طلب إلغاء هذا القرار قبل الحضور إلى البيت الأبيض في واشنطن لتوقيع اتفاق أوسلو في حينه (1993).
إنّ خلفية النظرة الأميركية لحجب حق الدفاع عن النفس عن الفلسطينيين، ومنع توصيفهم كضحايا، تكمن في عدم اعترافها بهم كشعب له حق السيادة في أرضه، في نظرة استعمارية واستعلائية وعنصرية، تقسّم العالم إلى أخيار وأشرار، وعالم النور وعالم الظلام، وإنسان الحضارة وإنسان البربرية، لذا فأي شيء يأتي من الأولين ينبغي قبوله، مهما تبين عن إضرار بالآخرين، مع اعتبار أية ردّة فعل من الآخرين للدفاع عن ذاتهم، وعن حقوقهم كبشر، وضمنها حقهم في الحياة والحرّية والعدالة والمساواة، بمثابة تجرؤ على الحضارة، وعمل وحشي، أو إرهابي، يفترض قمعه، واستئصاله، وهذا هو منطق بايدن، وإدارته، في الموقف من عدم وقف الحرب نهائياً، إلى حين اقتلاع “حماس”، أو تفكيكها، أو فرض الاستسلام عليها، مع السماح لإسرائيل بما تقوم به كي لا يعود أحد يفكر بالقيام بما قامت به في المستقبل.
لنلاحظ أنّ موقف بايدن هو ذاته موقف رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، الذي أجاب عن سؤال لعضو في مجلس العموم، مؤخراً، في عدم جواز القتل العشوائي للمدنيين، بأنّ “لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها، والتأكّد أنّ شيئاً كهذا (عملية حماس) لن يحدث لمواطنيها ثانية… الكثير من المدنيين يموتون بالطبع، لكن هذا يختلف عن القول إنّ القانون الإنساني الدولي انتُهك”! وهذا الحديث جرى بعد 75 يوماً من تلك الحرب الوحشية، وبعد 100 ألف ضحية من الفلسطينيين، قتلى وجرحى ومعتقلين ومفقودين تحت الركام، كأنّ هؤلاء ليس لهم اعتبار، ما يعني أنّ المشكلة، عند بايدن وسوناك (وبعض القادة الغربيين في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا)، فقط في هجمة “حماس” يوم السابع من تشرين الأول، ووجود عشرات من الإسرائيليين كمحتجزين أو رهائن لديها، أي أنّ كل الشعب الفلسطيني ليس له حساب في هذه المعادلة، رغم معاناة 75 سنة للاجئين الفلسطينيين، و56 سنة من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، ورغم محاصرة أكثر من مليوني فلسطيني في غزة طوال 17 عاماً.
ما كان لإسرائيل مواصلة حربها، التي توصف كحرب إبادة ضدّ فلسطينيي غزة، أو كحرب تطهير عرقي، لولا وقوف الإدارة الأميركية معها، فإلى جانب تبنّي روايتها، دعمتها بالسلاح والذخيرة والمال، وعملت على تغطيتها سياسياً، فحشدت تأييد الدول الغربية لها، ومنعت إصدار أي قرار من مجلس الأمن الدولي يدين تلك الحرب او يدعو لإيقافها نهائياً، رغم التبعات السياسية والأخلاقية والأمنية والاقتصادية التي يفرضها ذلك على الولايات المتحدة والدول الغربية، وعلى صورتها في العالم، وضمنه التشكّك بالرسالة التي تدّعيها كحامية للقيم الليبرالية الديموقراطية، وقيم الحرّية والعدالة والمساواة، على الصعيد العالمي.
وفي المحصلة، فإنّ مجتمعات الدول الغربية أخذت على حكوماتها التلاعب بالرأي العام ببث رسالة محابية لإسرائيل، وتغطية جرائمها ضدّ الفلسطينيين، ومحاولاتها نزع شرعية نقد إسرائيل أو تجريم نقدها، بمساواة اللاسامية بمعاداة إسرائيل، باعتبار ذلك مصادرة لحرّية الرأي، وكتقييد للحق في المعارضة.
