أصوات إسرائيلية الآن ومن الماضي القريب: لا يمكن الوصول إلى “سلام في الشرق الأوسط” من خلال تجاهل الفلسطينيين

    منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في إثر الهجوم الذي قامت به حركة حماس على مواقع عسكرية وعلى ما يعرف باسم “غلاف غزة” في المنطقة الجنوبيّة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ارتفعت أصوات عدد من الكُتّاب والمحلّلين الإسرائيليين الذين على الرغم من أجواء التعبئة العامة المؤيدة للحرب أعربوا عن مواقف أقلّها أنه على الرغم من الظرفيّة التي توجد فيها إسرائيل فإنها لا يمكنها الاستمرار في تجاهل القضية الفلسطينية، وأن حقيقة أنها من كبرى الدول الحربيّة التي تمتلك ترسانة عسكرية تُعدّ من الأقوى في منطقة الشرق الأوسط وليس فيها فحسب، لن تسعفها لا في دفن هذه القضية ولا في مواصلة التسويف في إيجاد حلّ عادل لها.

    وكان تخطيطي أن أغوص بمزيد من التفصيل على هذه الأصوات لغاية التوثيق أولاً، وبغية إجمال الاستحصال الغالب، الذي وقف في صلبه في معظم ما بدر عن هذه الأصوات ولا يزال أن إسرائيل لن تنتصر في هذه الحرب، ويتعيّن عليها فور انتهائها أن تتجّه نحو مسار سياسي يشمل، من ضمن أمور أخرى، مبادرةً تكون ناجمة عن إدراك حان الوقت لاستبطانه مؤداه أن الشعب الفلسطيني لن يختفي، وأن “الطريقة المُثلى” للعيش بأمان هنا هي فقط من خلال الاعتراف بحقوقه ومطالبه المشروعة في الاستقلال، ناهيك عن أن ما حدث أعاد القضية الفلسطينية إلى مركز جدول الأعمال الإقليمي والدولي.

    لكن في هذه الأثناء توفي في إسرائيل البروفسور شلومو أفينيري، وهو من كبار أساتذة العلوم السياسية وشغل في الماضي منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وكان من أبرز الأصوات التي حذرّت من السياسة التي انتهجها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حيال القضية الفلسطينية خلال ولاياته الأخيرة كافة والتي بدأت في العام 2009 وذلك منذ خطابه الشهير المعروف باسم “خطاب بار إيلان 1” الذي ادعى فيه زوراً وبهتاناً أنه يؤيد “حل الدولتين” وبموازاة ذلك وضع شروطاً تفرغه من أي مضمون، وصولاً إلى الآن. وبناء على ذلك ارتأيت أن أعود إلى جوهر هذه التحذيرات التي جاءت في أحيان كثيرة على هامش الحروب والعمليات العسكرية التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة ابتداء من العام 2008، التي وصل عددها إذا ما أضفنا الحرب الحالية إليها، إلى عشرة حروب.    

    ولكي ننمذج على ما يؤكده أفينيري نستعيد ما جاء في مقال له نشره في صحيفة “هآرتس” (27 أيار 2021) عقب عملية “حارس الأسوار” العسكرية التي شنّها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة قبل أكثر من عامين، واستهله بالقول: الدرس الذي ينبغي أن نستخلصه من جولة القتال الأخيرة في قطاع غزة واضح ولا يقبل التأويل: انهيار المفهوم السياسي لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو فيما يخصّ الصراع مع الفلسطينيين.

    وبرأي أفينيري فإن أغلب التحليلات التي تتناول نتنياهو وسياسته تركّز ولا سيما في الأعوام الأخيرة (في إثر تقديمه إلى المحاكمة على خلفية شبهات بارتكاب مخالفات جنائية) على سعيه من أجل البقاء في سدّة الحُكم، ولا تلتفت بما فيه الكفاية إلى أن غايته غير منحصرة فقط في البقاء في الحكم بل أيضاً، وربما أساساً، في تحقيق حلم سياسي مُحدّد. فنتنياهو هو نصير “أرض إسرائيل الكاملة” والهدف الرئيس لسياسته هو منع إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. كما أن إجراءاته السياسية كافة تهدف بكل الطرق والوسائل إلى منع قيام أي مفاوضات جوهرية مع الجانب الفلسطيني، بالتوازي مع تعميق السيطرة الإسرائيلية الفعلية في مناطق الضفة الغربيّة، والتوسيع المستمر للاستيطان اليهودي فيها. وعلى الرغم من أقواله في خطاب بار إيلان التي لم يكرّرها، فإنه لن يتيح بأي شكل من الأشكال قيام دولة فلسطينية، بل وليس من المبالغة القول إنه موجود في سدّة الحُكم من أجل تحقيق هذا الهدف.

    ولدى تطرّق أفينيري إلى سياسة التطبيع مع دول عربيّة التي انتهجها نتنياهو بدعم من الولايات المتحدة من خلال الالتفاف على القضية الفلسطينية، أكد أن هذه السياسة قد تكون حققت إنجازات لا يجوز إنكارها لكنها توجد وهماً قاتلاً، فإسرائيل ليست في صراع مع البحرين أو المغرب وإنما مع الفلسطينيين، والعلاقات مع هؤلاء هي لبّ الصراع. ومن دون التوصل إلى تسوية إلى هذه الناحية أو تلك مع الفلسطينيين لن يحلّ السلام وستصل الأوضاع إلى حدّ الانفجار عاجلاً أم آجلاً.

    ويعلن أفينيري تأييده لحُكم كثيرين غيره والقائل إن المفهوم الذي يتبناه نتنياهو وبموجبه يمكن الوصول إلى سلام إقليمي من خلال تجاهل الفلسطينيين، باء بالفشل الذريع. وفي قراءته يمكن تشبيه الفشل الذي واجهه نتنياهو بالفشل الذي كان من نصيب كل من غولدا مئير وموشيه دايان اللذين سعيا للحفاظ على الوضع القائم في مقابل مصر وسورية بعد العام 1967 واستخفا بقدرات المصريين والسوريين التي انعكست بجلاء في حرب أكتوبر 1973.

    بطبيعة الحال ستكون لنا عودة أكثر تفصيلاً إلى المزيد من الأصوات الراهنة التي نحت المنحى نفسه، لكن في خضم الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، التي صاغ أحدها الرؤية الموعودة من هذه الحرب بأنها لا بُدّ من أن تنطوي على عدم الاستمرار في صبّ الإسمنت في داخل الأرض، وفي إنتاج مزيد من منظومات الليزر، بل السعي لوضعٍ قائم جديد، مستقر وحقيقي، ويتطلع إلى الحياة. وتكمن أول خطوة في سبيل امتلاك مثل هذه الرؤية في إعادة النظر في السياسة الإسرائيلية حيال القضية الفلسطينية التي لا تقترح أفقاً سياسياً وأملاً، إلى ناحية إبداء الاستعداد الحقيقي للتسوية في مختلف الموضوعات.

    عن المشهد الإسرائيلي- مدار/ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية

    About The Author

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *