أبو مازن يكتب … منتقدا ياسر عرفات؟ (1-3)
هذا المقال جزء من ثلاثة تتناول أفكارا ونصوصا وردت في كتاب محمود عباس، او بالأحرى د. محمود عباس كما هو مكتوب على غلاف الكتاب، وعنوانه “من أوسلو الى فلسطين” الصادر عن دار الشروق (في عمان)، 2020. المقالات الثلاثة هي عملياً اقتباسات موسعة من الكتاب حول ثلاثة موضوعات ملفته: نقده عرفات، نقده السلطة الفلسطينية، مدحه لنفسه، وسوف اترك الاقتباسات تتحدث عن ذاتها وأقدم الحد الأدنى من التعليق. الشيء المُذهل في النقد الذي نقرأه عن عرفات بقلم عباس انطباقه بالتمام والكمال على عباس نفسه عندما اصبح رئيسا للسلطة، والأمر ذاته في نقده للسلطة عندما كان عرفات رئيسها. كيف يستطيع عباس تبديل موقعه فيكون الناقد الجذري لعرفات والسلطة، ثم يقوم بأضعاف ما انتقده من سياسات وسلوكيات في عرفات وفي السلطة ومن دون أن يحس بالتناقض الكبير؟ حاولتُ ان تكون الاقتباسات مُكتملة وموضوعية، وفي الغالب انقل الفقرة كاملة، حتى لا يُقال أن المقال يتصيد كلمة هنا او جملة هناك، وان مقولات عباس مجتزأة من سياقها، وارفقتُ مع كل اقتباس رقم الصفحة التي ورد فيها للعودة إليها لمن يريد الاستزادة.
ملاحظة ابتدائية ومهمة تستوجب الإشارة وهي ان الكتاب تغيب عنه مُقدمة تشرح سياق النشر (الحديث) لنصوص قديمة نسبيا هي خليط يؤرخ فيه أبو مازن لإتفاق أوسلو، ويضيف تأملاته وتحليلاته بشأن الاتفاق ومضمونه والمواقف منه، وكذلك آليات تطبيقه وعثراته خلال السنوات الثلاث او الأربع الأولى، وهناك أيضا مداخلات تاريخية حول تطور القضية الفلسطينية ووقفات مطولة عند تأسيس حركة فتح ومنظمة التحرير. صدور هذا الكتاب سنة 2020 قد يدفع للاعتقاد بأنه يغطي كل الفترة التي سبقت تاريخ النشر، وهذا ليس حاله. والأهم من ذلك، ان الدفاع المُتوقع عن مواقف وانتقادات أبو مازن التي وردت في الكتاب، سوف يعتمد على فكرة ان مضمون الكتاب قديم وما فيه من انتقادات كُتب ربما في أواخر تسعينيات القرن الماضي ويجب ان يُنظر له في سياقه الزمني. وهذه نقطة صحيحة مئة بالمئة، ولكن ما ينقضها هو قرار إعادة نشرها حديثا من دون أي مقدمة توضيحية، بما يعني موافقة المؤلف على المضامين كما وردت ومن دون ايراد أي هوامش تفسيرية او توضيحية.
فردية عرفات
في معظم الإشارات عن عرفات نلمح حنق أبو مازن على ما يسميه النزعة الفردية في أسلوب عرفات القيادي. ويقول (في صفحة 127) “لا يختلف اثنان بأن عرفات رجل فردي وينزع إلى التسلط، على الرغم من تظاهره بالإيمان بالمؤسسات التي يتعاطى معها بمقدار ما تخدم أهدافه. نعرف هذا عنه وأكثر من هذا، ومع ذلك فنحن نقبل به لأنه يملك صفات أخرى لا يتمتع بها أحد من إخوانه، وكان متابعا لا شغل له إلا العمل المستمر الذي يُحسد فيه على صبره وجلده. وتكرست مسألة التفرد بشكل واضح بعد توقيع الاتفاق في واشنطن وبدأت تظهر عليه علامات الضيق من زملائه، وبخاصة أولئك الذين صنعوا اتفاق أوسلو، ويستعين بعناصر أخرى هامشية في تسيير الأمور بشكل عام، والقضايا الاقتصادية بشكل خاص. وأثار تعامله مع هؤلاء مجموعة كبيرة من إشارات الاستفهام، والتساؤلات الصريحة، وأحيانا الإتهام. ولم تعد نصائحنا تفيد او تنفع”. الإدهاش في هذا النص يكمن في انطباقه تماما على أبو مازن الحالي وفي نمط سياسته وترؤسه السلطة وتبرمه الدائم من معارضيه كما ينقل المقربون منه بتواتر. في الصفحة التالية 128 يتابع تحليله عرفات وتقييم سياسته فيقول “إن على عرفات مهام جديدة تفرض عليه تغيير نهجه الذي لم يعد صالحا لمهام هذه الأيام، فهو لم يدرك قيمة الوقت الذي كان يذهب هدراً. بل راح منتشيا بما حقق وكسب، يقفز من عاصمة إلى أخرى. ويطرح الوعود والتعهدات جزافا، واضعا نفسه في مآزق قد تنجم عن عدم قدرته على الوفاء بما وعد وتعهد به. عليه ان يكون حذرا حكيما في ما يعدُ ويقول ويقرر. لقد اخذته بهجة الظهور أمام وسائل الاعلام، ولم يغير عادته في الطيران من مكان إلى آخر، مع ان الوقت وقت عمل وجد. وإضاعة الوقت تضيع صاحب الوقت.”
