أحمد دحبور وحكاية الولد الفلسطيني..

في رحيل الصديق الشاعر أحمد دحبور أبو يسار

أعيد نشر المقال القديم الجديد الذي كتبته وهو على فراش المرض عن حكاية “الولد الفلسطيني ” هذااللقب الذي لازمه طويلا بتمرده وقلقه وشغفه وعين دهشته في حوار الموجودات

 

ربما ظلت صرخة محمود درويش” سجل أنا عربي” ملازمة له فترة طويلة أينما حل وارتحل، رغم تبرمه من إعادتها أمام جمهور أمسياته العربي، فهي كما قال:” وقفة تحد في وجه الاحتلال الصهيوني”، والتأكيد على الانتماء والهوية العربية للأرض والإنسان الفلسطيني، وبالتالي لا يضيف جديدا إعادتها بين أهلها أصحاب القضية لإثبات عروبيته، لكنها في الحالات جميعا كانت تعبر عن لحظة تأسيسية في الوجود كما في الكلام ،أمام عدو يسعى لاقتلاع الفلسطيني وطمس هويته – وشاء الشاعر أم أبى- أضحت تلك الصرخة أمثولة للرفض العربي في الأذهان التي عاشت مرارة النكبة ووحشية الغازي المحتل وغطرسته ، ومحاولته الدائمة لطمس معالم هوية أصحاب الأرض الحقيقيين وانكار وجودهم واحتثاث انتمائهم .

وفي هذا السياق تأتي مجموعة الشاعر أحمد دحبور المعنونة بـ “حكاية الولد الفلسطيني ” لتحيلنا إلى لحظة خاصة وتأسيسية أيضا في التجربة الشعرية فالقصيدة كتبت مع انطلاق المقاومة الفلسطينية الصادرة عام 1969 لتحفر علامتها في المشهد الشعري الفلسطيني، وهذه العلامة وسمت تجربة دحبور وأشارت بوضوح لخصوصية صوته بعد مجموعته الأولى الضواري وعيون الأطفال (1964) التي كتبها يوم كان عمره ثمانية عشر عاما، وهي مجموعة حسب قوله: “تتنطع لهموم أكبر بكثير من الفتى الذي كتبها، وأكبر من وعيه ايضا”

وبدت المضاعفات الفنية والتشكيلية للشاعر خليل حاوي واضحة التأثير في بنائها حسب بعض النقاد ، لذلك حفرت حكاية الولد الفلسطيني في مساره وبلورت دخول التجربة هاجس الخصوصية في التشكيل من بابه الواسع ، وقد تلبسته تماما هذه الحكاية حتى لقبه الكثير من اصدقائه “بالولد الفلسطيني” الذي “يقول شعرا ويقاتل” ويجيب ردا على سؤال وحيد تاجا في صحيفة الوطن حول تسمية “الولد الفلسطيني” .. ووصف الشاعر لنفسه في مجموعة “هكذا” بـ”الولد الأَشْيَب” ؟

“كنت قد أصدرت مجموعتي الأولى “الضواري وعيون الأطفال” وأنا في الثامنة عشرة من عمري، أما فكرة “الولد” فقد نشأت من انتباهي إلى أنني تجاوزت مرحلة الطفولة، ولكنني كنت أصغر من أن أكون رجلاً، فاهتديت إلى صيغة الولد بما تعنيه من مغامرة بريئة ورشاقة في الحركة والاستجابة، وكنت ـ ربما بتأثير والدتي ـ أشعر أن الولد لا يزال حاضراً في روحي حتى بعد أن غزاني الشيب المبكر الموروث، والطريف أن بعض أصدقاء الطفولة ظلوا ينادونني بـ”الولد الفلسطيني” حتى أصبح اللقب جزءاً من اسمي وبعض شخصيتي الشعرية.”

وظل الشاعر مطالبا بإلقاء القصيدة التي حملت المجموعة اسمها في العديد من الأمسيات حتى بعد سنوات على صدورها بالاسم ذاته مع الاختلاف طبعا في زوايا التلقي والمسببات،ما يؤكد ما ذهبنا إليه، إذ الذاكرة الفلسطينية ما زالت وقتها حاضرة ومحتشدة بصور المقاومة وضرورة التحدي والمواجهة رغم ما آلت إليه الحال لاحقا في معارك “أيلول الأسود ” وخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن على إثرها ، بما يعنيه ذلك من خسارة فادحة للعمل الفدائي في فقدانه لساحة رئيسية بالمواجهة مع العدو، فالجموعة حفلت بكل قيم البطولة والثورة والإصرار على المقاومة،رغم كل إشكال القمع والتشرد والتصفية في مخيمات البؤس، وجور الأعداء و”الأعدقاء”معا.

“فدحبور” المولود في حيفا عام 1946والتي غادرها مع أهله وهو ابن عامين وهجر مع من هجروا وشردوا من الفلسطينيين ليترعرع ويتعلم في مخيم حمص للاجئين الفلسطينيين في مدينة حمص بعد أن هاجرت عائلته إلى لبنان عام 1948 ثم إلى سورية. “ولم يتلق الشاعر تعليما أساسيا كافياً لكنه كان قارئاً نهماً وتواقاً للمعرفة “.

فأبصر منذ بواكير شعره معاناة شعبه ومعنى كفاحه، فكان ” الضواري وعيون الأطفال ” بمثابة العتبة لإعلان موهبة شعرية فلسطينية متمردة على واقعها، و متمكنة من أدواتها، بغض النظر عن تداخل صوت الشاعر مع اصوات أخرى وهي مسألة طبيعية في بدايات الشاعر لكنها بذات الوقت حملت لغة شعرية مغايرة للمعجم الشعري الوافر آنذاك وأعلنت ميلاد موهبة شعرية مفارقة بحساسيتها الابداعية، إذ لم يمض وقت كثير حتى قدم مطالعته الشعرية الخاصة به في” حكاية الولد الفلسطيني “مجموعته الثانية كما قلنا و التي كانت انحيازا وطنيا واضحا مع الثورة وانتصارا لقيمها ورفض كل اشكال الخنوع والاستسلام:

“/ لأن الورد لا يجرح

قتلت الورد

لأن الهمس لا يفضح

سأعجن كل أسراري بلحم الرعد”.

إذن لم يعد هناك مكان للتهاون والترف والرومانسيات التي لا تعيد وطنا ولا تطعم جائعا، وعلى الكلمة أن تكون مدوية ومعجونة بالرعد، إنها سيرة الفلسطيني في كل مخيمات الشتات وليس سيرة الشاعر وحسب ،وهذا الصوت الجماعي المتكلم باسم الفرد كان الحامل لأغلب الشعر الفلسطيني وثوب تراجيديته المتواصلة:

“/ أنا الولد الفلسطيني

أنا الولد المطل على سهول القش والطين

خبرت غبارها ، ودوارها ، والسهد

وفي المرآة أضحكني خيال رجالنا في المهد

وأبكاني الدم المهدور في غير الميادين

تحارب خيلنا في السند

ووقت الشاي نحكي عن فلسطين

ويوم عجزت أن أفرح

كبرت، وغيرت لي وجهها الأشياء”

يحيلنا الشعر هنا بنبرته العالية آنذاك و وغنائيته الجارحة إلى الدعوات وقتها بالكتابة بالدم لفلسطين وأن الكلمة مثل الرصاصة والحاجة لاعلاء صوت فلسطين في العالم ووعي معنى الرسالة ودور الشاعر في خدمة قضايا شعبه وأمته ،وهذا التحول الثوري شكل قطيعة مع حالة الانكسار والكآبة والحنين العاطفي التي تلبست الشعر العربي عموما بعد هزيمة العام 1967، فوعي القضية وأبعاد المؤامرة على الشعب الفلسطيني غيرت الشعر رؤية ودورا ورسالة ،

“/ تساقطت الجراح ، على الربابة ، فانبرَت تَصْدَحْ

بلاد الله ضيقةٌ على الفقراء

بلاد الله واسعةٌ وقد تطفح

بقافلة من التجار والأوغاد والأوباء

أيأمر سيدي فنكب أهل الجوع والأعباء؟

أتقذفهم ؟ ومن يبقى ليخدمننا ؟

إذن تصفح

ويوم كَبرْتُ لم أصفح

حلفت بنومة الشهداء، بالجرح المشعشع فيَ : لن أصفح.

صحيح أن الأسئلة الجمالية هنا تلقي بظلالها عن طبيعة الشعر وعلاقته بالحدث السياسي، ولغته المفترضة، وكيفية التوازن بين متطلبات الشعر الفنية ورغيات محبي الشعر وهذه الاشكالية في العلاقة مع المتلقي ظلت تلقي بظلال اسئلتها على الشعر الفلسطيني فمع اختلاف اسلوبية الشاعر في مجموعاته اللاحقة من حيث التشكيل الشعري طبعا وليس الدور والمعنى ، وتغير نظرته للعلاقة بين الشعر والقارئ والتواصل بينهما تبعا لتطور تجربته ودخولها معترك التجريب مع مجموعته المسماة “واحد وعشرون بحرا” (1980)

وخاصة الانشغال بالأوزان والايقاعات ومساحة الكتابة والمحو في التشكيل إن صحت العبارة ويرى دحبور بأن:

“الشعر شعر والهذر هذر، أما من هو الذي يقرر هذا أو ذاك، فهو مجمل العملية الثقافية بتراكماتها وتجاربها وتحولاتها، وبالعودة إلى “توليد الأوزان الخاصة” أخشى أن يكون هذا سبقاً لا أدعيه، إذ أنني مخلص لتجربتي العروضية، وأجتهد في تقديم صوتي الخاص من خلال هذه التجربة أو غيرها، ولكن دعني أعترف بأنني منذ البدايات شغفت بالمغامرة الإيقاعية حتى أنني أصدرت مجموعة بعنوان “واحد وعشرون بحراً”، مع أن البحور المعروفة تاريخياً هي ستة عشر، ولم أتوقف عند تلك المجموعة فأنا أحاول باستمرار حتى لو كنت لا أدري إلى أين سأصل في هذه الطريق، أما مزج الأجناس الأدبية فهو أمر يؤخذ بحذر شديد، لأن الأجناس الأدبية تفيد من بعضها مع الاحتفاظ بهوية الشعر، لهذا قد تراني أفيد من السرد أو الحوار شبه المسرحي أو المقاطع الشعرية المتعاقبة، ولكنني فيما أجرب وأغامر، أظل مشدوداً إلى حبل السرة الشعري، لأنني عندما أخرج عن الشعر ـ لا سمح الله ـ أكون قد ارتكبت جناية أشبه باغتيال المشروع الشعري، دعني أحاول، فالحياة سلسلة محاولات، ولكنني ممتثل في النهاية لقانون الجمال الذي يجعل من الشعر شعراً، وإلا فإنني أهرف بما لا أعرف”.

لكن ما هو الشكل الشعري الأنسب للشاعر وما هي معاييره فيجيب :

” القصيدة هي التي تملي شكلها على الشاعر، صحيح أن هناك نواظم مشتركة في كل تجربة شعرية، ولكنك ترى داخل هذا المشترك عددا من الأواصر والملامح المتشابهة، بدليل أننا قد نعرف الشاعر قائل هذه القصيدة، أو تلك، من خطابه الشعري العام، وفي تجربتي المتواضعة أرى نزعة غنائية، وقدراً من الترابط العضوي بين عناصر القصيدة الواحدة، فضلاً عن أني مشبع بالتراث الذي قد تطل مفرداته من بين ثنايا قصيدتي الحديثة، ثم إن هناك ظاهرة، سبق أن أطلق عليها لوركا اسم الروح المبدع، وهي تلك الملامح المشتركة بين قصائد شاعر معين حتى لتتشكل هذه الملامح بمجملها، طيف الشاعر أو شخصيته الفنية.”