لا يأتي تصرّف الإدارة الأميركية من فراغ، فهي تخلّت، منذ زمن طويل، عن دورها كراعٍ نزيه، وكطرف محايد، وكضامن موثوق، لعملية التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين (وهو الوهم الذي راهنت عليه القيادة الفلسطينية قبل ثلاثة عقود)، فهي لم تفعل شيئاً لإلزام إسرائيل بالاستحقاقات المطلوبة منها في عملية أوسلو (1993)، ولا لوقف الاستيطان، ومحاولات تأبيد الاحتلال، في الضفة، ولا حتى لكبح جماحها في التضييق على السلطة الفلسطينية، والتقليل من شأنها أمام شعبها، أي أنّ إسرائيل تفعل كل ما تفعله في غزة وفي الضفة الغربية، فهي تقتل وتعتقل وتهدم البيوت وتصادر الأراضي، وتشكّل ميليشيات للمستوطنين المتطرّفين للتنكيل بالفلسطينيين، علماً أنّ ذلك يجري في منطقة تديرها السلطة الفلسطينية، التي لديها تنسيق أمني واقتصادي وإداري مع السلطات الإسرائيلية.
في المقابل، يمكن هنا طرح مواقف معارضة لشخصيات يهودية، فهذا نورمان فنكلشتاين، الذي نجا والداه من المحرقة، يرى بما قامت به “حماس” كردّ طبيعي على سياسات إسرائيل، إذ إنّ سجناء في معسكرات الاعتقال (كما كان والداه) اخترقوا البوابات… “والداي كانا سيفرحان بهذا… والداي سيتعاطفان مع الذين اخترقوا بوابات معسكر الاعتقال (غزة) التي دمّرت حياتهم… سألت أمي مرّة كيف كان شعورك إزاء ما تعرّضت له المدن الألمانية خلال الحرب تحت القصف، أجابتني: كنا نشعر أنّه ما دام أننا سنموت فسنأخذ بعضهم معنا… كان من المستحيل أن يقولا كلمة طيبة عن الألمان، باعتبار التجربة التي عايشوها… لذا ظلا يكرهان الذين دمّروا حياتهما”. علماً أنّ الكاتب أكاديمي أميركي، وهو صاحب كتاب: “صناعة الهولوكوست: تأمّلات في استغلال المعاناة اليهودية” (2000). وبرأي جدعون ليفي، فقد “أثبت بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين أنّه من المستحيل سجن مليوني إنسان إلى الأبد، من دون دفع ثمن باهظ… يتحمّل نتنياهو مسؤولية ثقيلة جداً عمّا حدث… علينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين؛ ولكن علينا أيضاً أن نبكي على غزة، التي معظم سكانها هم لاجئون خنقتهم أيدي إسرائيل؛ غزة التي لم تعرف يوماً واحداً من الحرّية” (هآرتس”، 8/10/2023).
أيضاً رفض العديد من المثقفين اليهود، في إسرائيل وخارجها، توصيف إسرائيل لحدث 7 تشرين الأول كهولوكوست، أو كـ 11 أيلول (سبتمبر) الأميركي خاصتها، أو بيرل هاربر إسرائيل، ضمنهم ايلان بابيه وجوديث بتلر وعميره هس، ومؤخراً نشرت الكاتبة الروسية ـ الأميركية (اليهودية) ماشا غيسين، وهي سليلة عائلة نجت من المحرقة (مثل فنكلشتاين)، مقالة في “نيويوركر” عنوانها: “في ظلّ الهولوكوست”، دانت فيها الحرب على غزّة وشبّهتها بغيتو وارسو، معتبرةً “أنّ الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نتعلّم بها من التاريخ هي مقارنته بالحاضر… نحن لسنا أكثر ذكاءً أو أفضل أو أكثر أخلاقية من الأشخاص الذين عاشوا قبل مئة عام. الشيء الوحيد الذي لم يكن لديهم هو الوعي بأنّ المحرقة كانت ممكنة وستظلّ ممكنة. إنّه درس، وليس درساً معقّداً بشكل خاص”… مصطلح “الحي اليهودي” (في وارسو) هو وسيلة أكثر ملاءمة لوصف غزة من “سجن في الهواء الطلق”.
وكخلاصة، فإنّ الولايات المتحدة، في دعمها إسرائيل، تنطلق من مقولة استعمارية تفيد أن “ليس في الشرق للغرب أفضل من الغرب نفسه” (أي إسرائيل)، لا سيما وأنّها لا تجد وضعاً أو نظاماً عربياً فاعلاً، أو يحمّلها أية مسؤولية، إذ تحوّل العرب إلى مجرد وسطاء، أو متفرّجين على إبادة فلسطينيي غزة، كما تنطلق في ذلك من خلفية أنّ إسرائيل هي الأكثر شبهاً لها، بقيامها بوسائل الهجرة والاستيطان والقوة العسكرية وإبادة السكان الأصليين أو تهميشهم، فهذه إسرائيل على مثالها، بمثابة أميركا صغرى في “صحراء” الشرق الأوسط.
عن النهار العربي