عرفات والديموقراطية
يقول أبو مازن (في صفحة 128) ” كثيرا ما رفع عرفات الديموقراطية كشعار وتفاخر في كثير من المواقف بديموقراطية البنادق. ولكن كان يدير اللعبة الديموقراطية بأسلوب غير ديموقراطي، يعتمد على التكتلات وإثارة النفوس … لا يمكن ان يكون هناك شعب او مجموعة ما في الدنيا على موقف واحد. ولم يفهم عرفات ذلك أو لعله لا يريد ذلك، بل كان يسعى لوحدة وطنية كاملة شاملة، وهي مستحيلة … ويكفي في ذلك الأغلبية التي تستطيع السيطرة على الأقلية. إن عليه أن يعرف ذلك في هذه الأيام، وأن يعتمد أسلوب الأكثرية على الشعب الفلسطيني في أرضه. وعلى التيارات الفلسطينية المختلفة ان تعمل في إطار عملية السلام كقاسم مشترك لها”.
عرفات وإدارة المال
يتحدث أبو مازن (في صفحة 129) عن إصرار عرفات على الحصول على الأموال من الدول المانحة حتى قبل وصوله إلى فلسطين “كان عرفات يصر على الحصول على الأموال نقدا قبل دخوله (غزة واريحا)، إلا أن الدول المانحة كانت ترفض أن تقدم له الأموال إلا من أجل المشاريع. وكانت لي نظرية أخرى، وهي أنه ومهما كانت الظروف فعليه أن يدخل الوطن. … كان عرفات يقدم الذرائع والأسباب غير المقنعة، فعندما تُدحض حجته حول المساعدات ونقص الأموال، يتحدث عن إنشغال وسائل الإعلام، مرة بمناسبة مرور خمسين عاما على “النورماندي”، ومرة بسبب “المونديال” في أمريكا. وهذه أسباب واهية، وعندما يُسقط في يده يضطر إلى التجاوب …”. وحول ذات الشأن ينتقد أبو مازن (في صفحة 153) فوضى وفساد سلطة الحكم الذاتي في سنتها الأولى ويشير إلى انحدار شعبية عرفات بسبب ذلك، ويكتب “لقد أصبح من سمات الحكم الذاتي الفوضى وانحسار التأييد الشعبي وسطوة الشرطة. لقد نسفت عشرات المقابلات والمقالات الصحفية وعمليات استطلاع الرأي وسبر الآراء شعبية عرفات، نتيجة للإخفاقات والتعثرات … وهكذا أصبح عرفات هو المصدر الأساسي والفعلي للصرف. ومهما بلغت عبقرية الرجل، فإنه غير قادر على متابعة هذا العمل الكبير وملاحقة أبواب الصرف المتعددة. وإلى جانب ذلك، كان يقوم مع عدد من الأشخاص من غير ذوي الكفاءة والنزاهة باستثمارات متعددة، حيث كانت الخسارة رائد هذه الاستثمارات. … لعل إحدى مشكلاتنا الذاتية كانت تتمثل في عدم وجود العقل المؤسساتي الذي يبني المؤسسة التي تحتاج لعملها ونموه قليلا من الخبرة وكثيرا من المتابعة … لقد افتقدنا كثيرا من أصول المحاسبة والمتابعة والضبط والربط في عملنا. وبالتالي فتح المجال لسيادة الفردية والعفوية والاستزلام والانتفاع والتنفيع.” ويتابع (في صفحة 160) قائلاً “… فلطالما أغدق عرفات على أناس، وصرف مبالغ لأناس آخرين، حتى وصل الأمر بالصرف الكيفي إلى حد أفسد الضمائر وزاد الأحقاد، وترك آلاف الدولارات بين أيدي نفر قليل من الأشخاص بدت واضحة في حياتهم من خلال مظاهر يومية مترفة وفي أرصدة مخفية، وفي عقارات ومتاجر ومؤسسات ناطقة. وعلى الرغم من المظاهر الجماعية التي بدت في فيها حركة الثورة الفلسطينية ضمن مؤسساتها ومشاريعها، فإن تكريس الفردية ظل سائداً طوال المسيرة.”
لا حاجة لمزيد من التعليق حول هذه التقييمات التي يوردها أبو مازن عن عرفات، ولا نحتاج لجهد تأملي خارق كي نرى كاتب هذه النصوص وكأنه يتحدث فعليا وعمليا عن نفسه وسياساته الراهنة.
2 thoughts on “أبو مازن يكتب … منتقدا ياسر عرفات؟ (1-3)”