أمريكا في عهد ترامب… هل هذه أرض الأحلام؟

عدد من أبناء الجالية الفلسطينية والعربية في الولايات المتحدة قرروا العودة إلى أوطانهم الأصلية. بعض أبناء الضفة الغربية فضلوا أن يعودا إلى قراهم ومدنهم ويعيشوا تحت الاحتلال، على أن يبقوا في هذه البلاد التي تتأرجح بين حزبين يتسابقان لخدمة الكيان الصهيوني، ويربطان مقياس المواطنة في هذه البلاد بمدى تبني الخطاب الصهيوني وليس الأمريكي، إن كان هناك خطاب أمريكي أصلا. تستطيع في هذه البلاد أن تعلن عن رأيك في كل المواضيع، وتتظاهر لنصرة أي موضوع، وتحتج على أي موقف، إلا إذا تعلق الأمر بإسرائيل: هنا تنتهي حرية الرأي والحق في التظاهر، هنا تدخل منطقة محظورة في أمريكا وليست محظورة حتى في إسرائيل- منطقة غامضة تدعى «معاداة السامية».
ما يجري في الولايات المتحدة منذ شهرين فقط، بعد وصول دونالد ترامب البيت الأبيض يوم 20 يناير وحتى الآن ومسلسل الخراب متواصل، ولم يتوقف يوما، فما بالك في بقية الستة وأربعين شهرا الباقية. أين ستنتهي بنا الأمور وكيف سيتم التعامل مع أبناء الجاليات الفلسطينية والعربية، لا أحد يعرف ولكن التوجس أصبح ظاهرة عامة لدى الجميع، والحذر مما تخبئه أيام ترامب أصبح حقيقة لا خيالا.
تتناثر مصائب ترامب وقراراته الرعناء في جميع الجهات. ضد جيران أمريكا وحلفائها التقليديين، ضد المنظمات الدولية بلا استثناء وليس فقط الأونروا، أو منظمة الصحة العالمية، ضد العرب والمسلمين جميعا. قراراته تطال الفلسطينيين ووجودهم، لا فرق عنده بين المقاومين والمقاولين، الذين يعملون تحت سطوة قوات الأمن الإسرائيلية ويتلقون رواتبهم من وكالة المخابرات المركزية. ترامب لا يتردد في العمل على تهجيرهم، أو قتلهم أو تأييد حرب الإبادة التي تهدف إلى إلغاء الوجود الفلسطيني حرفيا وليس مجازيا. أما العرب بالنسبة له فلا يمثلون إلا فائضا ماليا يجب الاستيلاء عليه بالحسنى أو بالقوة، ومن حاول أن يحتج أو يتمرد يزداد منسوب عقابه. تصرفاته مع الزعماء ورؤساء الدول لا علاقة لها بالبروتوكولات المتعارف عليها بين الدول، وما رأيناه في لقائه مع الملك عبد الله الثاني وفلولودمير زيلينسكي ما هو إلا غيض من فيض. أسلوب فج لا علاقة له بالدبلوماسية أو السياسة أو الاحترام أو التهذيب أو الأخلاق. وكما كتبت في مقال بعد تشكيل وزارته «إسرائيل أولا» فما زال السباق بين الوزراء على من يخدم إسرائيل أكثر من الآخر. فعندما تكلم مبعوثه لقضية الرهائن آدم بوهلر،عن ممثلي حركة حماس بأنهم أناس عاديون ولطيفون تم عزله فورا. وعندما قدم مبعوثه للشرق الأوسط ويتكوف مقترحا لحركة حماس حول الهدنة وإطلاق سراح الرهائن، وردت عليه الحركة بطريقة إيجابية مع بعض التساؤلات حول الوقف الدائم لإطلاق النار والانسحاب من محور فيلادلفيا، كما جاء في الاتفاق الأصلي يوم 17 يناير، تم التراجع عن المقترح، وتبنى ويتكوف الرواية الإسرائيلية، مقدما لإسرائيل الضوء الأخضر لاستئناف المجازر.
تستطيع في أمريكا أن تعلن عن رأيك في كل المواضيع، إلا إذا تعلق الأمر بإسرائيل هنا تنتهي حرية الرأي وتدخل منطقة محظورة في أمريكا وليست محظورة حتى في إسرائيل- منطقة غامضة تدعى «معاداة السامية»
حكاية جامعة كولمبيا
ما حصل في جامعة كولمبيا ليس بالأمر العادي، بل هو مؤشر لما هو آت. الطريقة التي تمت فيها مداهمة بيت الفلسطيني محمود تذكرنا بأيام المكارثية. إنها عودة بالإجراءات التعسفية إلى ما قبل إقرار مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. لنسمع ما قاله محمود في رسالة خرجت من مركز اعتقاله في لويزيانا: «في الثامن من مارس، اعتقلني عملاء وزارة الأمن الداخلي، رافضين إصدار مذكرة توقيف، واعترضوا طريقي أنا وزوجتي أثناء عودتنا من العشاء. وقبل أن أعرف ما يحدث، قيدني العملاء بالأصفاد وأجبروني على ركوب سيارة بلا لوحات. في تلك اللحظة، كان همي الوحيد هو سلامة (زوجتي) نور. لم أكن أعلم إن كانت ستُؤخذ هي الأخرى، إذ هددوا باعتقالها لعدم مغادرتها. لم تُخبرني وزارة الأمن الداخلي بأي شيء لساعات – لم أكن أعرف سبب اعتقالي، أو إن كنتُ أواجه الترحيل الفوري. في المبنى رقم 26 من فيدرال بلازا، نمتُ على الأرض الباردة. في ساعات الصباح الباكر، نقلني العملاء إلى منشأة أخرى في إليزابيث، نيو جيرسي. هناك، نمتُ على الأرض، ورُفض طلبي ببطانية. كان اعتقالي نتيجة مباشرة لممارستي حقي في حرية التعبير، حيث دافعتُ عن فلسطين حرة وإنهاء الإبادة الجماعية في غزة، التي استؤنفت بكامل قوتها ليلة الاثنين». تتوقع أن يحدث هذا في سجون أنظمة الاستبداد في العالم العربي أو افريقيا أو نظم العسكر في أمريكا اللاتينية وآسيا لكن ليس في «بلد الأحرار والشجعان»، كما يقول النشيد الوطني في هذه البلاد. الغريب أن ترامب سخر من محمود خليل بطريقة صبيانية مخاطبا هذا الشاب الناجح بقوله «شلوم»، ثم يلغي بطاقة الإقامة الدائمة في انتهاك واضح للقانون ثم ينقله إلى معسكر اعتقال فيدرالي في ولاية لويزيانا التي تبعد 1000 ميل عن نيويورك، لأن ترامب يعرف أن نظام العدالة في نيويورك لن يؤيد خطواته.
لم تتهم الإدارة محمود خليل بارتكاب أي جريمة، بل ألمحت بشكل أساسي إلى أن الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين تُضعف أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأنه يُمكن استهداف المشاركين فيها نتيجةً لذلك. وكشفت وثائق المحكمة أن وزير الخارجية ماركو روبيو، لم يعتمد على قانون مكافحة الإرهاب عندما اختار اعتقال خليل، بل على بند من قانون الهجرة والجنسية لعام 1952، الذي استُخدم في ذروة «الرعب الأحمر» لاستهداف الناجين من الهولوكوست المشتبه في كونهم عملاء للاتحاد السوفييتي. هل هناك تبرير أكثر من هذا ضحالة وابتعادا عن المنطق، لكن كله جائز في عهد ترامب.
في الأسبوع الماضي، استُهدف طالبان آخران من جامعة كولومبيا، فقد أعلن بيان صحافي صادر عن وزارة الأمن الداخلي أن لقاء كردية، وهي امرأة فلسطينية من الضفة الغربية، قد اعتقلت من قبل عملاء دائرة الهجرة والجمارك في نوورك، نيوجرسي، بزعم تجاوزها مدة تأشيرة الدراسة وهي محتجزة حاليا في مركز احتجاز بتكساس. أما الطالبة نجاني سرينيفاسان، وهي مواطنة هندية وحاصلة على منحة فولبرايت في جامعة كولومبيا، فرت من الولايات المتحدة إلى كندا خوفا من احتجازها فاوقفت على الحدود. وقالت في بيان: «إن إلغاء تأشيرتي وفقدان وضعي كطالبة قلب حياتي ومستقبلي رأسا على عقب – ليس بسبب أي مخالفة، بل لأنني مارست حقي في حرية التعبير». جامعة كولمبيا تلقنت الدرس جيدا، فقد أرسل ترامب رسالةً إلى إدارة جامعة كولومبيا يُشير فيها إلى احتمال إعادة النظر في قراره الأخير بخفض تمويل الجامعة بمقدار 400 مليون دولار، إذا وافقت الجامعة على قمع احتجاجات الطلاب بطرقٍ مُحددة. وشملت مطالب البيت الأبيض المُتعددة منها إيقاف الطلاب المُشاركين في احتلال قاعة هاميلتون في أبريل الماضي.
بعد اعتقال خليل، وجّه الأستاذ المساعد ستيوارت كارل الطلاب إلى الامتناع عن النشر عن فلسطين. وقال لهم: «إذا كانت لديكم صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، فتأكدوا من أنها لا تعجّ بالتعليقات على شؤون الشرق الأوسط»، وعندما اعترض طالب فلسطيني على فكرة تشجيع جامعة كولومبيا للرقابة والخضوع لإدارة ترامب، كان عميد كلية الصحافة، جيلاني كوب، أكثر صراحةً عندما قال مخاطبا الطالب الفلسطيني: «لا أحد يستطيع حمايتكم. هذه أوقات عصيبة». ما حدث في جامعة كولمبيا تكرر في جامعات عديدة. الخوف بدأ يفرض على الجامعات والمؤسسات. من يتخيل أن ولاية فلوريدا تغلق دار سينما لأنها سمحت بعض فيلم «لا أرض أخرى» الحائز جائزة أوسكار. جامعة رتغرز تلغي فرع «طلاب من أجل العدالة في فلسطين». يطرد الصحافيون إذا تعاطفوا مع فلسطين. لا أحد يستطيع الحماية الآن. أليس من الأفضل أن نعد حقائبنا ونبحث عن مكان بديل. المشكلة أننا لم نجد مكانا دافئا في هذا الوطن العربي الكبير يحترم المواطنين ولا يضع أقفالا على أفواههم.
عن القدس العربي