أسوأ ما يمكن تصوّره الآن…!!
نواصل تحليل “حل الدولتين” كقناع لديمومة الاحتلال. ونبدأ بما يشبه ضربات سريعة وعريضة بالفرشاة. فمن الثابت أن طليعة المُعترضين على “الانقلاب القضائي” تمثل شرائح عليا، ووسطى، من الطبقة الوسطى إضافة إلى شرائح تمثل المُركّب الاقتصادي ـ العسكري في أعلى هرم الدولة والمجتمع.
ولكل هؤلاء امتدادات وصلات لا تحصى بالحقل الثقافي، المكان الأمثل لإنتاج وتسويق رأس المال الرمزي، ناهيك عن تقنيات وآليات التعبئة والتحريض (وسائل الإعلام الخاصة والعامة، منصّات التواصل الاجتماعي، جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، مختلف أنواع الفنون السمعية والبصرية، وما للشخصيات العامة من سلطة رمزية تصلح للاستثمار في الحملات السياسية).
والواقع أن الصحافة الإسرائيلية تزخر بالكثير مما يؤكد هذه الخلاصة: من طياري شركة العال الذين رفضوا قيادة الطائرة التي ستقل رئيس الوزراء نتنياهو إلى الولايات المتحدة، وقبلها إلى إيطاليا (وأغلب هؤلاء كانوا طيارين عسكريين على الأرجح) إضافة إلى تهديد جنود الاحتياط بالامتناع عن الالتحاق بوحداتهم العسكرية. وفوق هذا كله يدور كلام عن نقل كبار المستثمرين، وأصحاب الشركات الناشئة، خاصة في التكنولوجيا والصناعات ذات الصلة، أعمالهم وأموالهم إلى أوروبا والولايات المتحدة.
تفيد هذه الخلاصة في استقراء الملامح الاجتماعية، أو الخارطة الطبقية (إن شئت) للمعترضين على “الانقلاب القضائي”. ولعل في مجرّد الاحتجاج في الشارع منذ مطلع العام، وبزخم متجدد، ما يؤكد حقيقة أن هؤلاء قوّة جبارة مؤثرة وفاعلة فعلاً. ولو افترضنا، نظرياً، أن هؤلاء، وبما لديهم من أسباب القوّة والنفوذ قد تظاهروا ضد الاحتلال فمن المؤكد أن تكون النتيجة تقويضه وزعزعة أركانه. ولكن هذا لا يحدث لأن هؤلاء هم كبار المستثمرين فيه، وسدنته.
على أي حال، لا تحتمل مرافعة كهذه التبسيط، ولن يزعم أحد القدرة على تزويدها بما تستحق من شواهد واستدلالات منطقية في معالجة سريعة، أو دفعة واحدة. لذا، ومع هذا كله في البال، سنتناول فكرة واحدة من جوانب مختلفة، ونحاول النفاذ إلى منطقها الداخلي للتدليل على ما ذهبنا إليه.
تقول الحكمة الشائعة إن المعترضين على “الانقلاب القضائي” إنما يفعلون هذا فضحاً لما يرونه محاولة لتغيير هوية الدولة والمجتمع، ودفاعاً عن قيم الديمقراطية (التي سبق وقلنا إنها إثنية) والليبرالية، وما يتصل بهذه وتلك من بلاغة وحقوق وضمانات لا يكفلها القانون وحسب، بل ويُسيّج بها أسلوب حياتهم، أيضاً.
لا بأس. سبق وألمحنا إلى كون الصراع على روح وهوية الدولة والمجتمع، وإلى إدراك طرفيه للأمر، وأنشأنا علاقة دلالية مباشرة وسريعة للاستنتاج بأن الساعي إلى جعل الشريعة اليهودية (الهالاخاه) مصدراً لتعريف هوية الدولة والمجتمع، لن يجد صعوبة فعلية، ولن تعوزه الشواهد الدينية (التي اخترقت المتن في الحقل الديني، وتقترب منه بخطى حثيثة في الحقل السياسي) في جعلها مصدراً لتعريف الاحتلال كخلاص للأرض، والفلسطينيين كمقيمين غير شرعيين.
وأود العودة، هنا، إلى واقعة تستحق الذكر. أذكر في أواخر التسعينيات أنني سألت إسرائيل شاحاك، الذي كرّس كتاباً لنقد الديانة اليهودية (نقلته إلى العربية، أيضاً): لماذا يعارض يشعياهو ليبوفيتش الشريعة اليهودية، بل وحتى صلاة اليهود في حائط المبكى، رغم أنه يُعرّف نفسه كصهيوني متديّن؟ قال: إن ليبوفيتش يخشى على اليهودية من الدمار الذاتي إذا استعجلت الهيمنة على الدولة قبل نضجها، وامتلاكها لكل أسباب النجاح. (سبق وتلقّت لطمة عنيفة بعد دعوة شبتاي تسفي وفشلها المدوي في القرن السابع عشر).
بدا الجواب، حينها، مقطوع الصلة بالواقع، فأوسلو لم يكن قد تعثّر بعد. والمعسكر القومي ـ الديني، الذي تعززت مصادر قوته بعد حرب الانتفاضة الثانية، لم يكن بالصورة التي نراه عليها هذه الأيام. لذا، تبدو العودة الآن إلى جواب شاحاك، أكثر دلالة وصلة بالواقع. وبقدر ما أرى أعتقد أن الخوف من “الدمار الذاتي” يفسّر لماذا التحق بعض المتدينين، وحتى من المعسكر القومي ـ الديني بمعارضي “الانقلاب القضائي”. ولماذا يكثر الكلام عن، والتحذير من، الصراعات الداخلية التي فتكت باليهود واليهودية في أزمنة توراتية مضت.
سنجد كلاماً كثيراً هذه الأيام عن الصراعات التوراتية، ونزعة الانتحار الذاتي، التي جنح بعض المعلّقين الإسرائيليين إلى حد القول إنها في “الجينات”. ومع ذلك، نستطيع التفكير في جواب آخر، لا ينقض جوابين محتملين سابقين، بل يضيف إليهما. أعني: يُدرك معسكر الديمقراطيين العلمانيين (إن جازت التسمية) أن جعل الشريعة مصدراً لهوية الدولة والمجتمع لا يهدد أسلوب حياتهم وحسب، بل وبقاء الدولة، أيضاً.
فزيادة الجرعة الدينية، وتآكل السمات العلمانية والديمقراطية للدولة يعمّق الشرخ بينها وبين اليهود من مواطني الديمقراطيات الليبرالية في الغرب (الشرخ قائم، ولم يعد حجبه ممكناً). وهذا يعني نهاية وهم مفاده أن الدولة الإسرائيلية تمثل نهاية سعيدة للمسألة اليهودية، وخاتمة بطولية للتاريخ اليهودي نفسه. بيد أن الشرخ لا يقف عند هذا الحد. فالعلاقة بالغرب لن تصمد، بصورتها الحالية، مع وجود دولة يصنع المعسكر القومي – الديني هويتها وقوانينها وسياساتها.
هذا لا يعني انتظار نهاية تراجيدية سريعة للعلاقة (يحفل الشرق الأوسط بأنظمة أوتوقراطية أسوأ بكثير من دولة إسرائيلية محتملة من الفصيلة نفسها) بل يعني أن روافعها الأخلاقية والسياسية لن تبقى على حالها. وهذا ما لا ينبغي التقليل من مخاطره، وتداعياته الكارثية بالنسبة للإسرائيليين. فإسرائيل “كانت كتاباً قبل أن تكون دولة” كما في عبارة ذات دلالة لعاموس عوز. ولعل أسوأ ما يمكن تصوّره الآن، بالنسبة لآباء الدولة، وبناتها، أن يرى حلفاؤها التقليديون، والعالم، صورة بن غفير وسموتريتش على الغلاف.
عن الأيام