فسخونة الجرح في النكبة استدعى سخونة في المواجهة

أيأمر سيدي فنكب أهل الجوع والأعباء ؟؟

أتقذفهم ؟ ومن يبقى ليخدمنا ؟

إذن تصفح

ويوم كبرت لم أصفح”

فالشعر هنا يرتبط بظرف موضوعي محدد يجعل من الشعر سلاحا في المعركة، وعلى صورة الضحية أن تتغير وتتمرد وتدافع عن وجودها وتشهر جرحها وتقاتل بكل ما تملك من وسائل،وعلى المخيمات أن تعلن انفجارها :

“/ سنرفع جرحنا وطناً ونسكنه

سنلغم دمعنا بالصبر بالبارود نشحنه

ولسنا نرهب التاريخ ، لكنا نكونه

جياع نحن

طاب الفتح ، إن الجوع يفتنه

جياع نحن؟ ماذا يخسر الفقراء؟

نعم ماذا يخسر الفقراء؟ بهذا السؤال الذي يشير إلى وعي طبقي ووطني بآن يقود الشاعر اسئلته عبر غنائية عالية وعذبة إلى إجابة حقيقية هي إجابة الثورة بالتأكيد:

“/ أنا العربي الفلسطيني

أقول ، وقد بدلت لساني العاري بلحم الرعد

ألا لا يجهلن أحد علينا بعد

حرقنا منذ هل الضوء ثوب المهد

وألقمنا وحوش الغاب مما تنبت الصحرا رجالا لحمهم مر

ورملا عاصف الأنواء

ولما ليلة جنت أضاء الوجد

وقد تعوي الثعالب وهي تدهن سمها بالشهد

صغار عظمهم هش بدون كساء

أيحتملون برد الليل ؟ هل نصر بهم يحرز ؟

أجل ونهارنا العربي مفتوح على الدنيا على الشرفاء

أجل… ويضيء هذا النصر في الطرقات والأحياء

لأن الكف سوف تلاطم المخرز

ولن تعجز”.

…وتتصاعد ملحمة التحدي بتشكيل شعري يؤكد المعنى قبل توكيده على أي شيء آخر، فالهزيمة ليست قدرا وخسارة جولة لا تعني خسارة المعركة فالعودة قادمة لأنها قائمة دائما وأبدا في وجدان الفلسطيني مهما طالت الأيام :”/

وعموما هذه اضاءة ليس إلا لقصيدة من عيون الشعر “الفلسطيني المقاوم” لصوت شعري ظل مع اصوات قليلة أخرى منتصب القامة في المشهد الشعري العربي بعامة والفلسطيني منه بشكل خاص.

من أعماله:

عمل محررا في وكالة وفا ومديراً لتحرير مجلة “لوتس” حتى عام 1988 ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية , وعضو اتحاد الكتّأب والصحفيين الفلسطينيين, حاز على جائزة توفيق زياد في الشعر عام 1998. كتب العديد من أشعار فرقة أغاني العاشقين. من مؤلفاته: الضواري وعيون الأطفال – شعر- حمص 1964. حكاية الولد الفلسطيني – شعر- بيروت 1971. طائر الوحدات – شعر- بيروت 1973. بغير هذا جئت – شعر – بيروت 1977. اختلاط الليل والنهار- شعر- بيروت 1979. واحد وعشرون بحراً- شعر – بيروت 1981. شهادة بالأصابع الخمس – شعر- بيروت 1983. ديوان أحمد دحبور- شعر – بيروت 1983. الكسور العشرية – شعر. عرض أقل

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *