أموال المقاصّة كأداة للعقاب السياسيّ
ترتبط الحالة الماليّة للسلطة الفلسطينيّة ارتباطًا وثيقًا بالمتغيّرات والمعطيات السياسيّة، إذ إنّ الاقتصاد الفلسطينيّ مرتبط بالاقتصاد الإسرائيليّ وتابع له، من خلال التحكُّم بالمعابر والحدود وبالسلع المستورَدة، والتحكُّم بالنظام الضريبيّ، وإيرادات الـمُقاصّة، فضلًا عن كونه المسؤول عن صكّ النقود، وذلك نتيجة للاحتلال الإسرائيليّ والهيمنة الاقتصاديّة، ونتيجة للعلاقات المؤطَّرة ضمن اتّفاقيّة أوسلو، وملحقها ﭘروتوكول باريس. فعلى سبيل المثال، جزء كبير من إيرادات السلطة الفلسطينيّة يأتي من أموال الـمُقاصّة، وتستغلّه إسرائيل أداةَ ابتزاز سياسيّة تجاه السلطة الفلسطينية؛ إذ تتلاعب إسرائيل بها وذلك على نحو ما تفعله حين تقوم بتجميد هذه الأموال والامتناع عن تحويلها إلى حسابات السلطة الفلسطينيّة. إلى جانب ذلك، يعاني الاقتصاد الفلسطينيّ من تسرُّب ماليّ متعدّد الأشكال، إمّا نتيجة خرق إسرائيل للاتّفاقيّات، أو لعدم عدالتها تجاه الطرف الفلسطينيّ.
أمعنت الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة في استخدام الأموال الفلسطينيّة (الـمُقاصّة) أداةً للعقاب، من خلال إصدار قرارات غير مسبوقة، من بينها -على سبيل المثال- حجز وتجميد أموال الـمُقاصّة. علاوة على ذلك، بحثت الحكومة الإسرائيليّة إمكانيّة إصدار تشريعات جديدة لإحكام السيطرة على الموارد الماليّة للخزينة الفلسطينيّة. وليس ثمّة أدلّ على ذلك من تصريح وزير الماليّة سْمُوترِيتْش في الـ 18 من كانون الأوّل المنصرم (2023) الذي جاء فيه: “إذا كان هناك من يعتقد أنّنا سنحوّل شيكلًا واحدًا إلى رام الله حتّى يتمكّنوا من تحويله إلى غزّة، فهو لا يعرف المكان الذي يعيش فيه”. يؤكّد هذا التصريح القرار الصادر عن الحكومة الإسرائيليّة في الثاني من تشرين الثاني (2023)، والذي يقضي بحجز المبالغ المخصَّصة لقِطاع غزّة من الموازنة العامّة الفلسطينيّة الآتية من إيرادات الشعب الفلسطينيّ، التي تُقدّر بنحو 5.5 مليار شيكل سنويًّا، أي نصف عائدات الـمُقاصّة، وقرابة 40% من موازنة السلطة الفلسطينيّة.
تجبي إسرائيل أموال الـمُقاصّة بموجب برتوكول باريس، وتصرّ الحكومة الإسرائيليّة على استخدام تلك الأموال أداةً عقابيّة وأداةَ ضغط، على نحوٍ مخالف لبرتوكول باريس الذي أكّد عدم جواز حسم أيّ مبلغ من عائدات الـمُقاصّة، إلّا بتوفير فواتير يُفصَح عنها وتُقدَّم عند التقاصّ، بَيْدَ أنّ الحكومة الإسرائيليّة تتجاهل هذا البَند، وتُمعِن في الحسم والتجميد لأسباب ومواقف سياسيّة انتقاميّة.
تبحث هذه الورقة أثر تشكيل الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة وسياساتها على الإدارة الماليّة للسلطة الفلسطينيّة وعلى هيكل الموازنة العامّة، من خلال تتبُّع القرارات الصادرة بهذا الشأن والأدبيّات ذات العلاقة، وأثرها على تحويلات الـمُقاصّة والخزينة العامّة. تدّعي الورقة أنّ الحكومة الحاليّة تمادت في استخدام العقوبات الماليّة، ووجدت في الـمُقاصّة عدّة قنوات لتنفيذ العقوبات الماليّة، على نحوٍ يفوق استخدامات الحكومات السابقة. تحاول الورقة الإسهام في فهم تبعيّة السلطة الفلسطينيّة الاقتصاديّة للاحتلال الإسرائيليّ.
مقدّمة
يستخدم الاحتلال الإسرائيليّ الـمُقاصّة أداةَ ابتزاز ومقايَضة؛ فهو يقرّر عدم تحويل أموال الـمُقاصّة، أو تجميد جزء منها، بحسب المتغيّرات والمعطيات السياسيّة، ومَصالحه السياسيّة. منذ توقيع اتّفاقيّة أوسلو وبروتكول باريس حتّى الآن، اُحتُجزت أموال الـمُقاصّة تسع مرّات، لفترات زمنيّة مختلفة، ولأسباب سياسيّة متنوّعة. تدرك الحكومة الإسرائيليّة أنّ أموال الـمُقاصّة تشكّل أكثر من ثلثَيْ إيرادات السلطة الفلسطينيّة، دون احتساب الدعم الخارجيّ (علمًا أنّ الدعم الخارجيّ للموازنة العامّة بات لا يشكّل أكثر من 10% من الموازنة العامّة)، وتعادل أموال الـمُقاصّة قيمة فاتورة الرواتب والأجور، وبالتالي فإنّ حجز أو اقتطاع أموال الـمُقاصّة يؤدّي إلى حرمان أكثر من 240 ألف موظَّف ومستفيد (يعادلون نحو 25% من القوى العاملة في السلطة الفلسطينيّة) (رواتب وأشباه رواتب) من دخلهم أو اقتطاع جزء من دخلهم.
مع تصاعد سيطرة اليمين الإسرائيليّ، وتشكيل حكومة يمينيّة متطرّفة برئاسة نتنياهو في بداية العام 2023، تضمّ اليمين الشعبويّ واليمين الكهانيّ والصهيونيّة الدينيّة (المتزمّتة قوميًّا ودينيًّا) والحريديّة، تشدّدت العقوبات والهجمات ضدّ الفلسطينيّين. سارعت الحكومة الجديدة إلى تنفيذ سياسات وتشريعات ترمي إلى تعميق القمع والسيطرة على الفلسطينيّين، وزيادة التبعيّة الاقتصاديّة. من ذلك – على سبيل المثال – تكثيف التحكّم في إيرادات السلطة الفلسطينيّة ورفع المبالغ المجمَّدة أو المحجوزة من أموال الـمُقاصّة، تحت ذريعة أنّها أموال مخصَّصة لدعم عوائل الأسرى والشهداء، فضلًا عن التضييقات والقرصنة والاستيلاء على أموال بعض الأسرى المحرَّرين الذين بلغ عددهم نحو 48 أسيرًا من فلسطينيّي الـ 48 والقدس؛ ومنها التضييقات والعقوبات على البنوك، وغيرها من مشاريع القوانين المطروحة والهادفة إلى التصرّف بالأموال الفلسطينيّة المحتجَزة لدى الحكومة الإسرائيليّة بموجِب القانون الذي أُقِرّ في العام 2018، ويتيح لإسرائيل مَبالغ من أموال الـمُقاصّة.
تختلف رؤية الحكومة الحاليّة في آليّة التعامل مع الأراضي الفلسطينيّة المستعمَرة سنة 1967، ولا سيّما في الجوانب الاقتصاديّة. خلافًا للحكومة السابقة (حكومة بيِنِت) التي كانت تؤمن نسبيًّا بخطّة غودمان حول السلام الاقتصاديّ وتقليص الصراع، لا يؤمن سْمُوترِيتْش (وزير الماليّة في الحكومة الحاليّة) بمبدأ الاقتصاد مقابل الأمن، أو بتقديم أيّ تسهيلات اقتصاديّة، بل – على العكس من ذلك – هو يؤمن بضرورة حسم الصراع وضمّ المناطق (ج)، ويسعى إلى تقليص السلطة الفلسطينيّة إلى حدودٍ دُنيا، وإحكام السيطرة عليها من خلال السيطرة المطَلقة على أموال الـمُقاصّة.
علاوة على ذلك، تستخدم الحكومة الحاليّة قانون مكافحة الإرهاب (2016)، المادّة 56 “الحجز والمصادرة”، البندَيْن ب (3): “الأموال التي يُحصل عليها كمرتَّب أو مكافأة لارتكاب جريمة إرهابيّة خطيرة أو يُقصد بها أن تكون راتبًا أو مكافأة”؛ وَ (ج) الذي يتيح إصدار مذكّرة ضبط إداريّة للحجز على الممتلكات والأموال، ولحسم الأموال التي تُعتبر مكافأة أو أجرًا مقابل تنفيذ مخالفة إرهابيّة. وبناء على هذا القانون، نشرت الحكومة الإسرائيليّة قائمة بأمر حجز الأموال والممتلَكات لمجموعة من الأسرى المحرَّرين من حَمَلة الجنسيّة الإسرائيليّة والمقدسيّين؛ إلى جانب إقدامها على مضاعفة المبالغ المحتجَزة من الـمُقاصّة بذريعة أنّها مخصَّصات للأسرى، أو كتعويض للإسرائيليّين المتضرّرين من العمليّات الفلسطينيّة التي تنفَّذ داخل الضفّة الغربيّة. فضلًا عن هذا، تسعى الحكومة الحاليّة إلى تشريع قوانين تتيح لها استخدام أموال الـمُقاصّة بعد تجميدها.
وعلى الرغم من أنّ نتنياهو رئيس الوزراء في الحكومة السابعة والثلاثين أشغل هذا المنصب عدّة مرات، فإنّ الحكومة الحاليّة – التي تتشكّل فقط من أحزاب اليمين – تُعتبَر الأكثر تشدُّدًا تجاه القضيّة الفلسطينيّة والسلطة الفلسطينيّة؛ إذ وضّحت في الخطوط العريضة لإقامة الحكومة أنّ للشعب اليهوديّ الحقّ في تقرير المصير في جميع أجزاء أرض إسرائيل، وهو ما يعني ما بين البحر الأبيض المتوسّط ونهر الأردن وفي الجولان السوريّ المحتلّ. وينصّ البند الأوّل من الخطوط العريضة التأسيسيّة للحكومة الحاليّة على أنّه “للشعب الیهوديّ حقّ حصريّ غیر قابل للتصرُّف في جميع مناطق أرض إسرائيل، وستعمل الحكومة على تعزيز الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل في الجليل والنقب ويهودا والسامرة”، وهو ما يعني أنّ الحكومة لم تَعُدْ تسعى إلى تقليص الصراع أو الاكتفاء بإدارة هذا الصراع، كما لم يعد هناك أيّ توجُّهات نحو حلّ الدولتين، وإنما يجري السعي إلى حسم الصراع، والسعي نحو تعزيز الاستيطان وضمّ المناطق (ج)، دون السماح للفلسطينيّين بممارسة حقوقهم في المناطق (ج)، وعلى أرض الواقع يستمرّ وزراء هذه الحكومة في دعواتهم وتصرُّفاتهم إلى تعزيز الاستيطان والتحريض المستمرّ على العنف وطرد الفلسطينيّين من أجل تفريغ الأرض منهم.
احتجاز أموال الـمُقاصّة على مدار الأعوام
لطالما استخدمت الحكومات الإسرائيليّة عدّة أدوات وأساليب لابتزاز الفلسطينيّين وإخضاعهم، ومقايضتهم بين المواقف السياسيّة والحصول على مخصَّصاتهم. اُستُخدِمت أموال الـمُقاصّة المتوافرة في أيدٍ إسرائيليّة أداةً لإحكام السيطرة على السلطة الفلسطينيّة، ومعاقبتها عند كلّ موقف أو توجُّه لم ترضَ عنه إسرائيل. منذ تأسيس السلطة الفلسطينيّة، حُجِزت أموال الـمُقاصّة تسع مرّات، ولفترات زمنيّة مختلفة، كان أطولها احتجاز الـمُقاصّة عامَيْن. اُحتُجِزت الـمُقاصّة الفلسطينيّة أوّل مرّة عام 1997، وكان رئيس الوزراء آنذاك، نتنياهو، أوّل من استخدم هذه السياسة، فحُجِزت أموال الـمُقاصّة (نحو 87 مليون دولار) مدّة شهرَيْن، عقابًا على “تدهور الأوضاع السياسيّة والأمنيّة”.
في العام 2000، على أثر اندلاع الانتفاضة الثانية، اُحتُجِز نحو 500 مليون دولار من أموال الـمُقاصّة مدّة عامَيْن (في عهد حكومة إيهود باراك)، إذ لم تحوّل إسرائيل للسلطة الفلسطينيّة سوى 16% من المستحقّات خلال هذَيْن العامَيْن، أي حتّى نهاية العام 2002، وهو ما أدّى إلى تفاقُم العجز في الموازنة، وإلى لجوء السلطة للاقتراض، ومع نهاية عام 2002 بلغ مجموع الديون المتراكمة الداخليّة والخارجيّة نحو 1.2 مليار دولار.
وفي العام 2006 (في عهد حكومة إيهود أولمرت)، حُجِزت أموال الـمُقاصّة -نحو 1.1 مليار دولار- لمدّة 16 شهرًا، عقوبة على فوز حركة حماس في الانتخابات العامّة وتشكيل الحكومة، ولم يُتسلَّم سوى 40% من إيرادات الـمُقاصّة، وأُوقِفت المساعدات والمنح الدوليّة، باستثناء المساعدات الأمريكيّة لمكتب الرئيس، ولا سيّما قوّات الحرس الرئاسيّ، وهو ما جعل الأزمة الماليّة تتفاقم، ودفع الحكومة إلى العلاج بالاقتراض، وتقليص حجم الإنفاق العامّ، إذ لم يحصل الموظَّفون العموميّون إلّا على 40% من متوسّط رواتبهم.
أمّا في العام 2011، بعد مرور أربعة أعوام على مؤتمر أنابوليس، وأثناء عهد حكومة نتنياهو وتبنّيه لمفهوم السلام الاقتصاديّ (الذي جاء لترسيخ التبعيّة الاقتصاديّة الفلسطينيّة للسوق الإسرائيليّ)، فقد احتُجِزت أموال الـمُقاصّة – نحو 100 مليون دولار – خلال شهر أيّار لمدّة شهر، ردًّا على توقيع اتّفاق المصالحة بين فتح وحماس، وفي أعقاب خطاب الرئيس “أبو مازن” وإعلانه عن تقدُّم فلسطين إلى الأمم المتّحدة بطلب الاعتراف بدولة فلسطين على حدود عام 1967 عضوًا كاملًا في الأمم المتّحدة. وخلال شهر تشرين الثاني من العام نفسه، اُحتُجِزت أموال الـمُقاصّة – نحو 100 مليون دولار – لمدّة شهر، نتيجة السعي لنَيْل اعتراف دبلوماسيّ من منظّمة اليونسكو.
وفي نهاية العام 2012 وبداية العام 2013 أيضًا، اُحتُجِزت أموال الـمُقاصّة لمدّة 3 أشهر، ردًّا على قبول فلسطين دولةً غيرَ عضو في الأمم المتّحدة. وجُمِّدت أموال الـمُقاصّة -نحو 450 مليون دولار- مرّة أخرى بين كانون الأوّل عام 2014 وآذار عام 2015، ردًّا على انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة. وخلال شهر نيسان عام 2015، اتّفقت وزارة الماليّة الفلسطينيّة والسلطات الإسرائيليّة على تحويل أموال الـمُقاصّة (نحو 2.5 مليار شيكل)، بعد أن تقتطع مبلغ نصف مليار شيكل منها لتسديد ديون لصالح شركات الخدمات الإسرائيليّة.
استمرّت “إسرائيل” في استخدام الـمُقاصّة ورقةً ضاغطة، واستمرّت في احتجاز أموال الـمُقاصّة، وهذا يعني مصادَرة للممتلَكات على نحوٍ غير قانونيّ وتعسُّفيّ، وبما يشير إلى انتهاك خطير لاتّفاقيّة جنيـف الرابعة في الإمكان مقاضاته في المحكمة الجنائيّة الدوليّة، ويشكّل كذلك عقوبة جماعيّة للفلسطينيّين، في ظلّ جريمة حرب بموجب القانون الدوليّ العرفيّ.
عام 2018: المصادَقة على قانون تجميد أموال الـمُقاصّة
تخالف إسرائيل وتنتهك المواثيق والقوانين الدوليّة الإنسانيّة -وعلى وجه التحديد اتّفاقيّة جنيـف الرابعة – حين تستخدم سياسة العقوبات الجماعيّة التي تتضمّن – في ما تتضمّن- سياسة احتجاز الأموال. في العام 2018، صادق الكنيست على قانون يقضي بتجميد جزء من أموال الضرائب الفلسطينيّة يعادل مخصَّصات الأسرى وعائلاتهم والأسرى المحرَّرين وعائلات الشهداء التي تدفعها لهم السلطة الفلسطينيّة. جاء هذا القانون بغية “تقليص نشاطات الإرهاب، وإلغاء الحوافز الاقتصاديّة لنشاطات الإرهاب بواسطة تعليمات لتجميد أموال دفعتها السلطة الفلسطينيّة لِما يرتبط بالإرهاب، من الأموال التي تنقلها حكومة إسرائيل إلى السلطة الفلسطينيّة، بموجِب تعليمات قوانين التطبيق”، بحسب نصّ القانون. يستند هذا القانون إلى قانون مكافحة الإرهاب الذي سُنَّ في العام 2016، وهو يتيح مراجعة وتقدير الأموال التي تذهب إلى عائلات الأسرى والشهداء، وتحديد المبلغ المزمَع تجميده، إلّا أنّه لا يجيز استخدام الأموال المجمَّدة.
تدّعي إسرائيل أنّ العامل الاقتصاديّ هو الدافع الرئيسيّ لمنفِّذي “العمليّات الإرهابيّة”، أي إنّهم بغية تلقّي راتب شهريّ من السلطة الفلسطينيّة يُقْدِمون على تنفيذ هذه العمليّات. هذا الادّعاء والتحليل هو ما ارتكزت عليه إسرائيل عند تشريع القانون الذي يجيز لها تجميد أموال الضرائب الفلسطينيّة لمعاقبة الفلسطينيّين عقابًا جماعيًّا.
قانون تجميد أموال الضرائب هو قانون سياسيّ، تفعيله مَنُوط بشروط وظروف سياسيّة. وما ترمي إليه إسرائيل من استخدام هذا القانون هو عقاب جماعيّ سياسيّ للسلطة الفلسطينيّة والمواطنين التي يعيشون في ظلّها، إلّا أنّ القانون ونصّه يوحيان أنّه يعمل وَفقًا لبيانات ومعطيات ماليّة دقيقة وشفّافة، وما هي إلّا إجراءات تقنيّة لازمة لتنفيذ هذا التجميد على غرار اقتطاع مبالغ بدل الخدمات التي تقدّمها إسرائيل للسلطة الفلسطينيّة، منها – على سبيل المثال – فواتير شركتَيِ الكهرباء والماء. بَيْدَ أنّ اقتطاع تكلفة الخدمات متّفَق عليه بموجِب بروتوكول باريس، على خلاف الأموال التي تُجمَّد بحسب القانون الذي نحن بصدده بغية معاقبة السلطة الفلسطينيّة وتقويضها وإدخالها في أزمة ماليّة للضغط عليها لمحاربة عمليّات المقاومة. ففي حين تُجمِّد إسرائيل مبالغ المخصَّصات من أموال الـمُقاصّة، توفّر القروضَ البنكيّة للسلطة الفلسطينيّة لمساعدتها في التخلُّص من أزمتها الماليّة التي خلقتها إسرائيل أصلًا، وبهذا تفرض إسرائيل العقاب الجماعيّ على الفلسطينيّين والسلطة، وترفع من أرباحها (أرباح إسرائيل) الماليّة وتعمِّق من التبعيّة الاقتصاديّة للسلطة الفلسطينيّة.
ابتدأ العمل بموجب قانون تجميد الأموال بداية العام 2019؛ إذ في الـ17 من شباط في ذاك العام حجزت إسرائيل وجمّدت نحو 500 مليون شيكل (138 مليون دولار)، وادّعت أنّها قيمة الأموال التي خصّصتها السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة لأُسَر الشهداء والجرحى والأسرى في العام 2018. وعلى ضوء ذلك، قرّرت السلطة الفلسطينيّة عدم تسلُّم أموال الـمُقاصّة منقوصةً، مؤكِّدة على حقّها في استخدام أموال الخزينة الفلسطينيّة دون العبث بها، واضطُرّت إلى تعليق موازَنة عام 2019 واستبدالها بموازنة طوارئ حتّى شهر تمّوز عام 2019 تعتمد على الجباية المحلّيّة التي تعادل نحو 40% من الموازَنة، واتّخذت العديدَ من الإجراءات لإدارة الأزمة الماليّة، على رأسها تحويل ما يتراوح بين 50% وَ60% من رواتب موظَّفي القِطاع العامّ فقط. إلى جانب قرار تجميد 500 مليون شيكل من الـمُقاصّة، حُسِمت مبالغ ماليّة بلغت نحو 14 مليون شيكل من إيرادات الـمُقاصّة دفعتها تعويضًا للمتخابرين الفلسطينيّين مع “إسرائيل” الفارّين إليها.
وعلى الرغم من قرار الرئيس الفلسطينيّ عدم استلام أموال الـمُقاصّة منقوصةً، تنازَلَ عن قراره وموقفه في شهر آب عام 2019، وتسلّمت السلطة الفلسطينيّة مبلغ مليارَيْ شيكل ضريبة المحروقات السنويّة. وقد برّرت السلطة الفلسطينيّة تسلُّمَ أموال الـمُقاصّة منقوصةً بأنّ ثمّة اتّفاقًا مبدئيًّا بين وزارتَيِ الماليّة الفلسطينيّة والإسرائيليّة بشأن شراء المحروقات بسعرها الأصليّ دون تسديد ضريبة “البلو”، مع العلم أنّ هذا الاتّفاق لم يدخل حيّز التنفيذ حتّى يومنا هذا.
إنّ قانون تجميد أموال الـمُقاصّة واقتطاع مبالغ منها بحجّة تخصيصها لدعم عوائل الأسرى والشهداء، هي أدوات مستخدَمة من قِبل حكومة الاحتلال لقمع ووأد فكرة المقاومة، ولمعاقبة السلطة الفلسطينيّة لدعمها عائلات الأسرى والشهداء. ففي حين يخلق عدم تحويل أموال الـمُقاصّة أزمة ماليّة جِدّيّة للسلطة الفلسطينيّة، تقترض السلطة الفلسطينيّة نفسها الأموال من إسرائيل للتخفيف من هذه الأزمة، وبِذا تقع في فخّ التبعيّة والخضوع لإسرائيل.
حكومة نتنياهو الجديدة
في مطلع العام الحاليّ، وقّع وزير الماليّة (سْمُوترِيتْش) على قرار يقضي بحجز 139 مليون شيكل من أموال الـمُقاصّة، وتحويلها إلى عائلات المستوطنين الذين قُتِلوا في عمليّات عسكريّة فلسطينيّة، وتعويض أُسَر المستوطنين، واتّخذ قرارًا يدخل حيّز التنفيذ الفوريّ يقضي بحسم ما يعادل مخصّصات عوائل الأسرى والشهداء التي تدفعها السلطة الفلسطينيّة من أموال الـمُقاصّة. جاء هذا الإجراء عقابًا على توجُّه السلطة الفلسطينيّة في الـ31 من كانون الأوّل عام 2022 إلى محكمة العدل الدوليّة، للمطالَبة بإبداء رأي قانونيّ في استمراريّة الاحتلال الإسرائيليّ منذ العام 1967. في أعقاب هذا التوجُّه، طلبت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة من أعلى هيئة قضائيّة في الأمم المتّحدة إبداء رأي استشاريّ بشأن شرعيّة السياسات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة المحتلّة والقدس الشرقيّة، وبشأن الآثار القانونيّة الناجمة عن انتهاك إسرائيل المستمرّ حقَّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل الأمد للأرض الفلسطينيّة المحتلّة منذ سنة 1967 واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمـغـرافيّ لمدينة القدس وطابعها ووضعها، واعتمادها تشريعات وتدابير تمييزيّة في هذا الخصوص.
تعمل حكومات إسرائيل المتعاقبة على منع السلطة الفلسطينيّة وردعها عن التوجُّه إلى المحاكم الدوليّة، وتَستخدم جملة من العقوبات ردًّا على محاولات اللجوء للمقاضاة الدوليّة، أو محاولات لملاحقة الاحتلال الإسرائيليّ ومساءَلته أمام القضاء الدوليّ، غير أنّ الحكومة الحاليّة هي الأكثر عدائيّة ورفضًا لأيّ مساءَلة دوليّة بل لأيّ مطالَبة؛ إذ لم تقتصر قراراتها على فرض العقوبات الماليّة، بل طالت كذلك منظَّمات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ التي تطالب بمساءلة الاحتلال على جرائمه، فضلًا عن تجميد مخطَّطات البناء الفلسطينيّة في المنطقة (ج) وغيرها من العقوبات.
في مستهَلّ شهر شباط عام 2023، وقّع وزير الماليّة (سْمُوترِيتْش) على اقتطاع 100 مليون شيكل من أموال الـمُقاصّة (عائدات الضرائب الفلسطينيّة). واللافت للانتباه أنّ الحكومة اليمينيّة الجديدة ضاعفت من حجم المبالغ المقتطَعة؛ إذ بحسب تقرير الرأي الصادر عن ديوان الرقابة الماليّة والإداريّة حول الحساب الختاميّ التجميعيّ (2020، 2021) أوضحت وزارة الماليّة الفلسطينيّة أنّه جرى اقتطاع مبلغ 738 مليون شيكل، وذلك عن مستحقّات رواتب الأَسرى للعام 2021، أي بمعدّل 60 مليون شيكل شهريًّا، بينما جرى تجميد 600 مليون شيكل عام 2022، أي 50 مليون شيكل شهريًّا، كما لم يقتصر الأمر على مضاعفة المبلغ الذي اقتُطِع، بل جرى استخدام الأموال، وتحويل جزء منها كتعويضات لعائلات المستوطنين التي قُتِل أحد أفرادها في العمليّات الفلسطينيّة. كما قرّر وزير الماليّة في مطلع شهر أيّار مصادرة 3.2 مليون شيكل من عائدات الضرائب الفلسطينيّة، لصالح عائلاتِ إسرائيليّين لَقُوا مصرعهم في هجمات فلسطينيّة.
فضلًا عن هذا، قرنت الحكومة الحاليّة والكنيست تلقّيَ المخصَّصات الماليّة للأسرى الفلسطينيّين من السلطة بتكثيف العقوبات، إذ صادق الكنيست على قانون “يتيح للسلطات الإسرائيليّة تهجيرَ أيّ فلسطينيّ نفّذ عمليّة ضدّ أهداف إسرائيليّة وسحْبَ جنسيّته أو مواطَنته (خاصّة من سكّان القدس، والفلسطينيّون في أراضي الـ 1948)، في حال تلقّيه مخصَّصات ماليّة من السلطة الفلسطينيّة، وتُمنح هذه الصلاحيَة لوزير الداخليّة ويمكنه تفعيلها على من سُجِن بتهمة “ارتكاب عمل إرهابيّ” وَفق ما هو معرَّف في قانون مكافحة الإرهاب”.
وفي النظر إلى هذا القانون، نرى أنّه خطر لا على الأسرى فحسب، بل على عائلاتهم كذلك، ونرى أنّه يندرج ضمن العقوبات الجماعيّة. وَفقًا للبيانات الصادرة عن مركز “هَمُوكِيد” (يحصلون عليها من مصلحة السجون) حتّى تاريخ 31/12/2022، ثمّة 140 أسيرًا فلسطينيًّا من حَمَلة الجنسيّة الإسرائيليّة، وَ211 أسيرًا من حَمَلة الهُويّة المقدسيّة، معرَّضون للخطر بسبب هذا القرار.
وقد أكّد وزير الماليّة استخدامه للمُقاصّة أداةً عقابيّة في عدّة تصريحات، حيث صرّح في 9/7/2023 أنّه “لن يوافق على شيء، ولن يحوّل أيّ أموال، ولن تكون تسهيلات ماليّة”. إلى جانب ذلك، صرّح على منصّة “إكس” (تويتر سابقًا) في الـ6 من كانون الثاني قائلًا: “سنضع حدًّا لاحتفال السلطة الفلسطينيّة بالإرهاب، والدفعات للإرهابيّين والفوائد التي يتلقَّوْنها منّا. ومن يعمل ضدّنا فسيدفع ثمنًا باهظًا، وهذه ليست سوى البداية”.
تشير تصريحات وزير الماليّة إلى موقفه الحاسم من استخدام عقاب “حجز أموال الـمُقاصّة”، وحرمان الفلسطينيّين من حقّهم في الحصول على هذه الأموال. وبعد السابع من تشرين الأوّل وإعلان الحرب على غزّة (“حرب السيوف الحديديّة”)، ضغط وزير الماليّة على الحكومة الحاليّة باتّخاذ قرارات تقضي بحَسْم المبالغ المخصَّصة لقِطاع غزّة من أموال الـمُقاصّة، بحجّة حرمان سكّان القِطاع من مخصَّصاتهم وفصل غزّة عن الضفّة. استجابت الحكومة الإسرائيليّة لهذه الـمَطالب فأصدرت قرارًا في 2/11/2023 يقضي بحسم المبالغ المخصَّصة لقِطاع غزّة من أموال الـمُقاصّة والتي قُدِّرت بنحو مليون دولار شهريًّا، أي نحو 5.5 مليار شيكل سنويًّا، وهو ما يعادل نصف عائدات الـمُقاصّة المقدَّرة بـِ12 مليار شيكل للعام 2023، ونحو 30% من الموازَنة العامّة للعام 2023، فضلًا عن الحجز المستمرّ للأموال التي توازي الأموال المخصَّصة لأُسَر الشهداء والأَسرى في السجون الإسرائيليّة، وبالتالي قرّرت السلطة الفلسطينيّة عدم تسلُّم أموال الـمُقاصّة منقوصة، وردّها إلى الجانب الإسرائيليّ.
تستخدم حكومة اليمين الإسرائيليّ المتطرّف أموال السلطة الفلسطينيّة أداةً لتكثيف الهجوم والعقوبات على الفلسطينيّين الذين اعتبرتهم مَدينين للحكومة الإسرائيليّة لقاء حصولهم على مَبالغ من السلطة الفلسطينيّة، وهذا ما دفع الحكومة الإسرائيليّة إلى مداهمة العديد من المنازل ومصادرة الممتلَكات وتجميد الحسابات المصرفيّة. لم تقتصر هذه الممارسات على الأسير نفسه، بل طالت ممتلكات عائلته، وقد صادرت الحكومة الإسرائيليّة مبالغ فاقت مئات الآلاف من الشيكلات، فضلًا عن فرض الغرامات الماليّة عليهم. على سبيل المثال، اقتحمت القوات الإسرائيليّة 34 منزلًا لمعتقَلين حاليّين وسابقين من القدس في السجون الإسرائيليّة، وفرضت عليهم غرامات ماليّة باهظة بلغ مجموعها مليونَيْن وَ772 ألف شيكل. أضف إلى ذلك أنّ هذه القرارات جائرة وتنتهك المواثيق الدوليّة ولا سيّما اتّفاقيّة جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيّين في وقت الحرب في المادّة (33) التي تحظر العقاب الجماعيّ. تجدر الإشارة إلى أنّ قيمة الممتلَكات والأموال والغرامات التي فُرِضت على العائلات تجاوزت قيمة المخصَّصات التي تلقَّوْها من السلطة الفلسطينيّة، وهذا ما حصل مع عائلة محمد الفيراوي التي فقدت جميع ما تملكه بعدما استولت القوّات الإسرائيليّة على مبلغ قيمته 100 ألف شيكل من منزلهم، وهي مدَّخرات والده بعد إحالته إلى التقاعد.
على الرغم من أنّ قرارَ حجز الأموال المستنِدَ إلى قانون الإرهاب قرارٌ جائر وينتهك المواثيق الدوليّة، تُعَدّ مصادرةُ أموال الأَسرى المقدسيّين وحَمَلة الجنسيّة “الإسرائيليّة” بذريعة أنّها أموال تلقَّوْها مكافأة “للإرهاب” انتهاكًا وسرقةً مضاعَفة، تارةً أخذتها الحكومة الإسرائيليّة من الـمُقاصّة، وتارةً أخرى صادرتها منهم ومن عائلاتهم.
اليمين المتطرّف ومشاريع القوانين المطروحة
لم يقتصر تطرُّف اليمين وتعسُّفه ضمن الحكومة الجديدة على استخدام القوانين الصادرة مسبقًا، وإنّما استمرّ مع اقتراح مشاريع قوانين متطرّفة وجائرة جديدة وطرْحها للنقاش في الكنيست. تستخدم هذه الاقتراحات أموال السلطة الفلسطينيّة التي تجمعها إسرائيل من الضرائب لتشديد العقوبات وتكثيفها ضدّ الفلسطينيّين. من ضمن مشاريع القوانين التي قُدِّمت:
• “قانون حماية جنود الجيش الإسرائيليّ والقوات الإسرائيليّة الأخرى من الشكاوى الكاذبة للسلطة الفلسطينيّة”. يقضي هذا القانون بأنّ يُحسَم 25% من الـمُقاصّة في السنة التي يتأكّد فيها للحكومة أنّ السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة تقدّمت بشكاوى ضدّ جنود وضبّاط إسرائيليّين إلى المحكمة الدوليّة. قُدِّم مشروع القانون في تاريخ 12/12/2022، أي بعد انتخابات الكنيست مباشرة، وقد قدّمه آفـي ديختر من كتلة “الليكود” الحاكمة، وشيران هَسْكيل، من كتلة “المعسكر الرسميّ”.
• مشروع قانون يُلزِم المحاكم بفرض غرامات ماليّة باهظة على منفِّذي عمليّات، لصالح المتضرّرين المباشرين وغير المباشرين. يطالب مشروع القانون هذا بتغريم منفِّذ العمليّة بمبلغ 10 ملايين شيكل لعائلة القتيل، ومقدار المبلغ نفسه لكلّ متضرّر جسديًّا من العمليّة. ويقضي القانون بدفع غرامة لابن عائلة متضرّر (بقي على قيد الحياة) بقيمة 8 ملايين شيكل (ما يعادل 2.23 مليون دولار)، وبالربط مع مشاريع قوانين أخرى، فإنّه من المحتمَل – إذا أُقِرّ هذا القانون – أن تُجبى هذه المبالغ من أموال الضرائب الفلسطينيّة. قَدَّم مشروعَ القانون هذا، في الـ26 من حزيران عام 2023، عضوُ الكنيست دان إيلوز (من كتلة حزب “الليكود” الحاكم).
• ثلاثة مشاريع قوانين ترمي إلى التصرُّف بالأموال المحتجَزة (بقدر ما تنفق السلطة الفلسطينيّة على مخصَّصات الأسرى)، نظرًا لأنّ قانون العام 2018 لا يقضي إلّا بتجميد الأموال دون التصرُّف بها.
• مشروع قانون “تعويض ضحايا الإرهاب”. يتيح هذا المشروع للمستوطنين المتضرّرين من العمليّات الفلسطينيّة تقديم دعاوى تعويضات من الجهات الداعمة للعمليّات؛ والمقصود هنا السلطة الفلسطينيّة، إذ يدعو القانون إلى تغريم السلطة عن كلّ قتيل بمبلغ لا يقلّ عن 10 ملايين شيكل. وإضافة إلى تسديد أجرة المحامي الذي قدّم دعوى التعويض، ستقتطع الحكومة الإسرائيليّة المبالغ من أموال الـمُقاصّة في حال صدور قرار بالتعويض. قَدّم هذا المشروعَ عضو الكنيست يتسحاق بيندروس من كتلة “يَهدوت هَتوراة” الشريكة في الائتلاف الحاكم في الـ27 من آذار (2023).
• مشروع قانون يتيح حسم تكلفة النفقات الطبّيّة على الأَسرى في سجون الاحتلال، من أموال الـمُقاصّة المحتجَزة؛ قدّمه عضو الكنيست أريئيل كلاينر، من كتلة الليكود، في الـ29 من آذار (2023). والجدير بالذكر أنّه قبل طرح المشروع – بحسب شهادة أحد الأسرى المحرَّري:
“وصلتني رسالة من مستشفى شَعاري تْصيدِق في الـ9 من شباط عام 2023 تطلب منّي تسديد مبلغ 981 شيكلًا، وذلك مقابل غسيل الكلى في 15/9/2021 صبيحة الليلة التي اعتقلتني فيها قوّات الاحتلال، أي في اليوم الذي كنت فيه معتقَلًا وهم مَن أخذوني وأنا مقيَّد ومعصوب العينين إلى هذا المستشفى، وهذا نصّ الرسالة التي وصلت إلى هاتف زوجتي: نودّ تذكيرك بعدم تسديد الدَّيْن المستحَقّ عليكم لمستشفى “شَعاري تْصيدِق” باسْم زيد جمال بمبلغ 981 شيكلًا، بخصوص تكاليف العلاج المقدَّم لكم في 15/09/2021، وبأنّه إن لم يسدَّد خلال فترة محدَّدة سيُحوَّل الملفّ إلى القضاء، وسيترتّب على ذلك دفع نفقات المحامي وغرامات التأخير”.
تشير المشاريع المذكورة إلى محاولة إحكام السيطرة على السلطة الفلسطينيّة ماليًّا، بل إنّها تسهم كذلك في إضعاف السلطة الفلسطينيّة، وتهميش دَوْرها إلى الحدّ الأدنى. تُشكِّل جملة المشاريع المقترَحة، إذا أُقِرّت، محاوَلةً لمنع إقدام السلطة على رفع أيّ قضايا في المحاكم الدوليّة، وتدفع السلطةَ على نحوٍ واضح إلى التخلّي عن الأَسرى والعمل على تقليص أعمال المقاومة. تأتي جملة المشاريع المقترَحة، إضافة إلى القرارات الصادرة، للإمعان أكثر في استخدام العقوبات الماليّة، ضمن خطّة سْمُوترِيتْش (خطّة الحسم)، إذ يدعو هذا الوزير اليمينيّ إلى ضمّ كلّ الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل، وتفكيك السلطة الفلسطينيّة.
الحكومة الحاليّة خلافًا للحكومات السابقة
لا تختلف الحكومة الحاليّة عن سابقتها جوهريًّا في آليّات التعامل مع القضيّة الفلسطينيّة، إذ إنّ عنصريّة وعدائيّة نتنياهو حاضرة في كلّ حكوماته، ضمن المفهوم الاستعماريّ الاستيطانيّ، ولا يختلف الأمر في وجود أحزاب مركز داخل الحكومات إلّا في التوجُّهات والدوافع والمبرِّرات لاستخدام العنف والمصادَرة والاستيلاء، وبالتالي فإنّ الممارَسات الفعليّة والعدائيّة هي ذاتها. ما يميّز هذه الحكومة المتشكّلة من أحزاب يمينيّة صِرفة، دون وجود أيّ حزب من خارج معسكر نتنياهو، هو تطرُّفُها المطْلَق، وإمعانُها المفْرِط في استخدام القوّة والسيطرة على الفلسطينيّين، وعملُها المستمرّ لتهميش دَوْر السلطة الفلسطينيّة؛ إذ تنتقل الحكومة الجديدة من مقارَبة تقليص الصراع (ذاك ما اعتمدته حكومة بِنِت) وإدارة الصراع، إلى مفهوم حسم الصراع (الذي يشير إلى فرض السيادة الإسرائيليّة على الضفّة، وضمّ المناطق (ج)، وتكثيف الاستيطان).
عملت الحكومات السابقة على استخدام التسهيلات الاقتصاديّة ضمن مفهوم السلام الاقتصاديّ. على سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء السابق بِنِت في أعقاب تولّيه رئاسة الحكومة عام 2021 أنّ “الهدوء الأمنيّ وانشغال الفلسطينيّين بالشؤون المدنيّة سيؤدّيان إلى تطوُّرات في المجال الاقتصاديّ وتقليل الاحتكاك مع الجيش الإسرائيليّ وإلى تقليص الصراع”، وكذلك كانت إحدى سياسات نتنياهو العمل على تحقيق السلام الاقتصاديّ، انطلاقًا من أنّ تحسين الاقتصاد قد يقلّل من فرص العنف ضدّ الإسرائيليّين. في العام 1968، اعتبر حاكم الضفّة الغربيّة العسكريّ (لواء الاحتياط رفائيل ﭬـيردي) “أنّه ما دام سكّان المناطق تحت سيطرتنا فيجب أن نسعى لأن يعمّ الهدوء، لتقليل التحريض السياسيّ والاجتماعيّ”، وهو ما يفيد أنّ تشغيل العمّال الفلسطينيّين ومساعَدتهم سيخفّضان من اهتمامهم بدعم أيّ نشاط نضاليّ. وفي ذلك تختلف الحكومة الجديدة في مفهومها للسلام الاقتصاديّ؛ إذ هي لا تبدي أيّ اهتمام بالعمل على تحسين أوضاع الفلسطينيّين الاقتصاديّة جذريًّا، باعتبار أنّ تحسين الواقع الاقتصاديّ سيؤدّي إلى تعزيز قدرة الفلسطينيّين على الصمود، بل – على العكس من ذلك – تعمل على الإمعان في استخدام العقوبات الماليّة، لتهميش دَوْر السلطة ومحاصَرتها.
نقاش وخاتمة
تنظر الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة إلى أموال الـمُقاصّة الفلسطينيّة، وهي مدركة تمامًا أنّ السلطة تعتمد عليها لدفع الرواتب، على أنّها أداة عقابيّة يَسْهل استخدامها؛ إذ تتحكّم الحكومة الإسرائيليّة بمفاتيح الـمُقاصّة وتستخدمها وَفقًا للمعطيات السياسيّة، ابتغاءَ إخضاع الفلسطينيّين ومعاقبتهم وابتزازهم. يؤكّد اليمين الصهيونيّ على رؤيته في أنّ أموال الـمُقاصّة تُعَدّ أداةً أساسيّة لوقف العمليّات الفلسطينيّة والنضال الفلسطينيّ، سواء أكان ذاك على صعيد الأفراد وعائلاتهم، أَمْ على صعيد السلطة الفلسطينيّة ونضالها في المحافل الدوليّة؛ وذلك أنّ اقتطاع أو تجميد أموال الـمُقاصّة، أو جزء منها، لا يؤثّر فقط على المستفيدين والمعتمِدين اعتمادًا مباشرًا على السلطة الفلسطينيّة (أكثر من ثلت المجتمع، ما بين عاملين في القِطاع الحكوميّ عددهم قرابة 160 ألف موظَّف، وقرابة 80 ألفًا أشباه رواتب تشمل: متقاعدين، عائلات الأسرى والشهداء)، فضلًا عن قرابة 120 ألف أسْرة فقيرة تتلقّى مساعدات نقديّة من الحكومة الفلسطينيّة، وإنّما يطال عجلة الاقتصاد عمومًا؛ إذ إنّ حجب الـمُقاصّة يؤثّر على قدرة وعمل السلطة الفلسطينيّة، وقدرتها كذلك على تقديم الخدمات، ودفع المستحقّات لمزوِّدي الخدمات من القِطاع الخاصّ، وهو ما يفاقم الأزمة القائمة، ويضخّم العجز المزمن في الموازَنة العامّة. تشير التنبّؤات إلى أنّ العجز في الموازَنة العامّة عام 2023 ستبلغ قيمته 360 مليون دولار، دون الاقتطاعات الإسرائيليّة الجائرة التي تتعرّض لها الخزينة العامّة، وهو ما يرفع سقف العجز إلى ما يزيد عن 610 ملايين دولار، الأمر الذي يجعل دَوْر السلطة أكثر هشاشةً وعُرضةً للابتزاز والمقايَضة، فضلًا عن الإشكاليّة الكامنة في آليّة السلطة لإدارة الأزمات، والمبنيّة على ترحيل الأزمات الماليّة وزيادة الديون والأعباء الماليّة المترتّبة على الحكومة لصالح الموظَّفين والقِطاع الخاصّ، الأمر الذي راكَمَ من الأزمات وحالة الإضرابات النقابيّة والمطلبيّة الممتدّة إلى قِطاعات متعدّدة.
شكّل اتّفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينيّة مفصلًا هامًّا في القضيّة الفلسطينيّة، على الجوانب والصُّعُد كافّة، كما أسهَمَ في تعميق وربط الاقتصاد الفلسطينيّ بالاقتصاد الإسرائيليّ في ظلّ علاقة تبعيّة وهَيْمَنة استعماريّة، وأسهَمَ في إضعاف السلطة الفلسطينيّة وتحجيم دَوْرها ليكون دَوْرًا إداريًّا، يعفي الاحتلال من مهامّه. ولعلّ الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة أكثر بطشًا في استخدام السياسات الحادّة، ولا سيّما استخدام أموال الـمُقاصّة للعقاب السياسيّ الجماعيّ. لذا، بات البحث عن تعزيز الاستقلاليّة الاقتصاديّة الفلسطينيّة أمرًا وجوديًّا بالنسبة للسلطة الفلسطينيّة والشعب الفلسطينيّ.
*لميس فرّاج – باحثة في السياسات الاقتصاديّة والتنمويّة
عن مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة